مخاطر العبور

مراحل الانتقال التي عايشها السودان منذ ١٩٥٣ توجب الحذر و اليقظة بشأن الحالة الراهنة. وزارة الانتقال من الحكم الذاتي في الفترة ٦ / ١ / ١٩٥٤- ١٧ /١١ / ١٩٥٨ تم حلها ٤ مرات و قامت تفاديا للسقوط للمرة الخامسة بتسليم الحكم للعسكر. السلطة الانتقالية بعد أكتوبر 1964 تعاقبت عليها عدة وزارات وجمعيتان تأسيسيتان . وقد أنجزت وزارة الأمر الواقع الأولى بعد أكتوبر ١٩٦٤ مهامها بجدارة بما في ذلك إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية و افتتاح أولى جلساتها في ١٠ / ٧ / ١٩٦٥ وشرعت في وضع مسودة الدستور الدائم. لكن سرعان ما تكالب حزب الأمة بجناحيه و الإتحادي الديمقراطي على الجمعية التأسيسية فأجهزا عليها بالاستقالة الجماعية منها في ٧/ ٢/ ١٩٦٨ قبل يوم واحد من انعقاد الجمعية التأسيسية المزمع لسحب الثقة من الحكومة في ٨ / ٢ / ١٩٦٨. الجمعية التأسيسية الثانية جرت انتخاباتها في أبريل ١٩٦٨ و افتتحت أولى جلساتها في ٢٧ / ٥/ ١٩٦٨ و عدلت مشروع الدستور الذي أعدته سابقتها حيث اتفق الحزبان المذكوران و حلفاؤهما على عرض اسلامية الدستور أو علمانيته في استفتاء شعبي. و في خضم التنازع بين أنصار الدستور الديني و العلماني تم حل الجمعية التأسيسية الثانية بقرارات الانقلاب العسكري المايوي في ٢٥ / ٥ / ١٩٦٩و دخل العسكر للحكم من حيث خرجوا.

يقلم: د. الصديق عبدالباقي

مراحل الانتقال التي عايشها السودان منذ ١٩٥٣ توجب الحذر و اليقظة بشأن الحالة الراهنة. وزارة الانتقال من الحكم الذاتي في الفترة ٦ / ١ / ١٩٥٤- ١٧ /١١ / ١٩٥٨ تم حلها ٤ مرات و قامت تفاديا للسقوط للمرة الخامسة بتسليم الحكم للعسكر. السلطة الانتقالية بعد أكتوبر 1964 تعاقبت عليها عدة وزارات وجمعيتان تأسيسيتان . وقد أنجزت وزارة الأمر الواقع الأولى بعد أكتوبر ١٩٦٤ مهامها بجدارة بما في ذلك إجراء انتخابات الجمعية التأسيسية و افتتاح أولى جلساتها في ١٠ / ٧ / ١٩٦٥ وشرعت في وضع مسودة الدستور الدائم. لكن سرعان ما تكالب حزب الأمة بجناحيه و الإتحادي الديمقراطي على الجمعية التأسيسية فأجهزا عليها بالاستقالة الجماعية منها في ٧/ ٢/ ١٩٦٨ قبل يوم واحد من انعقاد الجمعية التأسيسية المزمع لسحب الثقة من الحكومة في ٨ / ٢ / ١٩٦٨. الجمعية التأسيسية الثانية جرت انتخاباتها في أبريل ١٩٦٨ و افتتحت أولى جلساتها في ٢٧ / ٥/ ١٩٦٨ و عدلت مشروع الدستور الذي أعدته سابقتها حيث اتفق الحزبان المذكوران و حلفاؤهما على عرض اسلامية الدستور أو علمانيته في استفتاء شعبي. و في خضم التنازع بين أنصار الدستور الديني و العلماني تم حل الجمعية التأسيسية الثانية بقرارات الانقلاب العسكري المايوي في ٢٥ / ٥ / ١٩٦٩و دخل العسكر للحكم من حيث خرجوا.
استفادت بعض الأحزاب والجماعات السياسية وعناصرها في القوات النظامية من تجارب الماضي و استصحبت تجربتها و تأبطتها تأهبا للإنقلاب الذي ظللت تخطط له على الديمقراطية في قادم الأيام. و تم بعد سقوط النظام المايوي التوافق على سلطة انتقالية معتدلة ضمنت للإسلاميين و مؤسساتهم الحزبية و البنكية والطوعية هبوطا ناعما استغلّه الإسلاميون قبل الانتخابات و بعدها للتمكين والاستيلاء فيما بعد على مقاليد الحكم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩.
و لقد تكررت تجربة السلطة الانتقالية المتحكم فيها مرة أخرى في أبريل ٢٠١٩ كما يعيشها السودان الآن.
و الشاهد على الأحداث يخيل إليه أن التاريخ يعيد نفسه و أن القليلين فقط يتعلمون من تجارب الماضي و خيباته . و بسبب الاختلاف و التنازع لم تنجز السلطات الانتقالية المدنية كل مرةً سوى سعيها لحتفها بظلفها . فعلى الصعيد الاقتصادي رفض السودان في الخمسينيات من القرن الماضي الإغراءات التمويلية البريطانية و الأمريكية مقابل الدخول في حلف بغداد و ذلك بحجة أن الحلف ينوي تطويق مصر و القومية العربية ، و رفض السودان عروض التمويل الأمريكية نظير قبول السودان لمشروع أيزنهاور بجوانبه الاقتصادية و العسكرية و ذلك بزعم التحرر من المحاور و التمسك بعدم الانحياز. كما رفض طلب شركات أمريكية لبناء مطارات حديثة في مدن غرب السودان و كوستي لتقل الثروة الحيوانية لمصنع تعليب اللحوم في كوستي بزعم أن الولايات المتحدة تنوي إنشاء قواعد عسكرية لها في غرب السودان و حلايب و شرق السودان. و كرد فعل لذلك أوقف الجانب الأمريكي العمل في مصانع اللحوم. و أخيرا و ليس آخر فقد عارض الحضريون من أهل السودان اتفاقية التعاون الاقتصادي للإنشاء والتعمير (المعونة الأمريكية). و عندما وقع رئيس الوزراء الاتفاقية المذكورة و عرضها بعد ذلك على البرلمان و أجازها البرلمان بأغلبية ضئيلة طالبت جموع سودانيي الحضر بتنحي الحكومة و حددت يوم السابع عشر من نوفمبر للزحف في جميع مدن السودان لإسقاط الحكومة بسبب موالاتها للامبريالية و الدول الاستعمارية على حد قول المنظمين و المحرضين. و كما هو معلوم فإن رئيس الوزراء قام بالضربة الاستباقية القاضية فسلّم الحكومة للعسكر في نفس يوم ١٧ نوفمبر ١٩٥٨.
وسيرة السلطة الانتقالية 2020 التي نشهدها تظهر اختلاف أحزاب المكوّن المدني بشأن السياسة الأقتصادية الأمثل و علاقات السودان الخارجية و ملف السلام و مناهج التعليم والجيش و المليشيات و ولاية السلطة المدنية على المؤسسات و الشركات العامة و الموقف من سد النهضة والحرب والسلام مع الجارتين إثيوبيا ومصر وتصاعد الخلاف و خروج هذا أو ذاك من الحاضنة السياسية وغلبة الانتماء العقائدي والمذهبي من جانب اليسار السلفي وهيمنة المصالح والمحاصصات الحزبية وسيادتها على ما سواها من جانب أحزاب اليمين و مليشياتهم المسلحة .
و رغم مرور ما يقارب القرن منذ أحداث الخمسينيات يبقى القاسم المشترك التكالب على المناصب و المحاصصة و انغماس النخبة الحضرية في ترف المذهبية العقائدية و المناصرة الكلامية للقضايا الاقليمية والدولية على حساب القضايا الوطنية ومعارضة السياسات الاقتصادية والخارجية من منصة عداء الأمبريالية والرأسمالية وصندوق النقد الدولي و البنك الدولي بينما فقراء الحضر و جميع أهل الريف يرزحون تحت وطأة الفقر والمسغبة. و مع هذا فنحن أزوال السودان ( اللابيون) كما وصفنا شاعر العرب المتنبي لا خيل عندنا نهديها للآخرين و لا مال و نعجز حتى اليوم عن نظافة الخرطوم التي غابت معالمها تحت أكوام القمامة المتكدسة و ظلمات الانقطاعات الكهربية .
إن ضمان العبور الآمن للفترة الانتقالية هو الواجب الأساس للسلطة الانتقالية. و يعتبر فرض هيبة الدولة و توفير الأمن و الحماية للمواطنين في الهامش و الحضر وحد أدنى من الخدمات و الغذاء و الدواء و غاز الطبخ و المواد البترولية يقي المواطن المسغبة و جيوش الذباب و البعوض و مذلة الاصطفاف أمام الأفران و محطات الوقود و دور العلاج و الدواء يعتبر كل ذلك صمام الأمان للعبور الى مرحلة الديمقراطية المستدامة و من صميم واحبات السلطة الانتقالية. فهل نتعلم الدرس أم يكررالتاريخ تدويرنا في دوامة ثالوث الانتقالية المضروبة فالمدنية فالعسكرية