موازنة 2018 .. الاطعام بالجوع

يعاني الإقتصاد السوداني حالياً من التكلفة الباهظة لإستمرار تراجع مساهمة إنتاج القطاعات الحقيقية

,

 

بقلم: الدكتور التجاني الطيب 

 

1- مقدمة : 

 

يعاني الإقتصاد السوداني حالياً من التكلفة الباهظة لإستمرار تراجع مساهمة إنتاج القطاعات الحقيقية (الزراعة والصناعة) في إجمالي الناتج المحلي (جملة السلع والخدمات المنتجة في العام)، التوسع في الإنفاق الحكومي الجاري، الصراعات المسلحة وغير المسلحة، وتفشي الفساد المالي والإداري، والتجنيب، الذي نقدره بأكثر من 50 مليار جنيه، ما يضع صُناع القرار الإقتصادي والسياسي أمام خيارات صعبة. في هذا الإطار، فالموازنة السنوية هي وسيلة لتحسين حياة الناس وليست نهاية في حد ذاتها، ما يعني أن المزيد من الموارد المالية لا يؤدي بالضرورة إلى سياسات فعالة لتحقيق الهدف والخروج من عنق الزجاجة. لذلك، فالتحدي الأكبر هو إيجاد كفايات ومدخرات كبيرة يمكن أن تُحقَق آنياً ومستقبلياً النهوض بأوضاع الإقتصاد والناس وفق أجندة سياسات إقتصادية ومالية طموحة. من هذا المنطلق أتت، للأسف، موازنة العام 2018م، بعيدة عن القراءة الصحيحة لواقع وتحديات الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية رغم التقدم الذي طرأ عليها شكلياً مقارنة بالموازنات السابقة. فمن الواضح أنها أكثر ترتيباً وتبويباً وتصنيفاً وأناقة في الطباعة. كما أنها أُعدت لأول مرة على أساس التصنيف الوظيفي الذي يحدد الموارد المالية حسب الخدمة أو القطاع، ما يسهل عملية تحليل وتقييم الموازنة بصورة أكثر واقعية وشفافية. كل ذلك يستحق الإشادة والتهنئة للفريق الذي أعد الموازنة. أما من ناحية المضمون، فهي أشبه بتغريدات الرئيس الأميريكي ترمب المثيرة للجدل لبعدها عن جوهر القضايا والتحديات والأرقام والإحصائيات المقدمة. فبعض أكبر الأخطاء في الإقتصاد تأتي من وضع مثل هذه العربة أمام الحصان كما سنرى لاحقاً.

 

2- مؤشرات الإقتصاد الكلي :

 

لأسباب غير معلنة، حاولت الموازنة مقارنة أداء الإقتصاد السوداني مع أداء إقتصادات “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان”، وهذا تصنيف جغرافي يشمل السودان يستعمله صندوق النقد الدولي في عملياته وليس تصنيفاً إقتصادياً. لكن في كل الأحوال، تشير المقارنة إلى أن السودان هو الأسوأ أداءاً في مجال النمو والتضخم على مستوى المنطقة وعلى مستوى البلدان المستوردة للنفط في المنطقة (“مشروع الموازنة العامة للحكومة القومية للعام 2018م” صفحة 10 و 13)، ما يثير التساؤل حول هدف المقارنة غير الموفقة. أما على مستوى النمو المحلي، فتتوقع الموازنة أن يحقق إجمالي الناتج المحلي الحقيقي (الأسعار الجارية ناقص التضخم) نسبة نمو كلي مقدارها 4% بنهاية عام 2018م، (جدول1) بناءً على النمو المتوقع في قطاعات الزراعة (6,5%)، الصناعة (3,3%)، والخدمات (4%) حسب نسب مساهماتها في إجمالي الناتج المحلي المقدرة كالآتي: 25,2، 23,6، 51,2 مقارنة مع 29,1، 26,2، 44,7 للعام المالي 2017م) حسب الترتيب (مشروع الموازنة العامة جدول1، صفحة 14). لكن إذا أخذنا بالقاعدة الصحيحة بأن النمو الحقيقي يساوي النمو الكلي لإجمالي الناتج المحلي ناقص التضخم، فإننا نجد أن النمو الحقيقي المتوقع للعام 2018م 4,5% و 2,9% للعام 2017م حسب تضريباتنا (1) و(2) وليس 4% و 4,4% حسب تقديرات الموازنة (جدول1)، ما يشكك كثيراً في مصداقية ونوعية الأرقام الرسمية والأهداف والسياسات التي بُنيت عليها تلك الأرقام الأساسية، علماً بأن مشروع الموازنة قد “… شارك في إعداده لفيف من الخبراء والعلماء وأهل الدراية…”؟ (مشروع الموازنة، صحفة 18). أما التراجع في مساهمة قطاعي الزراعة والصناعة المذكور أعلاه في إجمالي الناتج المحلي، فيشير إلى إستمرار تدني أداء هذه القطاعات، ما يعني أن هناك حاجة ماسة لرفع معدلات نمو تلك القطاعات الحيوية إلى مستويات أعلى بكثير من المتوقعة لزيادة إنتاجها الحقيقي لمواجهة الطلب الداخلي المتنامي ورفع حجم الصادرات.

أما بخصوص سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية قابلة التحويل، فقد أمن مشروع الموازنة في صفحة 27 على أن الإقتصاد السوداني يواجه: “… مشكلة تدهور قيمة العملة وعدم إستقرار سعر الصرف وتعدده وتعتبر هذه المشكلة الإقتصادية الحقيقية في الوقت الراهن…”! للأسف، هذا تشخيص خطأ درجت عليه كل الموازنات السابقة. فتدهور سعر الصرف واحد من إفرازات عدم التوازن الكلي الذي ذكرناه في مقدمة التحليل، أي أنه علة وليس المرض. لهذا، ظلت سياسات الحكومة الإقتصادية تركز على علاج الأعراض، بينما المرض يستفحل يوماً بعد يوم. فالسياسة المعلنة لإستقرار نظام سعر الصرف: “عن طريق نظام سعر الصرف المرن المدار ليتمكن البنك المركزي بالتدخل لتوجيه سعر الصرف وتضييق الفجوة بين الرسمي والموازي إلا أن الفجوة في إتساع مستمر…” (مشروع الموازنة، صفحة 25) خير دليل على خطأ التشخيص والعلاج وإعتراف واضح بفشل سياسة العلاج بالأسبرين. فالآلية الأساسية لتدخل البنك المركزي للحد من الطلب (الإستهلاك) الفائض هي سعر الفائدة (عائد رأس المال) المحرم في السودان! في غياب هذه الآلية، فعبء التحكم في الطلب يقع على عاتق وزارة المالية لتحجيم الإنفاق، وهو مالم ولن يحدث في ظل الأوضاع الحالية. أضف إلى ذلك، أن رفع سعر الصرف للواردات من حوالى 9 إلى 18 جنيه للدولار بعد أسبوعين فقط من إجازة الموازنة ستكون له آثار كارثية على عجلة الإنتاج والإستثمار ما سيؤدي إلى المزيد من الإختناقات وغلاء وفوضى الأسعار وتدهور الأوضاع المعيشية. أما سلحفائية حركة المرونة للسعر التأشيري/التحفيزي (30 جنيه للدولار) لتشجيع الصادر وجلب موارد النقد الأجنبي لدى المغتربين فقد أتاحت الفرصة للسوق الموازي للتحرك بوتيرة أسرع وترك حيز كافي للمناورة بينه والسعر التأشيري بلغ أكثر من 8 جنيه في كل دولار بنهاية يناير 2018م. هذا يعني أن الحد من نشاط السوق الموازري يتطلب وضع سياسة سعر الصرف في إطار حزمة شاملة ومتكاملة من الإجراءات الإقتصادية والمالية، تشمل تقليص الإنفاق العام غير الداعم للنمو بكل أشكاله (في وخارج الموازنة العامة)، تحريك القطاعات الإنتاجية (الزراعة والصناعة) والبنى التحتية، والسماح للبنوك بشراء النقد الأجنبي بأسعار السوق الموازي بهدف بناء إحتياطي يسمح للبنك المركزي بالتدخل في أسواق النقد الأجنبي مستقبلاً.

من أهم سمات الموازنة: “تحقيق الاستقرار الإقتصادي من خلال خفض معدلات التضخم بإتباع سياسة نقدية ترشيدية للتحكم في عرض النقود ليكون في حدود المستهدف عبر التحكم في مصادر التوسع النقدي” (مشروع الموازنة، صفحة 35). لذلك، تستهدف الموازنة متوسط معدل تضخم في حدود 19,5% لعام 2018م، مقارنة مع 34% لسنة 2017م (جدول1). لكن من الواضح أن المعدل المستهدف لا تسنده الحقائق على الأرض والتوقعات المستقبلية لحركة الأسعار لأن: (1) متوسط معدل التضخم وصل إلى 34% بنهاية عام 2017م، ما يساوي ضعف المعدل المقدر لنفس العام، ما يعني إرتفاع الأسعار بنسبة 100%. (2) سيظل التضخم (غلاء الأسعار) في حالة إرتفاع مستمرة في عام 2018م، نتيجة لإستمرار الآثار السالبة للإجراءات الإقتصادية التضخمية التي إتخذتها الحكومة منذ نوفمبر 2017م إلى يناير 2018م (خاصة على القطاعات الإنتاجية)، إستمرار تراجع سعر صرف العملة السودانية، وزيادة السحب على المكشوف من البنك المركزي (تمويل الحكومة من غير موارد حقيقية)، إحتمال تنفيذ إجراءات جديدة لخفض الدعم، مثل زيادة أسعار المحروقات والكهرباء، بالإضافة إلى توقع زيادة فئات الرسوم على الخدمات الحكومية. كل ذلك يعني أن عام 2018م سيكون عام تضخم لم يشهد له السودان مثيلاً. أيضا،ً إذا نظرنا إلى وتيرة نمو عرض النقود (الكتلة النقدية) فواضح أنها أسرع من وتيرة نمو الإقتصاد الكلي، ما يعني أن تقديرات الموازنة تتوقع ضمنياً معدل تضخم أعلى مما هو معلن كما حدث في العام المالي 2017م (جدول1). لهذا، فالنمو السنوي المستهدف لعرض النقود (45,6) لن يكون فاعلاً في تحجيم إرتفاع الأسعار وإستعادة الثقة في السياسات النقدية في ظل إستمرار السياسات المالية التوسعية وغياب الآلية (سعر الفائدة) للتحكم في السيولة النقدية، وضرب الحائط بقوانين ولوائح البنك المركزي، التي تمنعه تمويل الحكومة بالمكشوف.

فيما يتعلق بميزان المدفوعات، تتوقع الموازنة تراجعاً طفيفاً في الميزان التجاري (الفرق بين الصادر والوارد) في حدود 300 مليون دولار في عام 2018م، بسبب إرتفاع الصادرات بقدر أكبر من والواردات (جدول1) مستمد من توقع زيادة الصادرات الزراعية والحيوانية وصادرات الذهب. المدهش أن الزيادة المقدرة في الواردات فسرت بأنها نتاج “إتباع سياسات ترشيد الواردات وإنخفاض قيمة واردات القمح والبترول…” (مشروع الموازنة، صفحة 16)!. أما بالنسبة للأداء الكلي لميزان المدفوعات، فتتوقع الموازنة أن يرتفع العجز من 300 مليون دولار في عام 2017م، إلى 2,4 مليار دولار في عام 2018م (مشروع الموازنة، صفحة 17)، وذلك للتراجع المتوقع في صافي تدفقات الحساب الرأسمالي وحساب الدخل والخدمات بما في ذلك تحويلات المغتربين والإستثمار الأجنبي المباشر، ما يعني المزيد من الضغوط على أسواق النقد الأجنبي وسعر صرف العملة المحلية في عام 2018م. لكن ما يثير التساؤل هو الذهب، الصادر الرئيسي، وعدم وجود أي أرقام عنه غير حجم صادراته المتوقع أن يصل إلى 110 طن في عام 2018م، (مشروع الموازنة، صفحة44). فحسب بيان وزارة المعادن للمجلس الوطني في نوفمبر 2017م عن أداء الوزارة في النصف الأول من عام 2017م، بلغ إنتاج الذهب خلال النصف الأول لنفس العام حوالى 50 طن بعائد مقداره 1,6 مليار دولار. لكن وفق بيان وزارة التجارة لنفس المجلس ولنفس الفترة بلغت قيمة صادرات الذهب 815 مليون دولار! فإذا أخذنا بأرقام وزارة المعادن على أساس أنها أكثر واقعية، فإننا نجد أن عائد صادرات الذهب سيصل إلى 3,8 مليار دلار في عام 2018م حسب حجم الصادارت المتوقع في الموازنة (110 طن) وإلى 6,8 مليار دولار إذا أعتبرنا الأسعار العالمية الحالية للذهب، بفارق 3,3 مليار دولار. هذا يقود للإعتقاد بأن الذهب قد أصبح البديل للنفط كمكون خارجي لموازنة الظل (التجنيب) بعد أن جفت موارد النفط لتمويل الصراعات المسلحة والأنشطة العسكرية والأمنية التي ليس لها وجود في الموازنة العامة.

 

3- المالية العامة :

 

في جانب الإيرادات الكلية بما فيها المنح الخارجية، فتتوقع الموازنة زيادتها بنسبة 50% في عام 2018م، لتصل إلى 117 مليار جنيه فوق إعتمادات موازنة 2017م (جدول2). أما الإيرادات الضريبية المتوقعة، والتي تمثل 64% من إجمالي الإيرادات، فمن المقدر أن ترتفع بنسبة 30% لتصل إلى 75 مليار جنيه، مع توقع إرتفاع الضرائب على السلع والخدمات بنسبة 42%، لتصل إلى 59 مليار جنيه، وإنخفاض الضرائب على التجارة والمعاملات الدولية (الجمارك) بنسبة 2%، لتهبط إلى 11 مليار جنيه من 11,2 مليار جنيه في عام 2017م. بالنسبة للضرائب على الأرباح والمكاسب الرأسمالية، فقد تم تقديرها بحوالى 5 مليار جنيه، ما يعادل 2% من إجمالي الإيرادات الضريبية، ما يعني أن 98% من الضرائب الكلية المتوقعة هي ضرائب على المستهلك. أما الإيرادات الآخرى (مبيعات النفط المحلي والرسوم الإدارية) المستدفهة، يتوقع أن تقفز بنسبة 97% إلى 33,7 مليار جنيه، مع توقع إرتفاع المنح الخارجية والإيرادات المتنوعة (رسوم عبور نفط الجنوب والمساعدات الإنتقالية من الجنوب) بنسبة 189%% و 195% ليصلا إلى 8 و13 مليار جنيه حسب الترتيب. الزيادة الكبيرة المتوقعة في إجمالي الإيرادات غير واقعية بسبب إستمرار عدم الإستقرار في جنوب السودان، والإنخفاض المتوقع في عائد الضرائب على التجارة والمعاملات الدولية، وعدم وجود أي مبرر للزيادة الهائلة في حجم المنح الخارجية. هذا يعني أن الضرائب على السلع والخدمات ومبيعات النفط المحلي والرسوم الإدارية هي التي ستتحمل عبء تحقيق الإيرادات الكلية المستهدفة. لذلك من المتوقع أن نرى عاجلاً أو آجلاً المزيد من الضرائب وإرتفاع مقدر في أسعار المحروقات والرسوم الإدارية، ما سيزيد من إشتعال نار الغلاء المشتعلة أصلاً. أما التراجع الطفيف المتوقع في إيرادات الجمارك فيثير التساؤل عن جدوى مضاعفة سعر صرف الواردات مع توقع زيادة حجم الواردات!.

فيما يتعلق بمساهمة القطاعات في إجمالي الإيرادات العامة، فتتوقع الموازنة 31 مليون جنيه فقط من قطاع النقل والطرق والجسور، بينما تبلغ جملة تقديرات مصروفات القطاع 2 مليار جنيه (جدول3). أما القطاع السيادي (لمكونات القطاع، أنظر ملحوظة (2)، جدول3)، والذي تبلغ جملة تقديرات مصروفاته أكثر من 7 مليار جنيه، فمن المتوقع أن يساهم في دعم الخزينة العامة بحوالى 813 مليون جنيه من ثلاثة مصادر رئيسية فقط: الهيئة القضائية (650 مليون جنيه)، وزارة العدل (75 مليون جنيه)، و البعثات الدبلوماسية (39 مليون جنيه). أما قطاع الدفاع والأمن والشرطة، والمفترض أن يكون مصدراً هاماً في دعم الإيرادات العامة نسبة لكثرة شركاته ومؤسساته المتعددة والممتدة عبر مختلف الأنشطة الإقتصادية والمالية، فقدرت جملة إيراداته المتوقعة بما يقارب 26 مليار جنيه، منها 23,7 مليار جنيه إيرادات جمركية، ما يعني حوالى 2 مليار جنيه فقط هي الإيرادات المتوقعة من هذا القطاع، وتحديداً من وزارة الداخلية (مشروع الموازنة، صفحة 99). بالنسبة للقطاع المتنوع (لمكوناته أنظر ملحوظة (2)، جدول2)، أكبر مصدر للإيرادات الحكومية، فيتوقع أن يدر على الخزينة العامة حوالى 49 مليار جنيه، منها 18,7 مليار جنيه رسم تركيز وفروقات أسعار المحروقات، 11 مليار جنيه عائدات النفط ، 8 مليار جنيه رسوم عبور وخدمات البترول، و6 مليار جنيه أرباح وفوائض الهيئات والشركات الحكومية (مشروع الموازنة، صفحة 104). لكن ما يثير الدهشة والتساؤل هنا هو كيف تريد الحكومة أ، تتكسب من فروقات أسعار المحروقات وتدعي دعم المحروقات بنفس المبلغ في جانب الإنفاق كما سنرى فيما يلي؟!

في جانب الإنفاق، لم تأتي الموازنة بجديد، فهي – كسابقاتها – خالية من أي إجراءات ذات قيمة لتقليص الصرف الحكومي أو إعادة ترتيب أولوياته وأهدافه تتماشى مع الشعار الذي يكرر كل عام: ” وضع الضوابط والإجراءات اللازمة لترشيد وتخفيض الصرف الحكومي وتحديد الأولويات بهدف توفير الموارد لتمويل مشروعات التنمية الإقتصادية والإجتماعية…” (مشروع الموازنة، صفحة 37). هذا تغريد لا تسنده أرقام الموازنة. فالصرف الحقيقي على التنمية القومية في عام 2017م بلغ 40% (5 مليار جنيه) فقط من إجمالي إعتمادات التنمية (12,4 مليار جنيه)، علماً بأن تدني الصرف على التنمية هو سمة كل الموازنات التي حللناها منذ عام 2011م، بسبب التوسع المستمر في الإنفاق غير التنموي (الجاري) على حساب الصرف التنموي. بالإضافة إلى ذلك تفترض الموازنة إرتفاع الإنفاق الجاري أو التشغيلي بنسبة 57% (جدول2)، الأعلى في تاريخ السودان، ليقفز إلى 127 مليار جنيه من إعتمادات عام 2017م (84 مليار جنيه). معنى ذلك، أن الحكومة تنفق إجمالي الإيرادات الكلية وتحتاج إلى عشرة مليار جنيه إضافية (العجز الجاري) لتغطية الصرف الجاري فقط، ما يؤشر إلى أن التنمية تمول بالإستدانة، السبب المباشر في ضعف الصرف الحقيقي على التنمية مقارنة مع الإعتمادات.

الملاحظ أيضاً، أن تقديرات الأجور والمرتبات أو تعويضات العاملين (34 مليار جنيه)، وتحويلات حكومات الولايات (32,7 مليار جنيه) تمثل 53% من إجمالي الإنفاق الجاري (مشروع الموازنة، صفحتي 45 و61). وإذا أضفنا الصرف المتوقع لشراء السلع والخدمات الضرورية للوزارات والوحدات والمؤسسات الرسمية (16 مليار جنيه)، ودعم السلع الإستراتيجية – المحروقات، الكهرباء، والقمح – (25,4 مليار جنيه) والمنافع الإجتماعية (10,2 مليار جنيه) إلى بندي الصرف السابقين، نجد أن هذه البنود الخمسة تبتلع 94% من تقديرات الإنفاق الجاري و 82% من إجمالي الإنفاق الكلي (تشغيلي+ تنموي = 145 مليار جنيه). هذا يعني أن الموازنة ليس فيها ما يمكن الإعتداء عليه من الفاسدين بأحجام مقدرة، ما يجعل من تقارير المراجع العام الفضفاضة حول جرائم الإعتداء على المال العام، التي لا تتعدى حفنة ملايين، مجرد فرقعة إعلامية تبيض وجه الحكومة. فالإعتداء الغاشم على المال العام في موازنة الظل (التجنيب بشقيه المحلي والخارجي) حيث لا حسيب ولا رقيب. رغم ذلك، فيحمد لموازنة 2018م، أنها رفعت لأول مرة منح المعاشات والتأمينات الإجتماعية ودعم مؤسسات التعليم العالي من صفر إلى 1,8 و 1,7 مليار جنيه حسب الترتيب (مشروع الموازنة، صفحة 62).

أما توزيع تقديرات الإنفاق على القطاعات (جدول3)، فيؤشر إلى إستحواذ قطاعي الدفاع والأمن والشرطة بما في ذلك الدعم السريع (4 مليار جنيه)، والمتنوع على 83% من إجمالي الإنفاق القطاعي المستهدف. إذا أضفنا إلى ذلك القطاع السيادي، فسترتفع تلك النسبة إلى 88%، مقارنة مع 5,2% فقط لقطاعات الزراعة – بشقيها النباتي والحيواني – الصناعة، الصحة، والتعليم، مع ملاحظة التراجع الكبير في حصة قطاع الصحة والزراعة والزيادة المقدرة في حصة التعليم، ما يعكس زيف الحديث عن أن قوة “…الدولة في حسن توظيفها لمواردها تحقيقاً لأمنها وتأميناً لسيادتها وإقامة العدل وتوفيراً لسبل الحياة الكريمة للمواطنين…” (خطاب الموازنة، صفحة 3). توزيع الموارد العامة بهذه الصورة المذكورة يؤشر إلى عكس فقه الأسبقيات الإنفاقية بتوجيه الإنفاق العام نحو الصرف الجاري بدلاً من نحو القطاعات المعززة للنمو وتحسين مستوى المعيشة. أيضاً هناك ملحوظة هامة هي أن 75% (24,4 مليار جنيه) من تقديرات مصروفات قطاع الدفاع والأمن والشرطة بالإضافة إلى الدعم السريع، مرصدة لتعويضات العاملين، و 25% (8 مليار جنيه) لشراء السلع والخدمات (مشروع الموازنة، صفحة 100). هذا يعني أن الموازنة – كسابقاتها – لا تتضمن أي إعتمادات لعتاد حربي أو أمني.

على صعيد الدعم، إنخفض إجمالي دعم السلع الإستراتيجية من 7,9 مليار جنيه في عام 2016م إلى 4,2 مليار جنيه في عام 2017م (مشروع الموازنة، صحة 60) نتيجة لإجراءات إعادة “هيلكة الدعم” التي تم تنفيذها في نوفمبر 2016م. لكن موازنة 2018م، تتوقع قفز الدعم من 4,2 مليار جنيه إلى 25,4 مليار جنيه، مع توقع 64% من الزيادة بسبب إرتفاع دعم المحروقات (من 1,6 مليار إلى 18 مليار جنيه). هذا يعكس مرة أخرى تخبط وعدم ثبات السياسات، فكيف يمكن أن تعاد “هيكلة الدعم” ويعود الدعم من الشباك خلال عام وبهذا الحجم الخرافي؟ فمثلاً، لو وضعت الحكومة آلية لربط أسعار المحروقات المحلية بالأسعار العالمية عندما هبطت أسعار النفط العالمية إلى ما دون 40 دولار للبرميل وتركت الأسعار المحلية تتحرك هبوطاً وصعوداً مع حركة الأسعار العالمية لما كانت هناك حاجة اليوم لدعم. لكن عدم الرؤية وغياب السياسات قابلة الإستمرار جعل من بند الدعم، وخاصة دعم المحروقات، وسيلة للتكسب الحكومي كما ذكرنا من قبل. أما بند المنافع الإجتماعية فمن المتوقع أن يرتفع بنسبة 100% من 5 مليار جنيه في عام 2017م إلى 10 مليار جنيه في عام 2018م، وهذه خطوة في الإتجاه الصحيح. لكن للأسف، ما زال 55% (5,6 مليار جنيه) محصوراً في ثلاثة بنود فقط: دعم الأسر الفقيرة المقدرة بحوالى 800 ألف أسرة (2,4 مليار جنيه)، دعم الأدوية المنقذة للحياة (1,7 مليار جنيه)، والتأمين الصحي (1,2 مليار جنيه)، بينما استحوذ دعم العمليات بالمستشفيات، العلاج بالحوادث، علاج نزلاء السجون (12 مليون جنيه!) والرعاية الصحية الأولية للقرى والريف، فقط على حوالى 4% (357 مليون جنيه) من إجمالي تقديرات المنافع الإجتماعية. الملاحظة الهامة الأخرى هي هزلية دعم الأسر الفقيرة، فلو قسمنا الدعم المقدر (2,4 مليار جنيه) على عدد الأسر (800 ألف أسرة)، وقسمنا الناتج على 12 شهر ثم على 30 يوم، فإننا نجد أن دعم الأسرة الواحدة يساوي 8 جنيه في اليوم، ما يجعل من الدعم فرقعة إعلامية بائسة. مع شحاحة تقديرات الصرف على التعليم والصحة، يؤشر كل ذلك إلى ضعف البعد الإنساني في الموازنة.

من الملاحظات البارزة أيضاً في موازنة 2018م، توزيع تقديرات التنمية القومية على القطاعات ذات الأهمية والأسبقية الإقتصادية والإجتماعية. هنا لا بد – للأسف – من ملاحظة الإنخفاض الكبير في حصة القطاع الزراعي في جملة تقديرات التنمية من 19,3% في عام 2017م إلى 14,6% في عام 2018م (جدول4). في المقابل، لابد من الإشادة بالزيادة المقدرة في حصص التعليم والصحة والقطاع الإداري والإجتماعي (30و 150 و233%) حسب الترتيب، مع ملاحظة ضآلة حجم التقديرات المستهدفة مقارنة مع بقية القطاعات. أما قطاعي الصناعة والكهرباء فمن المتوقع أن يحافظا على حصتيهما (3,8 و12,2%) حسب التسلسل. من جانب آخر، إذا نظرنا إلى إجمالي حصص قطاعات الطرق والجسور والنقل، والكهرباء، والسدود، فإنه يصل إلى 47% من إجمالي تقديرات التنمية القومية، مقابل 23% لقطاعات الزراعة، والصناعة، والصحة، والتعليم، ما يكشف عدم التوازن في الأسبقيات وتوجه السياسات الإقتصادية. لكن إذا اعتبرنا تقديرات التحويلات الرأسمالية (التنموية) للولايات فالحصيلة أننا نجد إنخفاضاً ملحوظاً في حصة القطاع الزراعي في إجمالي تقديرات التنمية القومية والولائية، المقدرة بحوالى 34 مليار جنيه، من 14,6% إلى 11,2%، مع ملاحظة تحسن معتبر في حصة قطاع الصحة من 1% إلى 4%، بينما شهدت حصة قطاع التعليم تغيير طفيف من 3,5% إلى 4%. هذا يدعو إلى تعزيز الإنفاق التنموي مستقبلاً بزيادة الإهتمام بالقطاعات الإنتاجية الزراعة والصناعة، والقطاعات الخدمية التعليم والصحة لتقوية البعد الإجتماعي والإنتاجي في الموازنة.

بخصوص العجز الكلي للموازنة (إجمالي الإيرادات والمنح ناقص الإنفاق الجاري والتنموي) فمن المقدر أن يصل إلى 29,7 مليار جنيه من 20,3 مليار جنيه في عام 2017م، بنسبة زيادة مقدارها 46% (جدول2) مع إعتبار سداد مساهمة الحكومة في رؤوس أموال المؤسسات. تتوقع الموازنة تمويل 55% (16,3 مليار جنيه) من العجز بالسحب على المشكوف (طبع نقود دون مقابل) من بنك السودان المركزي، 33% (9,9 مليار جنيه) من الضمانات، 8% (2,5 مليار جنيه) من إصدار الصكوك الإستثمارية الحكومية، و 20% (6 مليار جنيه) من التمويل الخارجي في شكل قروض (مشروع الموازنة، صفحة 71). تمدد العجز الكلي يؤكد أن إستمرار التوسع في الإنفاق (الطلب) في القطاع العام الناتج عن الإسراف المستمر في الإنفاق التشغيلي غير التنموي، هو مصدر أساسي لغلاء الأسعار (التضخم) وتدهور الأوضاع الإنتاجية (العرض) والمعيشية ومزاحمة الإئتمان المتاح للقطاع الخاص.

 

الختام :

 

ورد في مشروع الموازنة، ” أنه من أعظم نعم الله علينا الإطعام من الجوع والأمن من الخوف” (مشروع الموازنة، صفحة 32). لكن القراءة المتأنية للموازنة تؤشر إلى أنها إطعام بالجوع وخوف على الأمن وليس العكس. فعدم التشخيص السليم للمشكلة الإقتصادية أدى إلى إتباع سياسات إقتصادية ومالية غير متوازنة وغير قابلة للإستمرار. لذلك أكبر تحدي سيواجه موازنة 2018م ، إستمرار التمادي في معالجة الأعراض بدلاً من إستهداف القضايا الحقيقية. فالحل للخروج من أزمات الإقتصاد المتلاحقة يكمن في تعزيز الثقة وتقوية العرض (الإنتاج) و خفض الإنفاق الحكومي على نحو فعال، بالسعي لإعتماد حزمة من السياسات الكلية والقطاعية، التي تستهدف تلبية الحاجة الماسة لتشجيع النمو العادل والشامل المستدام، وتسريع وتيرة وضع الإصلاحات الهيكلية المطلوبة وتنفيذها جميعاً بالتزامن. أما سياسات المارشات والأوامر الفوقية المتبعة حالياً، فستؤدي في النهاية إلى التوقف الكلي للحركة الإقتصادية في البلاد، ما سيترتب عليه المزيد من تفاقم الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية. وقديماً قال المفكر الإشتراكي كارل ماركس ما معناه أن الجوع لا يخلق الثورات، لكن الوعي بالجوع هو الذي يخلق الثورات. وهذا ما بدأ يلوح في الأفق السوداني.

مشروع موازنة 2018م

جدول1: مؤشرات الإقتصاد الكلي للعام 2018م

(مليارات الجنيهات والدولارات أو%)

(1) و(2) وتضريبات الكاتب.

المصدر: “تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2017م”، صفحة 37، و”مشروع الموازنة العامة للحكومة القومية للعام 2018م، صفحة 17، وتضريبات الكاتب.

……

مشروع موازنة 2018م

جدول2: تقديرات موازنة الحكومة القومية للعام المالي 2018م

(مليارات الجنيهات)

____________________

(1) تشمل فوائض الهيئات والشركات، والرسوم الإدارية وعائدات صادر نفط الجنوب وإيرادات متنوعة.

(2) صافي إقتناء الأصول غير المالية.

(3) المساهمة في رؤوس الأموال.

(4) …. لا توجد أرقام رسمية في الموازنة!

المصدر ” تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2018م، صفحات 48، 68 ،70 – 71، وتضريبات الكاتب.

…..

مشروع موازنة 2018م

جدول3: تقديرات موازنة الحكومة القومية (قطاعات مختارة)

(ملايين الجنيهات و% في إجمالي القطاعات)

_____________________

(1) يشمل: وزارة شئون رئاسة الجمهورية، وزارة الإستثمار، وزارة مجلس الوزراء، وزارة الخارجية، المفوضيات، المجلس الوطني، مجلس الولايات، وزارة العدل، ووزارة ديوان الحكم الإتحادي.

(2) يشمل: إحتياطي السلع والخدمات وتعويضات العاملين والتنمية والطوارئ، دعم السلع الإستراتيجية؛ المساهمات الإجتماعية؛ المنافع الإجتماعية؛ الضيافة الرسمية؛ مشروعات التنمية…إلخ.

المصدر: ” تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2017م، صفحات 65 – 72 و 75 – 84، و “مشروع الموازنة العامة للحكومة القومية للعام 2018م”، صفحات 95، 96، 99، 100، 102، 104، 106، وتضريبات الكاتب.

…..

مشروع موازنة 2018م

جدول4: تقديرات التنمية القومية (قطاعات مختارة)

(ملايين الجنيهات و% في الجملة الكلية)

__________________________

(1) يشمل: وزارات الرعاية والضمان الإجمتاعي، السياحة والآثار والحياة البرية، الموارد البيئية والموارد الطبيعية والتنمية العمرانية، تنمية الموارد البشرية، العمل والإصلاح الإداري، والإرشاد والأوقاف.

  • ملحوظة: الأرقام الرسمية تشمل تقديرات التمويل المحلي والأجنبي في مشروعات التنمية.

المصدر: “تقديرات مشروع موازنة العام المالي 2017م”، صفحات 87، 90 – 91، 93، 95، “مشروع الموازنة العامة للحكومة القومية للعام 2018م، صفحة 108، 111، 112, 114، 115، 116، وتضريبات الكاتب.

_________________________________

ماجستير ودكتوراه في الإقتصاد من جامعتي غوتنغن وكولونيا (ألمانيا الإتحادية)، محاضر في الاقتصاد، جامعة الخرطوم سابقاً، خبير إقتصادي، صندوق النقد والبنك الدوليين ،وزير أسبق للمالية والإقتصاد الوطني، حالياً مستشار إقتصادي ومالي لعدة منظمات مالية وتنموية عالمية وإقليمية.