د. فيصل عوض حسن: فُرَصُ اَلْسُّوْدَاْنِ لِلْنَّجَاْة ..!

انْجَذبَ السُّودانيُّون كغيرهم من الشعوب، لاحتجاجات فرنسا (السُترات الصفراء)، وتَجَادَلوا حول دوافعها وتَطَوُّراتها، ومن ذلك نقاشي مع اثنين من …

د. فيصل عوض حسن(ارشيف)

د. فيصل عوض حسن

انْجَذبَ السُّودانيُّون كغيرهم من الشعوب، لاحتجاجات فرنسا (السُترات الصفراء)، وتَجَادَلوا حول دوافعها وتَطَوُّراتها، ومن ذلك نقاشي مع اثنين من الصُحفيين الشباب، أحدهما قال بصعوبة تنفيذ مثل تلك الاحتجاجات في السُّودان، إلا بتفعيل دور الأحزاب (اليساريَّة) والقُوَّى (الشبابيَّة) الحديثة المُنَاهِضَة للرأسماليَّة. في ما (شَكَّكَ) زميله بوجود (قُوَّى حديثة) من أساسه، وتَسَاءَلَ عن مظاهر حداثتها وبرامجها المطروحة، مُؤكِّداً (اعتلال) الدولة السُّودانيَّة و(أحزابها) السَّاعية لمصالحها الاقتصاديَّة، وصعوبة تحقيق (نتيجة سليمة) في ظل هذه الأوضاع.
أوَّل ما يُمكن قوله، أنَّ مُقارنة السُّودان بفرنسا لا تستقيم إطلاقاً، لتجاهُلنا مبادئ الإدارة العلميَّة وضعف الوعي، واختلال المعايير الإنسانيَّة/المُجتمعيَّة والسياسيَّة، وتَراجُع/انهزام (قِيمة) الوطن أمام المصالح الذاتيَّة، وافتقادنا روح الجماعة وعمل الفريق الواحد، وضبابيَّة القوانين والتشريعات و(التَحَايُل) على المُتوفر منها، وهذه مشاكل مُتَجَذِّرةٌ عَمَّقتها سياسة (التجهيل) الإسْلَامَوي والأزمات المصنوعة، وأصبحنا في غيبوبةٍ (صَاحِيَة)! ومن مظاهر الاختلاف أيضاً، أنَّ الأحزاب/النقابات الفرنسيَّة مُؤسَّسات (حقيقيَّة)، محكومة بلوائح/ضوابط (صارمة) ومُحترمة، سواء للدولة ككل أو داخل النقابات/الأحزاب المعنيَّة، مع المُتابعة اللصيقة والمُساءَلَة والمُحاسبة والعقاب. كما تعمل الأحزاب الفرنسيَّة وغيرها في الدول المُحترمة، وفقاً لـ(رُؤى/استراتيجيَّات) رَصِينة، وأهداف واضحة وهياكل تنظيميَّة مُتماسكة، يُحدِّد تكويناتها وملامحها مُتخصِّصون مشهودين بالكفاءة، ويُقيِّمونها ويُقوِّمونها بصورةٍ دَوريَّة، ووفق أُسُسٍ مدروسةٍ بعناية، لذلك يُنجزون وعودهم ويُنفِّذون استراتيجيَّاتهم وبرامجهم المُؤسَّسيَّة، دون تَلاعبٍ أو تسويف.
أمَّا الكيانات السُّودانيَّة (مدنيَّة/مُسلَّحة)، ودون استثناء، تفتقد مُقوِّمات الوصف بمُفردة (أحزاب)، كغياب الفكر الاستراتيجي الرصين (خِطَطْ عمل تنفيذيَّة، مُتابعة،  تقييم، تقويم …إلخ)، وتفتقر للهياكل التنظيميَّة/الإداريَّة المُتكاملة والمُتماسكة، الكفيلة بتنفيذ الاستراتيجيات والبرامج (الغائبة أصلاً)، ولا توجد قيادات قادرة على (تحديد) الأهداف وترتيبها، واختيار الوسائل/الأدوات المُلائمة لبلوغها وفق الموارد المُتاحة، وتقدير وتحليل المُستجدَّات والمتغيِّرات الدَّاخليَّة والخارجيَّة واستشراف المُستقبل. فضلاً عن صراعات المناصب وتغليب الخاص على العام، وسيادة الديكتاتوريَّة والانفراد باتخاذ القرار، وتقديس الهرم (المُسْتَحْوِذْ) على كل الصلاحيات، دون رُؤىً موضوعيَّة لترقية وتطوير الكيان المعني، مع نُخَبْ (خَانِعَة) أو (أنانيَّة) أو (تائهة) رغم درجاتهم الأكاديميَّة الرَّفيعة! ويُمكن القول بأنَّ جميع كياناتنا السُّودانيَّة، عبارة عن (جماعات) تسعى لمصالحها الشخصيَّة والجماعيَّة، أو تائهة وعاجِزَة عن تقديم المُفيد، وفي الحالتين فإنَّ هذه الكيانات بعيدة تماماً، عن الوطن (الأرض+الشعب) وأزماته المُتجَذِّرة/المُعقَّدة! المُدهش، أنَّ كياناتنا الانتهازيَّة، لا تُخَطِّط حتَّى لمصالحها/أطماعها الماليَّة والسُلطَوِيَّة، وإنَّما تتركها للتوقُّعات/الأماني و(الصُدَف)! لأنَّهم لم يستوعبوا بعد، أنَّ السياسة (عِلْمٌ) وتَخَصُّص كبقيَّة المجالات، له نظريَّات وقواعد/مبادئ علميَّة وعمليَّة، ويستحيل مُمارستها دون دراسةٍ وتأهيلٍ كافيين، في ظل عالم تحكمه المعارف والعلوم، وكونك (غير مُتخصِّص) ستكون محدوداً مهما بلغت مهاراتك، وتجدون تفاصيلاً أكثر في مقالتي (أَوْلَوِيَّاْتُ اَلْتَغْيِيْرِ اَلْمَنْشُوْدِ فِيْ اَلْسُّوْدَاْنْ). 
الشبابُ السُّودانيُّ قَدَّمَ تضحيات كبيرة جداً قبل وبعد الاستقلال، لكنَّها (تَقزَّمت) بوصاية وغَلَبَة الكيانات الانتهازيَّة والمُتكَلِّسة، وازداد الأمرُ سوءاً في عهد المُتأسلمين، الذين عملوا (سِرَّاً وجَهراً) مع غالبيَّة كياناتنا المدنيَّة والمُسلَّحة، على استغلال شبابنا (الصادق) والمُتَاجَرةِ بهم، في حروبهم (العبثيَّة) ومُغامراتهم السياسيَّة ولا يزالون. ورغم مَرارة ذلك، إلا أنَّ الشباب أثبتوا صدقهم وصبرهم واستشعارهم بالمسئوليَّة تجاه وطنهم وأهلهم، تبعاً لاجتهاداتهم المُتنوِّعة كالنضالات الطُلَّابيَّة المُتواصلة بالجامعات السُّودانيَّة، ومُواجهتهم لمليشيات البشير الإرهابيَّة. فضلاً عن مُساهماتهم المشهودة خلال الأزمات الطبيعيَّة المُتلاحقة، كمُساعداتهم في إعادة بناء/تأهيل المنازل المُتأثَّرة بالسيول والفيضانات، وحملات التبرُّع بالمال والدم والدواء عقب انتشار الكوليرا والحُمَّى النزفيَّة، وإعادة تأهيل المُؤسَّسات الصِحِّيَّة والتعليميَّة (ذاتياً)، ومُساعدة الفقراء والمُشرَّدين ومجهولي الهَوِيَّة، وتنظيف الأحياء والأماكن العامَّة، والتضامُن مع المُعتقلين وأُسرهم، وغيرها من التضحيات والاجتهادات (الأخلاقيَّة) المُقدَّرة، التي فشلت في تقديمها كياناتنا الهُلاميَّة وقادتها الانتهازيين، واكتفوا بـ(الفُرْجَة) وبعض البيانات (الهِزيلة)، وعيونهم على الغنائم التي أنهكت جسد السُّودان، وأصبح خواء من فرط (خِزْيِهِمْ) المُتواصل!
هذه الجهود والتضحيات الشبابيَّة المشهودة، تَجْعَلنا نُعوِّلُ عليهم كبديلٍ أوحد، لانتشالنا من الأزمات المُتواصلة وإعادة بناء الدولة، وهذا ممكنٌ جداً لو اتَّحد الشباب في كيانٍ واحدٍ بعيداً عن كياناتنا الانتهازيَّة، التي غدرت بهم وفشلت في توجيههم وقيادتهم لتحقيق وصناعة/إحداث التغيير، وعَجَزت عن وضع رُؤية/استراتيجيَّة لملامح/هيكل الدولة وكيفيَّة إدارتها بعد التغيير! وفي هذا الخصوص، فقد سبق وطَرَحْتُ فكرةً عمليَّةً وعلميَّةً مُتكاملة، عبر مقالاتٍ عديدة آخرها مقالتي (اَلْبَدِيْلُ اَلْمُقْتَرَح لِاقْتِلَاْعِ اَلْمُتَأسْلِمِيْن وَإِدَاْرَةِ اَلْسُّوْدَاْن)، لتوحيد الشباب السُّوداني في كيانٍ واحد، يستوعب مُتطلَّباتهم/طموحاتهم ومُبادراتهم، ويحفظ الخصوصيَّة والتعدُّدية العِرقيَّة/الثقافيَّة التي يتمتَّع بها السُّودان، بدلاً عن (الانخداع) بالكيانات المُتطفَّلة، أو الصغيرة الفاقدة لمُقوِّمات الاستدامة، أو الوقوع في بَرَاثِن الجَهَوِيَّة/القَبَلِيَّة. ويُمكن استلهام العِبَرْ مما يجري بفرنسا الآن، حيث (تَجَاوُز) المُحتجُّون الأحزاب والنقابات التقليديَّة، وتَشَكَّلَت الاحتجاجات من مُختلف (الطَبَقَات) الاجتماعيَّة الفرنسيَّة، وبفئاتٍ عُمريَّةٍ مُتفاوتة، ومِهَنٍ وقطاعاتٍ مُتنوِّعة، وبعَفَوِيَّة واضحة دون قيادةٍ مُوحَّدة. ويُسْتَفَادُ من التجربة الفرنسيَّة أيضاً، أنَّ لوسائل التواصُل الاجتماعي المُختلفة قُوَّة/فعاليَّة عالية ومُؤثرة، (لو أُحْسِنَ استغلالها) في حشد/تشكيل وتوجيه الرأي العام المحلي والعالمي، دفاعاً عن الحقوق دون (وِصَاية) الآخرين، وهو أمرٌ (مُجَرَّب/ناجح)، كالتجربة الفرنسية الماثلة، أو كما حدث سابقاً في تونس.
أقول لشبابنا السُّوداني الصامد، إنَّ ما قَدَّمتموه من تضحياتٍ واجتهادات تجد التقدير والاعتزاز، وستظلُّ خالدة فينا، تُذكِّرنا بِعَظَمَتِكُم ووعيكم العالي واستشعاركم للمسئوليَّة، لكنكم بحاجة لتحقيق الحُلم (الأكبر) الذي طَال انتظاره، وهو بناء دولة مُحترمة يعلو فيها الإنسان وكرامته وحقوقه، وتتساوى فيها الأنفس دون مُعاناةٍ وانكسار، وهذا حُلمٌ يُمكن تحقيقه بيُسر، لو (تَجَاوزتُم) الكيانات اللَّاهِية والعَابِثة، واستبدلتموها بكيانٍ واحدٍ يجمعكم لتُصبحوا قُوَّة هائلة يصعُب تحجيمها، بجانب استغلال وسائل الاتصال المُختلفة بالصورة المُثلى، للحشد والتنسيق والتخطيط والقيادة، وإهمال ما قد يشغلكم ويُلهيكم عن الحُلم الكبير.
إنَّ السُّودان بخير وثريٌ بموارده العديدة، وبه (فُرَصٌ) مُستقبليَّةٌ (تنمويَّةٌ واقتصاديَّةٌ) واعدة، والدليل (تَكَالُب) الطَّامعين على بلادنا وتخطيطهم لإغراقنا في أزماتٍ مُتواصلة، عبر المُتأسلمين والمُغامرين وتُجَّار الحرب وصائدي الفُرَص، حتَّى يصيبنا اليأس والإحباط، ونترك لهم مُقدَّراتنا التي يستكثروها علينا. نحن نحتاجُ فقط لأخلاقٍ (حقيقيَّة)، ووحدةٍ وطنيَّةٍ كاملة، لإنقاذ ما تَبقَّى من بلادنا وإعادة بنائها وتأهيلها، وليثق شبابنا بأنَّهم يملكون جميع مُقوِّمات النجاح، كالصدق والتَجَرُّد والحماس والقُوَّة والثقافة واستشعار المسئوليَّة، وهي جميعها تُؤكِّد أنَّ الفرصة لا تزال مُواتية للنجاة والخروج من هذا النفق المُظلم.