هل جاءت لحظة الحقيقة؟

منذ استيلائهم على الحكم في العام ١٩٨٩، رفع الإخوان المسلمون السَّيف والسَّوط في وجه الشعب السوداني بغرض إخضاعه.

الباقر العفيف

 

 

بقلم : الباقر العفيف 

 

* الإخوان المسلمون وخصائص فيروس ال برِيْيُون المُسَبِّب لمرض جُنون البَقر

* لم يتركوا للشعب فضاءً لم تَطَهُ أقدامُهم حتى دخلوا على النَّاس غرف نومهم

* التٍّرياق الذي حمانا منهم كل هذه العقود هو هذه الروحانية الضاربة جذورها في عمق التاريخ.

* كيف سيجيب البشير على السؤال الوجودي الذي يواجهه الآن؟ 

 

الخلفية 

 

منذ استيلائهم على الحكم في العام ١٩٨٩، رفع الإخوان المسلمون السَّيف والسَّوط في وجه الشعب السوداني بغرض إخضاعه. اعتمدوا على شريعة الغاب وقانون القُوَّة بدلا عن الشرعية المُسْتَمدَّة من قبول الشعب وقُوَّة القانون. فاتَّسَم عهدُهم بالظُّلم والقَهر، والتَّمييز، وهضْم الحقوق.  شنُّوا الحروب الدينية والعرقية ضد الآخر المختلف في جنوب البلاد وغربها سعيا لمحو التَّنوُّع الثقافي الذي تذخر به بلادنا ويعطيها شخصيتها المتفردة بين الدُّول. شَنُّوا الحرب ضد المكون الروحي للشعب ومزاجه الديني السَّمح، المعتدل، المنفتح على الآخر، وبذروا بذور التطرف والعنف وتعهدوها بالرعاية والعناية حتى رََبَتْ وأثمَرَت هوسا وعنفا ودماء. وبعد ما يقارب الثلاثين عاما من حكمهم انفصل الجنوب، وسادت الفوضى دارفور، وتطالب أقسام معتبرة من شعب جبال النوبة بتقرير المصير. انهارت البيئة والخدمات العامة من صحة وتعليم. عمَّ الفقر واستشرى الفساد. انتشرت الأوبئةُ والأمراض كالسُّل والكوليرا والسَّرطانات بعد أن تحوَّلت بلادُنا إلى مدفن نفايات العالم.

 

شُمُوليَّة لا ضَريبَ لها 

 

إن شمولية الإخوان المسلمين لا شبيه لها في العالم ربما إلا شمولية طالبان وداعش. فمعروف عن الشموليات، سواء كانت يمينية أو يسارية، أنها تستولى على الفضاء العام، وتحتكر المشهد السياسي، فلا تسمح بمنافسة حقيقية على الحكم، ولكنها إلى حد كبير تترك الفضاء الاجتماعي والخاص حرا، فلا تتطفل على حياة الناس الاجتماعية والشخصية، ولا تدس أنفها في خصوصياتهم وعاداتهم وتقاليدهم في الأفراح والأتراح. أما الإنقاذ فلم تترك للشعب فضاء لم تَطَهُ قدماها حتى دخلت للناس في غرف نومهم. ففرضت على المجتمع زي نسائه وكيفية إدارة حفلاته، ومواعيد نومه وصحوه. فالإخوان المسلمون لا يكتفون باحتكار السلطة والثروة فحسب بل يريدون الاستيلاء على روح الشعب وسلب شخصيته وهويته حتى يعود مَسخا من ذاته وظِلَاّ من نفسه. والهدف النهائي للإخوان المسلمين هو أن يحيلوا الشعب إلى نسخة شائهة منهم. وحينها يكتمل مشروعهم باستعبادنا إلى الأبد.

 

Prionفيروس (البرِيْيُون)    

 

أفكار الإخوان المسلمين أَشْبَهُ شيئاً بفيروس البرِيْيُون – Prion المسبب لمرض جنون البقر. وهو نوع غريب من البروتين يشبه الفيروس وليس بفيروس، لأنه ليس حَيَّاً، لذلك لا يمكن قتله بالمضادات المناعية الطبيعية التي يفرزها الجسم، ولا بالمضادات الحيوية التي يصفها الطبيب. ولأنه أصلا ميِّتٌ، فهو لا يتكاثر بالانقسام شأن الخلايا الحيّة. ولذلك له طريقة فريدة في التكاثر وهو أن يُحِيْلَ محيطه، أي مخ البقرة، إلى نسخة مثله، فيصبح المخ المصاب شبيها بقطعة الإسفنج المُثَقَّبَة، فتموت البقرة في النهاية. ولكنها قبل أن تموت تظهر عليها التشوهات وعلامات الجنون، فتخبط خبط عشواء، تقوم وتقع، وتصاب بالصرع.

أوجه الشبه بين هذا البروتين العجيب والإخوان المسلمين بَيِّنة. فهم داءٌ أصاب الشعب السوداني وانغرز في جسمه بِلَيْلٍ. وهم، كالبرِيْيُون تماما، جسم غريب على الشعب، لا يتعايشون معه، لأنهم لا يؤمنون بمفهوم عِشْ ودَعِ الآخرين يَعِيشُون live and let live. بل يسعون سعيا حثيثا لأن يحيلوه إلى نسخة منهم. وهم، بعد كل سنوات التَّمكين الطِوال، أصابوه بكل أنواع التشوهات والأمراض العضوية والنفسية مما يقابل أعراض البرِيْيُون عند البقر. وهم سوف يَفْتِكُوا بالبلاد والعباد في النهاية إذا اكتمل مشروعُهم، لا قدَْر الله، ووصل نهاياته المنطقية. والفتكُ نوعان: حِسِّيٌ ومعنويٌ. وقد بدأ الفتك الحسي بانفصال جنوب البلاد في العام ٢٠١١، والآن تنتشر عدوى الانفصال في بقية المناطق المُهَمَّشة، وتزداد قوة كلما طال أمدهم في الحكم. فإن لم نُقْضِ عليهم فسوف يَقْضُون علينا، وسوف تََتَفكَْك الدولة ويختفي السودان من الخريطة الجغرافية. ليس في ذلك أدنى مبالغة. أما الفتكُ المعنويُْ فسوف يحدث إذا اكتمل مشروعُهم، كما أشرنا، وحوَْلوا الشعب إلى نسخة شائهة منهم. وهذا أمر غير مستبعد تماما، فقد حدث شيء شبيه به في تاريخ الحجاز بعد انتصار الوهابية.

 

العقبة التي تواجههم 

 

ولعل من أكبر العقبات التي تقف في طريق اكتمال مشروعِهم هي ما أطلَق عليها الأستاذ محمود محمد طه تعبير “أصائل الطباع السودانية” المستمدة من التَّصوُّف الإسلامي. والتَّصوُّف هو دين الشّعب الأصيل الذي تمتد جذوره لأكثر من ستمائة عام. والإسلام في صيغته الصوفية هذه عندما أتى للبلاد لم يجد فراغا روحيا، بل وجد إرثا روحيا مسيحيا يمتد لحوالي الألف عام. صحيح أن الديانة المسيحية كانت في حالة اضمحلال وتلاشي، بيد أن الجذر الروحاني كان حيا. والمسيحية نفسها عندما دخلت بلادنا وجدت إرثا روحيا أقدم منها، يضرب جذوره في الديانات التوحيدية والتعددية التي تَعبَّد بها الناسُ على ضفتي النيل لآلاف السنين. فالتصوف، إذن، كان تتويجا لروحانية جذورها ضاربة في أعماق التاريخ يستحيل اجتثاثها. أما دين الإخوان المسلمين فهو الدين الدّخيل المغترب عن نفسية الشعب وهويته الروحية. وهو دين تمتد جذوره القريبة للربع الأول من القرن العشرين مع ظهور الشيخ حسن البنا في العام ١٩٢٨. أما جذوره البعيدة فتتمثل في المدرسة الفقهية التي دخلت البلاد مع الغزو التركي في العام ١٨٢١. وهكذا نرى أن التٍّرياق الذي حمانا منهم كل هذه العقود التي أمسكوا فيها بخناقنا هو هذه الروحانية الضاربة جذورها في عمق التاريخ.

 

ومع ذلك 

 

ولكن مع ذلك، فقد حققوا بعض النجاحات الأولية في نَشْر تديُّنِهم “الشكلاني” أو المظهري، وبعض سلوكهم وخطابهم، فالنّاس “على دين ملوكهم” كما تجري العبارة. تَسَرَّبَتْ طرائِقُهم وأساليبُهم ولغتُهم للشعب. وبنظرة عابرة نجدهم قد حققوا الآتي:

أولا، نشروا ثقافة الهوس والعنف وضيق الأفق والصدر في قطاعات من الشعب. عَمِلُوا على تَغيِير طبيعة الشَّعب المسالمة عن طريق الترويج للجِّهاد وتدريب الشباب عسكريا وحشدهم لحرب الجنوب التي صوروها كجهاد ديني ضد الكُفَّار. غَيَّرُوا مناهج التعليم وجعلوه تعليماً دينياً يحمل أفكارهم ومصادرها السلفية واستخدموه كوسيلة لغسل عقول التلاميذ والطلاب. احتكروا وسائل الإعلام من تلفزيون وراديو وصحافة، ومكَّنوا منسوبيهم وحلفائِهم من تملُّكِها فصارت تَبُثُّ رسائلهم المتطرفة ليل نهار.

أكثروا من بناء المساجد التي يُسَيطِرُون عليها هم وحلفاؤهم الوهابية، واستخدموها كمنصات إعلامية لترويج أفكارهم وغيرها من الأفكار السلفية المتخلفة. بَثُّوا الصلوات والدروس الدينية من مكبرات الصوت القوية لِتَقْتَحِم على الناس بُيوتَهم، وتقلق راحتهم. وهم بذلك آذوا الناس، عندما دخلوا بيوتهم بغير إذن، ولَوَْثوا أجوائهم العائلية، وحرموهم التواصل الأُسَرِي، ولم يراعوا مريضا أو كبيرا. كما أنهم آذوا الإسلام نفسه، الذي يدعو لإماطة الأذى عن الطريق، ووَسَمُوه بالجَّلافَة ومُجَافَاة التَّمَدْيُن والبُعد عن الإنسانية. مَكَّنُوا أنفُسَهم وحلفاءهم الوهابيَّة من الفضاء العام يتحركون فيه بكامل الحرية والحماية فاقتحموا الأسواق والحدائق ومختلف تجمعات الناس ينشُرون الأفكار الظَّلامية المتطرِّفة، حتى أصبحت البلد مستنقعا طفحت فيه الطحالب “النجوم” من خُطَباء التَّخلف أمثال مزمل فقيري، وعبد الحي يوسف، ومحمد الجزولي ومحمد عبد الكريم. كما أصبح شخص جلف، يُدْعَى حسب الرسول، عضوا برلمانيا ونجما إعلاميا تصفه أجهزة الإعلام “بالمثير للجدل” في ابتذال للتعبير ذاته الذي يوصف به أمثال الدكتور منصور خالد.

ثانيا، فَرَضُوا زِيِّ نسائِهم على نسائِنا. هذا الزِّيِّ، المُسَمَّى زورا بالحجاب، مستوردٌ من الحركة الأم في مصر. وهم فَرَضُوه علينا بقوة الدولة على حساب الثوب السوداني الذي حاربوه محاربة الضَّرَّة. كذلك ساعدوا في الترويج لكافة الأزياء الغريبة عن تراثنا وهويتنا في الزِّيِّ، مثل العِبَاية السعودية والإيرانية. الآن أصبح زِيُّهم هو الغالب، تلبسُه النِّساء والفتيات بمختلف خلفياتهن، بما في ذلك كثير من الناشطات الواعيات سياسيا. كما أصبح مشهد النِّساء المُتَلَفِّعات بالعِباية السَّوداء مشهدا مألوفا في شوارع المدن السودانية، رغم قبحه، وعدم مواءمته لملامحنا وألْوانِنا وشَمْسِنا الحارقة.

ثالثا، رَوَّجُوا لتَعدُّد الزوجات حتى شهدنا حالة شاب تزوَّج من فتاتين في يوم واحد. وبطبيعة الحال، تعدَُّّد الزَّوجات كان موجودا في البلاد ولم يُدخِلْهُ الإخوان المسلمون، ولكنهم ابتذلوه، وحَوَّروا مرماه وهدفه الاجتماعي الذي كان يخدمه. فهو كان عادة منحسرة وفي طريقها للانقراض الطبيعي، خاصة في شمال ووسط البلاد، إلى أن جاءوا وأَحيَوْها حتى وصلنا الدَّرَك الذي تتغنى فيه الصبايا بأغاني من شاكلة “راجل المرة حلو حلاة”. فَقَبْل مَجِيئهم، كان يُمََارَس في كثير من الأحيان وكأنه “وصفة” اجتماعية لجيل آبائنا ممن يُصَابُون “بأزمة منتصف العمر”، middle age crisis . هؤلاء الرجال يكونون متزوجين من بنات عُمُومَتِهم، أو بنات خُؤُولَتِهم، بحكم التَّقاليد، وفق ثقافة “غَطِّي قدحك”. وبعد نحو عشرين عاما، عندما يستشعرون بداية غروب عهد شبابهم، يرغبون في الحصول على زوجة شابة، من الجِّيل الذي يليهم، يختارونها بكامل حريتهم. في مثل هذه الزيجات تكون هناك “المَرَة الكبيرة” و”المَرَة الصغيرة”. تصبح للأولى الكلمة والسلطة على شؤون الأسرة، وللصغيرة النصيب الأوفر من الزَّوج.

أما التّعدُْد عند الإخوان المسلمين فأمرٌ مُختَلِفٌ جدَّا. هم يجمعون النساء لإشباع شهواتهم بنفس الشَّراهة والشَّهوانية التي يجمعون بها المال الحرام. يتزوجون في أزمان متقاربة من شابات أعمارهن متقاربة. وقد قرأتُ لأحد قياداتهم استشهادا بعبارة “مِنْ سَدُر لسَدُر لِلقَبُر”. أي أن ينتقل من صَدْرِ امرأة لِصَدْر أخرى دون توقف إلى أن يصل القبر. ولهذا فالزواج المعروف وحده لم يُشّبِع شَهَوَاتِهم فمارسوا “الزواج العرفي” الذي لم يَعرفه شعبُنا قبلهم. وهذا على التَّحقيق ليس زواجاً، بل زِناً صُراحاً، حلَّلوه مثلما حلَّلوا سرقة المال العام بحيلة “التَّحلُّل”.

رابعا، سرَّبوا طريقتهم في افتتاح الكلام بالبَسْمَلة والصَّلاة على النَّبي في صيغتها المُطَوَّلة المُفَخَّمة الاستعراضية. إن شعب السودان المعجون من طينة التَّصَوُّف محبٌّ للنَّبي بالطبيعة والسَّليقة، ومُصَلٍّ عليه حقا وصدقا. ولا يحتاج للإخوان المسلمين ليُعلِّمُوه الصلاة على نبيِّهم. فشعبُنا أقرب إليه منهم. وشعبُنا يعلم أن الصلاة على النبي في حقيقتها ليست بالكلام الكذوب وإنما بالتَّخلُّق بأخلاقه الشَّريفة. وأخلاقُه الرَّحمة والزُّهد والتَّواضع. وأخلاق الإخوان المسلمين عكس ذلك تماما، القُسوة والفظاظة والشَّراهة والاستِعْلاء في الأرض. وهم حين يتلمَّظُون الصَّلاة على النَّبي إنما يَتَمَظهرون بها نفاقاً ومتاجرة رخيصة بالدين. هم يستخدمونها في خطابهم كأداة تمكين (empowerment) للإخلال بميزان القُوَى بينهم وبين المخاطَبِين، وإحراز نُقطة لصالحهم قبل بداية الحديث، وتجريدهم من حق الاعتراض. وبكل أسَف انْطَلَت هذه الحيلة على الكثيرين فَوَقَعُوا في الفخِّ المنصوب لهم. أنت الآن تسمعها من المتعلمين والعامة، رجالا ونساء، شيبا وشبابا دون أن يُدركوا هذه التفاريق. وبنفس الطريقة فرضوا طريقتهم في الهتاف بالتكبير ورفع السبابة والعصا، فتبعهم في ذلك الكثيرون.

خامسا، تسرَّبت مُفردات خطابهم مثل “نَفْرَة” بدل نَفِيْر، و”أَحْسَب” بدل أفتكر وأظن وأعتقد، واحتساب” بدل “نعي أليم”، و”جزاك الله خيرا” بدل شكرا جزيلا، و “كتَّر خيرك”. وغيرها من مفرداتهم.

 

التشوهات النفسية 

 

يبدو أننا الآن وبعد ما يقارب الثلاثة عقود من الإصابة بفيروس الإخوان المسلمين دخلنا مرحلة الإصابة بالتشوهات المجتمعية: التشوهات التي تصيب الفقراء، والتشوهات التي تصيب المترفين. وتشوهات الفقر تتمثل في التعايش مع الذُّل وانعدام الحقوق ونقص الكرامة، والاضطرار للنفاق والكذب وكافة مثالب الأخلاق من أجل الحصول على لقمة العيش. وكلنا نذكر أول عهدهم عندما بدأ الناس ينافقونهم بتربية اللّحَى التي أطلقوا عليها الأسماء من شاكلة “دعوني أعيش”، و “من أجل أبنائي”. وكذلك صناعة الزبيبة على الجباه، وصلاة الموظفين وراء مدراء المصالح، لكيما ينالوا رضاءهم، ويحافظوا على رزق عيالهم، لا لينالوا رضاء الله.  هذه التَّشوهات وصلت درجة انتشار الرذيلة وبيع الجنس من أجل المال داخل وخارج السودان، كما معلوم للجميع.  إن القضية المشهورة للطبيبة وشقيقتها التي أوقفت المحكمة النشر فيها إنما تمثل فقط قمة جبل الجليد، والجزء المغمور هو الأكبر.

أما تشوُّهات المُترَفِين من طبقة الحكام وفُُسُوقُهم، فقد سُقنا فيه أمثلة فيما سبق من أسطر، ولكن يكفي هنا الإشارة للقضية المذكورة أعلاه لأن طرفيها هما محورا الفقر والتَّرَف. فالمُتْرَفُون يصنعون الفقر ويدفعون الفقراء إلى جوف الجوع الكافر، وليس مع الجوع كرامة، ثم يستغلونهم. ويبدو أن الذين وجهوا سِهامَهم على الطَّبيبة التي استخدمت شقيقتَها العذراء قد فاتهم أنهما ضحيَّة الظُّروف التي صنعها الإسلاميُّون المُترَفُون، وكذلك لم يتمعَْنوا القول المأثور “كاد الفقر أن يكون كفرا”، وما ذلك إلا لأنه يحمل الفقير على “التذلل للأغنياء بما يدنس به عرضه ويَثْلُم به دِينَه”، على حسب قول الأوائل. ولذلك استعاذ النبي الكريم من “الفقر والكفر” معا. ليت الذين حصبوا الفتاتين بالحجارة طرحوا على أنفسهم التساؤل الذي طرحه سفيان الثَّوري على نفسه حينما قال “والله ما أدري ماذا يقع مني لو ابتليت ببلية من فقر أو مرض، فلعلي أكفر ولا أشعر”. والكفر أكبر من الزنى. قال النبي “قد يَزْنَي المؤمن”. أي أنه يبقى مؤمنا. والله يقول “إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” (النساء ١١٦). ولو كان فينا عدل عمر بن الخطاب لأقام الحد على الحاكم.

 

العهود المظلمة السودانية 

 

وعلى كل حال، نحن نعيش عهد الإخوان المسلمين. وهو عهد انحطاط وظلام يشبه ظلام العصور الوسطى التي عاشتها أوروبا منذ القرن الرابع وحتى القرن الرابع عشر. يَتَمَثَّلُ عَهْدُ الانحطاط هذا في غياب العقل، وسيادة الهمجية الدينية. اختطاف الإله ذاته والتحدث نيابة عنه وارتكاب الجرائم باسمه. إثارة الحروب العبثية، وإفساد الذِّمم، وإفساد الذوق، وإفساد الأخلاق. وما فضائح دبلوماسيي الإنقاذ ببعيدة عننا. فكأنهم المعنيين بقوله تعالى “إذا أَرِدنا أن نُهْلِكَ قَرْيَة أمَرْنا مُتْرفِيْها فَفَسَقُوا فيها فحَقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تَدْمِيرا” (الإسراء ١٦).

 

المقاومة 

 

فيما سبق من أسطر قلنا إن الإخوان المسلمين عبارة عن فيروس يشبه فيروس البرِِيْيُون الذي يسبب جنون البقر. وبطبيعة الحال فإن هناك فرق أساسي بين الوسط أو المحيط الذي يعمل فيه كلا الفيروسين. فالبرِِيْيُون المسبب لجنون البقر لا يواجه أي مقاومة، لأن المخ المُصَاب لا يَفرِز مضادات المقاومة الذاتية، وذلك نسبة لخدعة الفيروس “الميت” الذي لا يتكاثر بالانقسام. ونسبة لانعدام المقاومة، ليس أمام البقرة سوى انتظار موتها المحتوم.

أما في حالة فيروس الإخوان المسلمين فالمحيط المصاب مختلف جدا. إنه الشعب الحي المدرك لخطورة الإصابة، والذي ظل يُقاوم فيروسهم منذ لحظة الإصابة في ذلك اليوم المشؤوم من يونيو ١٩٨٩.

قاوم الشعب هذا الفيروس الماحق وهذا الداء العضال، واستخدم كافة أشكال المقاومة المسلحة والسلمية. وهو ما يزال يقاوم. لم يتوقف نضالُه، ولم تفتر إرادتُه، ولم يَفَلُّ عزمُه. ولكنه لم يجد بعد الصيغة الفعالة التي تهزُّ سلطة الهوس الديني هزّا يجعلها تجثو على ركبتيها. هو يقترب من تلك الصيغة ببطء، ولكن بثقة.

واجهت الحكومة الاحتجاجات السِّلمية في كل مرة بالسِّلاح والقتل. وبلغت قِمَّة وُلُوغِها في الدِّماء أثناء انتفاضة سبتمبر ٢٠١٣ حيث تجاوز قتلاها المئتين من النِّساء والرِّجال والشَّباب والأطفال.

طوَّر الشعب آلياته واستخدم سلاح العصيان المدني، عن طريق البقاء في البيوت، في نوفمبر وديسمبر ٢٠١٦. حقق العصيان نجاحا كبيرا أطار صواب الحكومة، وعزّز ثقة الشعب في نفسه، وفي قدرته على تحقيق وحدة في الهدف ووحدة في الشعور يمكن أن تُفضي به إلى التحرِّر من ربقة الاستبداد والاستعباد، إذا ما نجح في تطوير أدواته، وبنى على نجاحاته، وسدَّد رَمْيَه، وتجاوز نقاط ضعفه.

 

ميزانية ٢٠١٨ ولحظة الحقيقة 

 

استمرت المقاومة بكافة أشكالها وبدأت تستجمع عنفوانها، وتستحصد قوة دفعها، في حين تمضي الحكومة نحو الهاوية مغمضة العينيين. إلى أن أتت بميزانية ٢٠١٨ التي صارت القشة التي ستقصم ظهرها؟  الآن حلت لحظة الحقيقة التي كانت تظن الحكومة أنها لن تأتي أبدا. وصلت الإنقاذ نهاية طريقها، واصطدم رأسها بالحائط، وطفقت تحدق في الهاوية، بعد أن فرغ جرابها من جميع حيل الحواة، وألاعيب السحرة. فرئيسها الذي يقف الآن عاريا أمام الشعب، ينظر لبنيانه الذي أقامه على شَفَا جُرُفٍ هارٍ وهو يتصدع أمامه، يطالع مشهدا شبيها بالمشهد الذي واجهه طارق بن زياد: “العدو أمامكم والبحر من خلفكم”. مع الفارق طبعا، فالبحر الذي خلف البشير هو الشعب المائج بالغضب. والعدو الذي أمامه هو نفسُه التي بين جنبيه، وبطانته، ومليشياتِه وأجهزة أمنه، ودفاعه الشعبي، وأهله وعشيرته المفسدين، واللصوص من كيزان “رفقاء صلاة الفجر” وجيوش المنتفعين من رشاواه أمثال حميدتي ورهطه. فماذا هو فاعل وقد توقفت المطابع من ضخ العملات لهم؟ فهؤلاء سرعان ما ينفضون من حوله طالما انقطع ماله. فهل يقتحم العدو الذي أمامه؟ أم يواجه البحر المائج خلفه وقد حرق مراكبه؟ هذا هو السؤال الوجودي الذي واجهه قبله صدام، وبن علي، ومبارك، والقذافي، وصالح. فكيف سيجيب عليه البشير بعد أن كان في غفلة عنه ولسان حاله يقول إني ما ظننت “أني ملاقٍ حسابية”؟

لو كان الرجل عاقلا وقادرا، أي أنه يملك مفاتيح السلطة جميعا في يده، وليس مجرد أسير لبطانته، لتوقعناه أن يواجه العدو الذي أمامه، أي نفسَه وبطانتِه، وذلك بأن يُعلِن فشله، وأن يحلَّ حكومته، وأن يُعيد السلطة المسلوبة سلميا لشعبه. فهل هو مؤهل لذلك؟ بالتأكيد لا. لماذا؟

لأن “السلطة مفسدة. والسلطة المطلقة مفسدة بشكل مطلق”. وعندما تجتمع السلطة المطلقة مع تواضع القدرات، وقلة العقل، وضعف الثقافة، وانعدام الصقل الذي يأتي عن طريق الاطلاع المكثف والتربية المنهجية على القيم الإنسانية الرفيعة، مع طول المكوث في السلطة، فإن النتيجة تكون الفرعنة التي نشاهدها في البشير الآن. إن المشهد المضحك المبكي لقميص ميسي، و”البردلوبة” الحبشية الحمراء التي ظل يرفل فيها البشير في أديس، وعاد بها للبلاد، لهي التجسيد الحي لقصة “الفرعون وقلة عقله” التي قرأناها في كتب المطالعة في المدارس الابتدائية. وهو ما يثبت أن الرجل يعيش داخل الفقاعة التي نسجتها حوله بطانته التي تأمره بالشر وتَحُضّه عليه، وأنه معزول تماما عن العالم الحقيقي. كما أنه أصبح أثير خطابه “اللّدِيح”،”المتنبر”، المتحدِّي والمُستَفِز للشعب، من عينة “الزارعنا غير الله اليجي يقلعنا”. والسلطة دي جبناها بالبندقية والعايزها يجي يشيلها بالبندقية”. وغيرها من التصريحات الغبية التي تدل على صغر عقله، والتي سوف تقطع عليه طريق التصالح مع شعبه. لذلك فالأرجح أنه سوف يسير في طريق القذافي وصدام وصالح، ما لم تنقلب عليه بطانته.