السودان في الصحافة العالمية : الفاشر تحولت لسجن كبير ، وكردفان ميدان ( إبادة) قادم
طفل يجلس بجوار موقد للطهي في طويلة بعد فرار عائلته من الفاشر.: UNICEF/Mohammed Jamal
أمستردام : 23 ديسمبر 2025: راديو دبنقا
حين تسقط المدن، لا تنهار الجدران وحدها، بل تسقط معها كل معاني الإنسانية لتترك وراءها أخدودا من الوجع، ولعل أحدث تجليات هذا المشهد ما يحدث في إقليم دارفور ، وتحديدا في مدينة الفاشر حيث تمتد مأساة الحرب الدائرة هناك من أزقتها التي تنزف دما إلى رمال تشاد القاحلة.
وفي تقرير مدعم بالصور في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، أجرى المراسل إيفور بريكيت مقابلات مع عشرات اللاجئين خلال أسبوعين من العمل الميداني في مخيمي “الطينة” و”كارياري” في شرق تشاد، بالقرب من الحدود مع السودان.
تقول الصحيفة إن مأساة مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، تجسد فصلا مرعبا من فصول الحرب السودانية التي شردت أكثر من 12 مليون إنسان.
إبادة ممنهجة
فعقب حصار خانق دام 18 شهرا، تحولت المدينة في أكتوبر الماضي إلى مسرح لعمليات إبادة ممنهجة على يد قوات الدعم السريع، بحسب تقرير نيويورك تايمز.
وتشير الصحيفة إلى أن التقارير الواردة من مخيمات اللاجئين في تشاد ترسم صورة لمدينة تحولت إلى سجن كبير، حيث القتل العشوائي، وعمليات الاغتصاب الواسعة، والإعدامات الميدانية الموثقة.
ويظهر مقطع فيديو مروع تأكدت صحيفة نيويورك تايمز من صحته، أحد مقاتلي قوات الدعم السريع وهو يعدم ناجيا من العنف بينما كان يتوسل له.
وتقدر وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة أن 100 ألف شخص فروا من الفاشر منذ انهيارها، مما يترك أكثر من 150 ألف شخص في عداد المفقودين.
التقارير الواردة من مخيمات اللاجئين في تشاد ترسم صورة للفاشر كمدينة تحولت إلى سجن كبير، حيث القتل العشوائي، وعمليات الاغتصاب الواسعة، والإعدامات الميدانية الموثقة
شهادات قاسية
ووفق الصحيفة، فإنه لا أحد يعرف الحصيلة الحقيقية للمجزرة، ولا تزال المدينة مغلقة أمام العالم الخارجي، على الرغم من أن بعض المساعدات بدأت تصل إلى أجزاء أخرى من دارفور.
وفي قلب هذه المأساة، تبرز قصص الناجين كشهادات حية على الجحيم الذي وجدوا أنفسهم يصطلون بناره. ومن بين هؤلاء امرأة تُدعى مناهل إسحق (35 عاما)، ذكرت أن المقاتلين “سيسألونك سؤالا واحدا فقط: هل أنت مع الحكومة أم مع قوات الدعم السريع؟”.
قبل أيام من سقوط الفاشر، أرسلت مناهل ابنها البالغ من العمر 14 عاما للبحث عن بعض الطعام. قالت والدموع تنهمر من عينيها، إن ابنها “لم يستطع التحدث أو قول أي شيء. كانت أحشاؤه خارج جسده وعظامه محطمة”. ثم ولّت وجهها شطر الحدود وهي تحمل في أحشائها جنينا كُتبت له الحياة وسط رصاص القناصة.
روت مناهل قصة هروبها من الفاشر ورحلتها التي استغرقت شهرا إلى مخيم أوري كاسوني. وبينما كانت تجلس خارج المستشفى المتهالك والمغبرّ في المخيم، قالت إن شقيقها قُتل أثناء فرار العائلة، وإنها أصيبت برصاص قناص في ظهرها.
رعب
أما المراهق مصطفى (16 عاما)، فقد قال إنه و4 من أقرانه فكروا في مغادرة الفاشر، بعدما رأى 4 أفراد من عائلة جاره يُعدمون على أيدي مقاتلي قوات الدعم السريع أثناء سيطرتهم على المدينة.
وضع مصطفى وأصدقاؤه خطة للمغادرة تحت جنح الظلام، لكنهم لم يبتعدوا كثيرا قبل أن تقبض عليهم قوات الدعم السريع بالقرب من قرية “قرني”.
قال مصطفى “كنا خائفين. قالوا لنا: اهدؤوا، لن نقتلكم”. تم ربطهم بشجرة وتركوهم هناك لمدة يومين حتى فك قرويون محليون وثاقهم وأمروهم بالركض. نجا 3 ووصلوا إلى المخيم، في مشهد يعيد للأذهان صور التوحش البدائي.
وفي المستشفيات التي تفتقر لأدنى المقومات، كان الجرحى يواجهون الموت مرتين، مرة بالقصف ومرة بنقص الدواء، كما حدث مع حسام الطاهر الذي فر على عربة يجرها حمار قبل يومين فقط من وقوع “مجزرة المستشفى السعودي” التي ارتكبتها قوات الدعم السريع وراح ضحيتها 400 مريض.
احتجاز وفدية
احتُجِز حسام ووالدته أثناء فرارهما، وطالبهم المقاتلون بـدفع 20 مليون جنيه سوداني (حوالي 5600 دولار) لإطلاق سراحهما، ودفع الأقارب الفدية.
وفي بلدة الطينة الحدودية، التقى مراسل نيويورك تايمز بالشاب علي إسحق، الذي فقد ساقه في غارة جوية قتلت عائلته بالكامل العام الماضي. وعندما تأكد سقوط المدينة، قرر هو وصديقه يحيى رزق الهروب ليلا. وبما أن علي لا يستطيع المشي بسرعة، حمله يحيى على ظهره.
قال يحيى “نعم حملته على ظهري لمدة 7 أيام، حيث كنا نتحرك في جنح الظلام مثل الخفافيش، لأنهم إذا عثروا عليك فسوف يُقطعونك إربا”.
اليوم، يقبع هؤلاء الناجون في مخيمات مثل “أوري كاسوني” شرقي تشاد، حيث يتضاعف عددهم يوميا وسط تجاهل دولي وشح في المساعدات.
وطبقا للصحيفة الأميركية، فإن هذا المخيم يضم الآن أكثر من 100 ألف لاجئ، وهو وجهة رئيسية للفارين من الفاشر. ورغم الحياة القاسية في المخيمات، يجد اللاجئون طرقا لجعلها تبدو كأنها وطن.
كادقلي والدلنج
يقول تقرير نشرته “تايمز” البريطانية، إن جنوب إقليم كردفان يتعرض للقصف وسكان البلاد يعانون الجوع، ومع اقتراب المتمردين، المشتبه بارتكابهم الفظائع في دارفور المجاورة، تصبح الأمور أسوأ.
وعرضت جين فلاناغان، مراسلة أفريقيا للصحيفة الوضع المتدهور لمدينتي كادوقلي، عاصمة ولاية جنوب كردفان، والدلنج، إحدى المدن الكبيرة بالولاية، معاناة سكانهما من المجاعة والخوف.
كردفان الكبرى
ويتكون إقليم كردفان من 3 ولايات وهي شمال وغرب وجنوب كردفان، أما أهميته في الحرب فإن فلاناغلان توضح، أن كردفان الكبرى تقع في الوسط بين معقل الدعم السريع، إقليم دارفور، وعاصمة البلاد، الخرطوم، التي تسيطر عليها قوات الجيش السوداني.
وأشارت المراسلة إلى أن الحرب في السودان تتركز حاليا في إقليم كردفان، بعد أن عصفت بولايات الجزيرة، وسنار، والنيل الأزرق، والنيل الأبيض، والخرطوم التي سيطر عليها الجيش بعد معارك شرسة، ثم انتقلت الحرب إلى دارفور، وأخيرا كردفان.
وقالت أيضا إن المدنيين المحاصرين، الذين يقعون بين الخطوط الأمامية المتقدمة ومناطق القتال الحالية بولاية جنوب كردفان، كادوقلي والدلنج والبلدات الأصغر المجاورة، يعانون من القصف والجوع المستمرين.
التاريخ يعيد نفسه
وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت عن مجاعة في كادوقلي في سبتمبر الماضي، وقال فولكر تورك، رئيس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، إن التاريخ “يعيد نفسه” في كردفان بعد الفظائع الجماعية في الفاشر، التي تُتهم الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية محتملة فيها.
يُذكر أن ولاية جنوب كردفان تشهد معارك طاحنة بين الجيش السوداني من جانب وقوات الدعم السريع وقوات الجيش الشعبي لتحرير السودان، قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، من جانب آخر.
وإلى جانب قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان، تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من كردفان، بما في ذلك مدن رئيسية على طول الممر بين ولاية جنوب كردفان والخرطوم حيث السكان محاصرون بسبب المعارك من أجل السيطرة.
وفر أكثر من 50 ألف شخص من العنف عبر ولايات كردفان الثلاث – شمال وغرب وجنوب كردفان- منذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول، عندما استولت قوات الدعم السريع على بابنوسة، وهي قاعدة عسكرية كبيرة جنوب غرب ولاية غرب كردفان، وكثفت حملتها.
انقسام فعل
ومع وجود دارفور تحت سيطرة قوات الدعم السريع، ووجود الجيش الذي يسيطر على وسط وشرق وشمال السودان، فإن البلاد قد أصبحت منقسمة فعليا إلى قسمين: إدارة بقيادة قوات الدعم السريع أعلنت في دارفور، وهي منطقة تسيطر على طرق الإمداد الحيوية إلى ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وأخرى تحت سيطرة الجيش، وعاصمتها بورتسودان، في حين تظل كردفان مركزا لحرب قد تحدد مصيرها بين الجزئين.
وبينما تستمر أكبر أزمة إنسانية في العالم، على حد قول الصحيفة، فإن تايمز توضح أن كل جانب بإمكانه الانتصار بدعم من رعاته الأجانب المتنوعين، الذين تجذبهم احتياطيات الذهب في السودان، وأراضيه الخصبة، وخطه الساحلي الطويل على البحر الأحمر وموقعه الإستراتيجي بين الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
المرتزقة الأجانب وعشرات آلاف القتلى
وأشارت تايمز إلى ظهور مرتزقة أجانب على جانبي الحرب، معظمهم من دول أفريقية مثل إريتريا وتشاد، وكذلك مئات الجنود الكولومبيين السابقين الذين قيل إنهم يقاتلون كمرتزقة مع قوات الدعم السريع.
وأوضحت أنه لا توجد حصيلة مؤكدة للوفيات جراء الحرب التي بدأت في أبريل 2023، لكن التقديرات تضعها بأكثر من 150 ألفا. ويُعتقد أن نحو 13 مليون شخص قد نزحوا في ما تصفه الأمم المتحدة بـ “أكبر أزمة إنسانية في العالم”.
المصدر: نيويورك تايمز / تايمز / الجزيرة


and then