التضخم سياسة متعمدة !

يسأل السودانيون أنفسهم هذه الأيام ما الذي حصل ليستيقظوا من النوم ليجدوا الأحباش متزاحمين للقفز إلى بلادهم من سفينتنا التي يبدو أنها تغرق. كنا عما قليل بخير

.

 

بقلم : محمد سيد أرباب

 

■ يسأل السودانيون أنفسهم هذه الأيام ما الذي حصل ليستيقظوا من النوم ليجدوا الأحباش متزاحمين للقفز إلى بلادهم من سفينتنا التي يبدو أنها تغرق. كنا عما قليل بخير. ما الذي حدث فجأة لنجد أنفسنا نسقط في الهاوية لا ينفعنا صراخ المسؤلين وأطقمهم الاقتصادية بأن كل شيء بخير. لم يعد الوضع قابلا للانكار. واصبحت حقن التخدير بالتصريحات غير مهدئة لمواطن يذوب مرتبه تحت وطء الأسعار وترفض البنوك أن تسلمه شيئا مما ادخره وائتمنها إياه. 

■ هذا المقال كتب ليشرح للانسان العادي ما حدث وكيف وصلنا الى هذا الحال. ما هي المشكلة وأين هو الحل بعيدا عن الحذلقة بالمصطلحات والرطانة الاجنبية لاخفاء الخواء والحيرة..

■ نبدا من البدايه .. مشكله الاقتصاد السوداني أن الاستيراد اكثر من التصدير . بحسب ارقام  عام 2015 السودان يصدر ما قيمته ثلاثه مليارات دولار ويستورد ما قيمته تسعه مليارات دولار ما يعني اننا نستورد ثلاثه اضعاف ما نصدر. وهذا ما يسمى "اختلال الميزان التجاري". اختلال الميزان التجاري يعني ان الدولارات الخارجة اكثر من الداخله لان الاستيراد هو دفع دولارات للخارج واستلام بضائع لادخالها الى البلد و التصدير هو بيع بضائع الى الخارج واستلام عائداتها دولارات وادخالها الى البلد وهذا يعني ان مخزون البلد من الدولار متناقص باستمرار و لا يوجد حل جذري لهذه المشكله الا بالانتاج و زياده التصدير. 
■ و يعلم الجميع ان السودان بلد غني بموارده الزراعيه و المعدنيه  و الحيوانيه و البشريه و العلميه فلماذا لا يوجد انتاج؟ .. و السبب ببساطه هو كثره الضرائب و الجبايات التي تتسبب في ارتفاع تكلفه الانتاج مما يؤدي الى عدم القدره على منافسه الاسعار العالميه. و اذا لم تستطع بيع البضاعه فلا يمكن الانتاج. و اذا لم يكن هناك انتاج فلا توجد وظائف و هو ما يسمى العطاله. ويمكن لاي مواطن سوداني ان يلاحظ ان هناك الكثير من السلع المستورده ارخص من الانتاج المحلي رغم انها قد دفعت ضرائب في بلادها اضافه الى تكلفه النقل و الشحن و الجمارك. و هو ما يعني ان الضرائب و الجبايات في بلادنا وصلت الى مراحل قياسيه لا يحسب فيها المسؤولون في وزاره الماليه وديوان الضرائب اثر هذه الجبايات على قيمه الانتاج و تعطيل الاعمال.

■ ان الخطة المعروفة لكل مغترب سوداني في المهجر هو ان يتزوج ويبني بيتا و يشتري سياره ويعود بمستحقات نهايه خدمته لينشئ  بها استثمارا يعيش منه في بلاده. ولو تمكن من ذلك لوفر الوظائف للاخرين و لزاد الانتاج و التصدير. وانما يعيقه من ذلك انه لم يعد احد في بلادي يستطيع ان يحسب في دراسة الجدوى قيمة الضرائب والجبايات ولا عدد الجهات التي تأخذها. حتى اصبحت دراسه الجدوى الشائعه هي ان تنتظر الاخرين ليقيموا المشروع و تنظر هل سيربحون ام يخسرون. وشاع عند العامه ان السودانيين يقلدون كل مشروع ناجح. و الحقيقه انه لا توجد طريقه لدراسه الجدوى في بلادنا الا هذه.
واصبح شائعا أن تغلق كل يوم المزيد من المصانع بسبب رهق الضرائب المتزايد ولا يؤلم ذلك أحدا من المسئولين. ولا نطمع أن يستقيل منهم أحد بسبب أن انتاج البلاد من الحديد والنحاس ومحالج القطن وغيرها من الصناعات قد توقفت تماما.
و الخلاصة انه لا انتاج ولا تصدير ولا دولارات.

■ هنا ينتهي دور وزاره الماليه في افساد الاقتصاد وتدمير الانتاج وتضييع جهود العاملين ليبدأ دور البنك المركزي في التدمير.

■ يطبع البنك المركزي النقود لتغطية عجز ميزانية الحكومة ذات الانفاق المتزايد على الاجهزة النظامية لتغطية فشل السياسيين.

والحقيقة أن طباعة العملة سرقة لكل الناس. وذلك ان الحكومة اذا طبعت مثلا عملة تساوي العملة الموجودة في السوق فان قيمة العملة تنقص الى النصف. ويكون كل مواطن قد خسر نصف مرتبه وادخاراته التي يظن أنه قد أحكم عليها باب خزنته. وهذا النصف المفقود قد أخذه من طبع النقود وهي الحكومة وانفقته. وطبعا هذه السرقة لها اسماء جميلة مثل "استراتيجية التمويل التضخمي" و "التوسع في عرض النقود" و "استراتيجية الادخار الاجباري" والمهم أن لا يفهم الناس أنهم يسرقون.
نقص قيمة العملة الناتج من الطباعة هذا يسمى "التضخم". حيث يشعر كل مواطن أن دخله يتآكل ومدخراته تذوب أمام ما يظنه ارتفاع الاسعار. والاسعار في مكانها لو حسبها بالعملة الاجنبية او بالذهب. وانما ذابت قيمة العملة التي بيده. وأكلت الحكومة الفرق.

إن من الآثار المباشرة للتضخم إعاقة الانتاج. اذ أنه يجعل جهد كل الناس الذين نشاهدهم كل يوم يتدافعون الى العمل في الصباح ويعودون قريبا من المغرب مثل الطاحونة التي تطحن الهواء. أعني أنهم يعملون ويتعبون ولكن بلا طائل ولا انتاج ولا عائد مفيد. اذ ما الفائدة في الكد والعمل في الزراعة اذا كان التضخم سيأكل الربح قبل أن ينضج الحصاد. وما فائدة العمل في المصنع اذا كنت ستحسب قيمة الانتاج لتجدها اقل من رأس المال بسبب التضخم. وما فائدة تجارة يأكل التضخم أرباحها..
نعم يا سادة.. التضخم يجعل جهد الجميع طحن هواء. وتعبير ( "التضخم" أكل الربح ) تعبير مجازي نعني به الحكومة. لانها هي التي طبعت النقود واكلت فرق القيمة الذي ضاع من العملة واشترت به ما تريد.
إن المعروف أكاديميا أن البلدان التي ترتفع فيها نسبة التضخم تعاني نقصا شديدا في الحاجات الأساسية بينما يزدهر قطاع الخدمات والكماليات. والسبب أن الانتاج يحتاج انفاقا كبيرا على تأسيس بنيته من آلات وعقارات ومصروفات ادارية حتى يؤتي أكله بعد حين وتعود أرباحه بالتدريج بعد وقت طويل. وهو ما سيأكله التضخم ذو الوتيرة السريعة. وأما قطاع الخدمات والكماليات المستوردة فهو ذو عائد سريع يمكنه ان يتعايش مع وتيرة التضخم.
إن كلمة التضخم تعني مزيدا من الاعاقة للانتاج اضافة الى اعاقة الضرائب والجبايات. وهي أيضا تعني تناقص قيمة العملة مقاسة الى غيرها من العملات الاجنبية كالدولار الذي فيه اصلا قلة في العرض يؤدي الى ارتفاع السعر بسبب اختلال الميزان التجاري كما وضحناه في اول المقال.

وبما أن موظفي بنكنا المركزي النجباء يرفضون الاعتراف بالتضخم الذي ظهر في البلد بما كسبت ايديهم من الطباعة حتى وصلت قيمة الدولار الى بضع وثلاثين جنيها وهم يصرون على ستة جنيهات. فان النتيجة الطبيعة أن الدولارات القليلة التي تدخل البلد لن تدخل الى النظام المصرفي. لانه بطبيعة الحال فإن المواطن مهما بلغ من الحماقة فلن يكون لدرجة ان يضع دولاراته في البنك. وبالتالي عندما يأتي المستوردون حاملين العملة التي انتجها بنك السودان اليه مطالبين بتبديلها دولارات لكي يستوردوا بها فإن البنك المركزي سيعجز أن يوفيهم البدل بالسعر الذي يزعم انه قيمة الدولار. والحقيقة أنه لا يملك الدولارات اصلا ليبدل بها الجنيهات لاجل التصدير. فيقول اذهبوا الى السوق الاسود لتبديلها وشروطنا لنعطيك الدولار ان تكون وان تكون. "اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون". 
وهنا ننتهي من حكاية أكل أموال الناس بالباطل بالاحتيال ليبدأ أكلها علنا بالقوة ..
– "أي مغترب قادم نفتش جيوبه في المطار ونأخذ الدولارات ونضعها في البنك بالقوة ونحاسبه بسعرنا" وذلك طبعا خدمة "للوطن والاقتصاد القومي"!
– "أي مصدر عايز يبيع سلعته في الخارج يجيب الدولارات يسلمنا ليها وقبل التصدير حتى! عشان نضمن حصيلة الصادر من الدولارات تدخل البنك بسعرنا".! وطبعا هذه خسارة اضافية على المنتج الذي يريد التصدير فوق خسائر التضخم والضرائب والجبايات. وتذكروا أن المشكلة الأصلية هي اعاقة الصادر. لكن ما نفعل مع نجابة موظفي بنكنا المركزي.
– "ممنوع تهريب الذهب". "بنك السودان قرر يحتكر شراء وتصدير الذهب". هذا هو حلهم العبقري. ودعونا نقف معه قليلا ..

■ ما يسمى "التهريب" يقصد به تصدير الذهب دون دفع عوائد وجبايات الدولة. ونحن لا نشجع "التهريب" بالطبع. ولكن الذي يهمنا هو اثره على موضوع الصادر و"سعر الدولار " أو "نسبة التضخم". المعدن الذي يهرب الذهب ويبيعه في الخارج (في دبي غالبا) يقبض ثمن الذهب دولارات. ويعود بها محبورا الى بلده ليشتري بها منزلا وسيارة وعقارات وحاجيات. والمهم انه سينفقها داخل البلد. والنتيجة انه سيتسبب من حيث قصد مصلحته الخاصة في وفرة الدولار في السوق. واذا توفر الدولار انخفضت قيمته. وبتعبير آخر ارتفعت قيمة الجنيه. ولكن بنكنا المركزي الهمام ما كان ليسمح بهذا. لقد قرر احتكار شراء الذهب. وكلمة احتكار يفهم منها القاصي والداني ان السعر ليس تنافسيا ولا يشبه السعر العالمي. ناهيك عن التقييم باعتبار سعر الدولار الرسمي ما يعني خسارة المنتج ما يقرب من 66% من قيمة الذهب بحساب فرق 6 جنيه من 18 ناهيك عن 22 او 36. وطبعا لا خيار امام المعدن الا التهريب عبر المخارج الوعرة او رشوة العاملين بالموانئ والمطارات. وما يهمنا في هذا هو من اين يأتي بنك السودان بالمال الذي يشتري به الذهب؟ هل للبنك المركزي مصادر ايرادات؟ والجواب هو بالطباعة. نعم يا سادة. طباعة العملة. 
والاصل ان طباعة العملة – على حسب النظرية الغربية – لا تتسبب بالتضخم اذا كانت مقابل الانتاج الزائد. وهو ما يسمى النمو. وهو عادة نسبة قليلة اقل من عشرة في المئة. ولكن عندما يصل التضخم الى 122% كما في الشهر السابق عندها نعلم ان هذه هي نسبة النقود الجديدة المطبوعة. 
وبالعودة الى الموضوع فان موظفي بنكنا المركزي الهمام قرروا ان كل الذهب المنتج هو زيادة في النمو ولذلك يمكننا ان نطبع ما يكفي لشراء كل انتاج الذهب دون تضخم. والحقيقة ان انتاج وتعدين الذهب يحتاج لرؤوس اموال تخرج عادة من الزراعة والقطاعات الانتاجية الاخرى وتحول للتعدين. وتصرف هذه على عمليات الحفر والنقل والطحن والغربلة والاستخلاص وغيرها من النفقات. وكل هذا يسدد من سعر الذهب المستخلص النهائي. أي ان النمو هو فقط مقدار الربح في انتاج الذهب. وليس كل الكمية المنتجة المتضمنة في داخلها رأس المال الذي هو تكلفة الانتاج. ولذلك فان العملة التي يطبعها البنك المركزي ويشتري بها كل الذهب تتسبب في التضخم الشديد. وماذا يفعل المركزي بالذهب الذي يشتريه؟ يصدره ويشتري دولارات يضعها عنده. وهذه الدولارات لا تتسبب بانخفاض قيمة الدولار او ارتفاع قيمة الجنيه كما تفعل الدولارات التي يحضرها المهربون. لماذا؟ لان كل دولار احضره البنك المركزي احضره في مقابل جنيهات جديدة مطبوعة. فتطغى نسبة التضخم على الارتفاع المفترض لقيمة الجنيه نتيجة وفرة دولارات جديدة. ولماذا يفعل البنك المركزي هذا ولا يترك المعدنين ليبيعوا للمصدرين والاجانب في سوق علني للذهب بالدولار وهو ما يسمى البورصة التي يطالب بها كثيرون ومنهم وزارة المعادن وبذلك يدخل الدولار دون ضرر. لكن بنك السودان يعيق قيامها. لماذا؟ لانه يريد الدولارات في خزانته وليذهب الاقتصاد والناس الى الجحيم! ويمكننا إلقاء اللوم على تجار العملة "الارهابيين" .. "بتاعين غسيل الاموال" .. 

طيب! الآن التضخم متصاعد. والجمارك ما معقولة. والناس تطحن في الهواء ولا انتاج وهو جذر المشكلة. والاسعار متصاعدة بسبب التضخم وزيادة الجمارك والضرائب  في الميزانية الجديدة. والدولار شحيح. والمغتربين لن يحضروه معهم. وانما سيسلمونه للتجار بالخارج. والحبش هربوا! ما هو الحل؟

اكاديميا اذا كنت الحكومة وطبعت نقودا زائدة واشتريت بها عليك منع الناس من الشراء بنقودهم. لماذا؟ لأن الناس يعرفون النقود الزائدة المطبوعة "التضخم" نتيجة لان الاموال المتداولة تزيد في السوق بسبب الطباعة وهو ما يعني المزيد من الشراء. أي الطلب على السلع. والانتاج طبعا في مكانه لم يزد بسبب الطباعة. يعني نفس العرض لطلب متزايد. فتزيد الأسعار ويظهر اثر التضخم.
طيب كيف نمنع الناس من الشراء باموالهم بعد ان افلتت الحكومة بجريمتها واشترت بما طبعته؟ تعمل أحد ثلاثة أشياء: الاولى تزيد الضرائب وهو ما يقلل القدرة الشرائية للجمهور. والثانية تبيع سندات حكومية للجمهور فتنتقل العملة الى يد الحكومة وتنقص في السوق. والثالثة ترفع نسبة اموال الاحتياط التي يجبر البنك المركزي البنوك على وضعها عنده. مما يقلل النقود التي عند البنوك فتعجز عن تمويل المشروعات والاستثمارات الجديدة وهو ما يعني انقاص نسبة شراء ادوات الانتاج.
اما بنكنا المركزي فقد تفتق ذهنه عن وضع يده على اموال المودعين في البنوك ومنعهم من الاستفادة من مدخراتهم لاجل تجفيف السوق من النقود الزائدة جدا نتيجة الاسراف في الطباعة.
وهذا بالطبع سيخفض سعر الدولار مؤقتا. لكنه يتسبب بكارثة أكبر من موضوع ندرة الدولار وسعره..

تعلم البنوك من التجربة المتراكمة أن مجموع المودعين لديها لا يسحبون نسبة أكثر من 5% من اجمالي ودائعهم. ولهذا تستفيد من بقية الاموال في تمويل المستثمرين بالمرابحات والمشاركات. ويظن الناس ان امواهم في البنك. والحقيقة انها ليست في البنك. و البنك قادر على توفير كامل مدخرات اي عميل له اذا ارادها ولكن ليس كل العملاء في وقت واحد.
الآن يكتظ الناس في فروع البنوك والصرافات الآلية لمحاولة سحب بعض مدخراتهم دون جدوى. فاين اختفت اموال الطباعة التي تسببت في التضخم؟ كيف اختفت في يوم واحد؟! واضح ان البنك المركزي اخفاها.
والخطورة هنا ان يفقد الناس الثقة في المصارف ولا يودعوا فيها اموالهم ويكتفون كلهم بطلب سحب الاموال. هنا تنهار البنوك تماما كما حدث في اليونان حيث وقف الناس صفوفا امام الصرافات الالية ومباني البنوك. 
واذا انهارت البنوك ضاعت مدخرات كل من يضع امواله فيها. المصانع والمزارعون والشركات وصاحب البقالة. ستستيقظ من نومك لتذهب الى البقالة فلا تجد فيها بضاعة. لان صاحبها فقد رأس ماله. وتذهب الى العمل فتجدهم قد استغنوا عن خدماتك. لان مؤسستك افلست. وربنا يستر!

"إن التضخم ليس كارثة طبيعية وانما سياسة متعمدة" كما هو مقرر في كتب اكابر الاقتصاديين العلمية.