: فضيلي جمّاع: ثورة تحرير المدن !! ..

قلناها من قبل ونعيد القول: واهِمٌ من يحسبُ أنّ إسقاط نظام الإخوان المسلمين الحالي لا يمكن حدوثه إلا من العاصمة الخرطوم ّ!!ّ الذين يقولون بذلك يجهلون …

فضيلي جماع(ارشيف)

بقلم: فضيلي جمّاع

[email protected]

 

قلناها من قبل ونعيد القول: واهِمٌ من يحسبُ أنّ إسقاط نظام الإخوان المسلمين الحالي لا يمكن حدوثه إلا من العاصمة الخرطوم ّ!!ّ الذين يقولون بذلك يجهلون أن كبريات الثورات في عصرنا الحديث – وتحديداً في أفريقيا وأميريكا اللاتينية – بدأت بتحرير الأطراف ، حيث الكم الهائل من البشر أصحاب المصلحة في التغيير. وإما سُدّت المنافذ على أنظمة الإستبداد في قلب البلاد تداعى بناؤها حجراً إثر حجر ، وطوبة إثر طوبة، وتكون قد فقدت السطوة والسيطرة على كل شيء!

يعرف الكثيرون أنّ النظام الدموي الحالي قد جعل من العاصمة ترسانة عسكرية ، أساسها أجهزة الأمن المنتشرة في المكاتب والشوارع والأحياء، ثم تدجين الشرطة وما يعرف بشرطة النظام العام لمصلحته. أضيف إليهم مؤخراً مليشيات الجنجويد (إسم الدلع قوات الدعم السريع). كل ما أوكل لهذه القوات التي ينفق عليها النظام ما يفوق ثلثي ميزانية البلاد ، ليس حراسة أمن الشعب وإنما التجسس على ما يقوله الناس في المكاتب وفي مناسباتهم العامة أو قمع أي تظاهرة سلمية. بل إن ما يشغل وحدات جهاز الأمن بالتحديد مراعاة أين يوجد فلان وعلان من الحزب الفلاني وفلان وفلان من الضباط وضباط الصف النظاميين الذين أحيلوا مع الآلاف للمعاش حين أحكم الإسلامويون قبضتهم على السلطة الديموقراطية بليل تحت إنقلابهم العسكري المشئوم في 30 يونيو 1989م. أجهزة يفترض أنها مؤسسات وطنية ، لكن تكون مهمتها (التصنت ونقل القوالات). يحسب الأخوان المسلمون بذلك أن نظامهم سيبقى ، وتخلو لهم غنائم البلاد ( فقه التمكين)!!!
إنّ هذا النمط من التفكير الساذج – أعني تحويل عاصمة البلاد إلى قلعة أمنية لإطالة عمر النظام – وقع فيه الإنقلابي الدموي منغيستو هايلي ميريام في الجارة الشقيقة إثيوبيا. كانت قوات الدرك في نظام منغيستو لا همّ لها سوى حبس أنفاس الشعب الإثيوبي. ولعل المشهد الذي وصفته صحيفة نيويورك تايمز في عددها يوم الثلاثاء 28 مايو 1991 يلخص لنا أهمية الثورات الشعبية إذ تزحف من الأطراف ، فتكنسها من خفافيش النظام مدينة تلو مدينة وقرية إثر قرية حتى يفقد المركز جبروته الوهمي في ساعة زمان. تصف نيويورك تايمز مشهد حصار ثوار شعوب إثيوبيا لمنغيستو ذلك اليوم فتقول: (دخل الثوار الإثيوبيون القصر الرئاسي اليوم واستولوا على العاصمة – أديس أبابا- بعد أن استسلم الرئيس بالوكالة أمس الإثنين موافقاً للوسطاء (أمريكا وبريطانيا ) على تسليم السلطة للثوار بقيادة ميليس زيناوي)! كان منغيستو قد هرب قبلها بيومين إلى زيمبابوي!!

واليوم وقد دخلت الثورة السودانية منعطفاً تاريخيا ً جديداً – مرحلة تحرير المدن والأطراف زحفاً إلى المركز- أقول للإخوة الذين يؤمنون بأدب الحوار مع نظام ينفي الآخر دعك من أن يقيم معه حواراً- أقول لهم أن من الأفضل أن يوفروا على أنفسهم بعض الوقت والجهد. أقول هذا وأنا لا أشك في وطنيتهم مثقال ذرة ولا أدعي لنفسي حباً وتفانياً في الوطن أكثر منهم. بل إن بعضهم دفع ردحاً من العمر من أجل وطن يسع الجميع. مشكلة نظام الإسلامويين الدموي في السودان هي أنه ما زال يحسب أنّ ذاكرة شعبنا من الضعف بحيث أنها أسقطت تعذيب الشرفاء في بيوت الأشباح ولعلعة الرصاص الحي الذي حصد مئات من أبنائنا العزّل في سبتمبر2013..يحسبها ذاكرة نسيت حروب الإبادة واغتصاب الحرائر في دار فور، وأننا نسينا إسقاط الأنتينوف للقنابل والبراميل الحارقة ضد شعبنا في جبال النوبة والأنقسنا. لا ، بل يحسب أنصار النظام الفاشي أن ذاكرة شعبنا نسيت نقضهم العهود والمواثيق في كل بادرة يأمل الناس فيها بالوصول إلى حل يجير شعبنا وبلادنا الحال الذي وصلته اليوم. إنّ ذاكرة شعبنا ليست بهذه الهشاشة. أقولها مرة أخرى للإخوة الذين يراهنون على الحوار مع نظام لا يرى الحوار مع الآخرين إلا استراحة لكسب الوقت وإطالة عمره، عليهم أن يعرفوا أنّ مجريات الأحداث في السودان قد تخطت حواراً يفضي كل مرة إلى الطريق المسدود ، وإلى منح النظام متسعاً من الوقت ليتنفس الصعداء ويشتري الوقت لإطالة عمره وبالمقابل إطالة معاناة شعبنا. لقد أختارت شعوب السودان طريقاً آخر لحسم المعركة مع النظام الإسلاموي المستبد: اختارت جماهيرنا الشارع. والشارع لا يخون! إنّ شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) ليس للمزاح والتنفيس عن الغضب فحسب. شعبنا يسعى وهو يردد هذا الشعار لإسقاط نظام مرغ بشرفنا وكرامتنا الأرض. نظام أذلّنا كأمةٍ يعرف القاصي والداني ذود الفرد فيها عن كرامته وعزة نفسه.

وبعد.. فقد غلبتني ابتسامة شماتة لم أستطع مداراتها وأنا أطالع اليوم ما أوردته صحيفة "الراكوبة" الإليكترونية (الراكوية 20/12/2018) على لسان الدكتور ابراهيم الصديق رئيس قطاع الإعلام بحزب المؤتمر الوطني. يقول الرجل عن مجريات ثورة شعبنا في عاصمة الحديد والنار "عطبرة" بأن حق التعبير عن المواقف والآراء مكفول بنص الدستور، ولكن التخريب غير مقبول ، ومرفوض ! وقال إن ما جرى في عطبرة من بعض المتظاهرين لا يتسق مع مفهوم التظاهرات السلمية ، ووصفه بمحاولة لزعزعة الأمن والإستقرار! ) كذا ؟؟؟

ألم أقل لكم بأنّ مشكلة قادة وأزلام هذا النظام أنهم يحسبون ذاكرتنا غربالاً لا تمسك أسلاكة الدقيقة دفقة الماء التي تدلق عليه؟؟ وإلا فماذا يقول الرجل عن عصابات أمنهم التي حصدت أرواح المئات من شهدائنا في تظاهرات سلمية في كجبار وفي بورتسودان وفي الجامعات وأشهرها التظاهرات السلمية المطلبية في سبتمبر 2013م؟ ثم ماذا يعني رئيس قطاع إعلام حزب نظام الخيبة حين يقول: (بأن حق التعبير عن المواقف والآراء مكفول بنص الدستور) ؟!! هل نسي تهديد رئيسه – إذ يتوعد جماهير شعبنا أيام العصيان وقد فقد أعصابه في خطاب له بكسلا إذ قال بأنّ جماهيرنا لو نزلت الشارع فسوف يفعل بهم ما فعل من قبل (يعني ببلاهة المجازر التي ارتكبها ضد العزل في سبتمبر 2013)!! وآخر ما أسوقه لرئيس قطاع الإعلام لحزب النظام الفاشي- وهو يتحدث عن كفالة حرية الرأي سؤالي له: لماذا يستجوب جهاز أمنكم أمس القريب الصحافية الشجاعة أسماء محمد جمعة في مقالها بعنوان : (الشجرة الملعونة) وهي لم تفعل غير إبداء رأيها بكل أدب ومهنية في صحيفة يومية – صحيفة قد تكون محسوبة بعض الشيء على النظام ذاته؟ أليس ما فعلته أسماء محمد جمعة مجرد إبداء وجهة نظر في ممارسات نظامكم وأتباعه!؟

أعود للخطوة الشجاعة التي قامت بها جماهيرنا في عاصمة الحديد والنار عطبرة – بتحريرها المدينة في انتفاضة سلمية سيذكرها لهم التاريخ . أعود لقصة تحرير المدن فهي بعض أهم نقاط هذا المقال. بهذه الخطوة نستطيع القول بكل ثقة بأن هز مفاصل النظام في الهامش العريض، قد بدأت بالفعل ، وبدأ معها أهل "الوجعة" يعرفون الطريق إلى العتق من المهانة والعبودية والجوع في عصرٍ حرٍّ يحبُّ الضِّياء، ويكرهُ كلَّ العناكبِ والمؤمياءْ !! إنّ انتفاضة الأطراف هي التي تسند قفا شعبنا في العاصمة! أعجبني ما ختم به الأستاذ حسين احمد حسين مقالاً له في الراكوبة بعنوان: (أيام معدودة تفصلنا عن اسقاط النظام)- إذ ختم ينصح بأن:" إستيلاء قوى المعارضة في الولايات على الحكومات الولائية واعتقال زبانية النظام هناك ، ومن ثم الزحف نحو العاصمة لتحريرها من لصوص العصر."

أضيف من عندي بأن معركة تحرير المدن والقرى ستعجل بالإنتفاضة الشعبية التي بدأت معالمها اليوم في العاصمة السودانية التي تعرف تماماً تركيع الأنظمة المستبدة في نزال الشوارع ! لكن ربما لا أسمح لنفسي بالتفاؤل بسرعة إنهاء نظام أمكن نفسه منفرداً بالسلطة قرابة الثلاثين سنة. فلنكن عمليين ولنهيء أنفسنا لمعركة ربما تطول! وعلى كل حال ليس لدينا ما نخسره. نظام الإستبداد هو الذي يخسر كل دقيقة من رصيده من القوة والجبروت الكاذب كلما ضجت شوارعنا بالهتاف: الشعب يريد إسقاط النظام!! نعم ..شعبنا يريد إسقاط النظام وليس تغييره كما يروج البعض!!

نصيحة أخيرة أتوجّه بها لجماهير شعبنا وهي تعانق الشارع: أنّ التحلي بالشعارات السلمية المرفوعة هي حجتنا أمام العالم كله بأننا شعب متحضر، يسعى لتحقيق أهدافه الإنسانية المشروعة ككل شعوب الأرض: الإطاحة بنظام مستبد ، لإقامة دولة القانون والمساواة وحقوق الإنسان! لقد أصبح عالمنا قرية كونية بفعل وسائل التواصل والإنترنت. يجب علينا التحلي عملياً بشعار (سلمية، سلمية ضد الحرامية)! فهذا يعني الحفاظ على الأرواح والمؤسسات العامة، لأنها ملك شعبنا.

وقبل أن أضع آخر نقطة على السطر أقول لأبناء شعبنا الثائر: إن القوات النظامية – باستثناء بعض منسوبي جهاز الأمن- هي قوات تعرف نبض الشارع ، لأن تربية جنود وضابط الشرطة والقوات المسلحة في مجملها تربية تقوم على شعارات وطنية صارمة – ونحن لا نزاود ولا ينبغي لنا أن نزاود على وطنيتهم أبداً. بل هم أبناء هذا الشعب المحروم من أقل ضرويات الحياة. هم منّا وإلينا، ويعرفون ذلك جيدا لأنهم مثلنا يعيشون ظرف الحياة القاسي على مدار اليوم. وقد ظلّ كاتب هذه السطور منذ أمد يتحدث ما سمح الظرف إلى رتب عسكرية مختلفة ، عبر وسائل مختلفة. أؤكد أنني لمست درجة الغليان التي تعيشها هذه القوات النظامية التي كم سُلِبَتْ كرامتها بالزج بها في متاهات لا تشبه شرف الجندية السودانية المشهود لها بالمهنية العالية والإستبسال. إمنحوا الثقة لقواتنا النظامية ، فإن ما نراه – وانتفاضة ديسمبر التاريخية في بدايتهاأنهم مع شعبهم قلباً وقالباً. بل هم الدرع الواقي لشعبنا الأعزل في معركة ضد نظام مستبد ، معركة لا نعرف كيف تسير مجريات النزال فيها ، وكم من الوقت ستستمر. لكن ثقتنا في شعبنا كبيرة وثقتنا أكبر في خالق هذا الكون بأنه العدل المطلق ولا يريد الظلم لعباده.

فضيلي جمّاع – لندن
عشية الخميس 20 ديسمبر 2018