العنصرية وجذورها!

سأل الدكتور جون قرنق ديمبيور، في بداية تسعينات القرن الماضي، الشهيد داؤود يحي بولاد، عن سبب تمرده على الحركة الإسلامية، وهو ابنها وأحد قادتها افي اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في بداية السبعينات. تمرد بولاد وانضم الى الجيش الشعبي عام ١٩٩٠ بعد سيطرة اخوانه مباشرةً على السلطة في كل السودان. جاء رد بولاد على سؤال قرنق مفاجئاً لكثيرين بقوله ” وجدت أن علاقة الدم لدى الإسلاميين أقوى من علاقة الدين “،

فائز الشيح السليك

 

بقلم : فائز الشيح السليك 

 

سأل الدكتور جون قرنق ديمبيور، في بداية تسعينات القرن الماضي، الشهيد داؤود يحي بولاد، عن سبب تمرده على الحركة الإسلامية، وهو ابنها وأحد قادتها افي اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في بداية السبعينات. تمرد بولاد وانضم الى الجيش الشعبي عام ١٩٩٠ بعد سيطرة اخوانه مباشرةً على السلطة في كل السودان. جاء رد بولاد على سؤال قرنق مفاجئاً لكثيرين بقوله " وجدت أن علاقة الدم لدى الإسلاميين أقوى من علاقة الدين "، 

وليس بعيداً عن السياق ملابسات فوز غازي صلاح الدين العتباني في انتخابات حزب " المؤتمر الوطني " في عام ١٩٩٦ بأمانة الحزب الحاكم بقوة البندقية. ترك فوز العتباني ظلالاً كثيفة حول الدوافع العنصرية التي أقصت الشفيع أحمد محمد، القادم من دارفور، ولا تزال أصداء قوة الواقعة ترن في أذان الكثيرين.

معروف أن الحركة الإسلامية؛ منذ استيلائها على السلطة في عام ١٩٨٩، شرعت في الإعداد لوقود حروبها الدينية، تجييش عواطف ورفع مصاحف فوق أسنة رماح، ثم أرسلت جحافل الموت، وكتائب الكراهية تطارد الناس داخل كهوف جبال النوبة، ووسط أحراش جنوب السودان قبل انفصاله.

كانت قوافل الموت ترفع شعارات " الجهاد"، وتخرج من الحناجر هتافات مسمومة لوثت أجواء السلم الإجتماعي " فليعد للدين مجده، أو ترق منهم دماء، أو ترق منا دماء، أو ترق كل الدماء"، استخدمت الحركة الإسلامية خلال فترة حكمها الباطش وسائل دعاية رسخت لانقسامات حادة في المجتمعات السودانية، وما فتئت آلتها الدعائية الضخمة تضخ كل يومٍ خطابات مفخخة بالكراهية، وشيطنة الخصوم المختلفين سياسياً أو فكرياً.

الحقيقة أن " الإنقاذ " مثلت فقط ما طفى على السطح من جبل جليد العنصرية، وسياسات الاقصاء، التي نرى تداعياتها اليوم في عنصرية أفراد، وعنصرية مؤسسية تمثلها الدولة، وعنصرية مضادة، وكراهية تتوزع ما بين الغرب و" دار صباح"، بل أن بينما يشارك البعض الانقلابيين اليوم في نشر خطاب الكراهية وتوزيع البطاقات العنصرية. ويكفي لمعرفة ذلك جولة سريعة في مناوشات " الكلوب هاوس" ومداخلات " الفيسبوك" والفضاء السيبيري.

واذا مثلت الإنقاذ ما طفى على السطح من رأس جبل الجليد، فبالطبع ففي لا وعينا السياسي وعقلنا الجمعي تسكن الكتلة المتبقية من جبل الجليد، كامنةً مطمئنةً، و تتطلب مسألة معالجة " الصدمة" التي سببها التسجيل الفضيحة لكثير من الذين استمعوا إليه الوقوف طويلاً مع الذات، ونسبر أغوار النفس، و الاجتهاد في تحليل " ظاهرة العنصرية" واقصاء الآخر، وعدم احترام الاختلاف العرقي/ الثقافي/ النوعي/ الاجتماعي والديني.
تكون البداية من طرح تساؤلات حول من نحن؟ وماذا نكون؟ ولماذا نحن هكذا؟ ولماذا نرفض التنوع، ونعتمد في سلوكنا مع الآخر على صورة نمطية يرسمها عقل معياري يريد فرض تصوراته الكونية والإنسانية والعقلية على الآخرين.

يظل سؤال الهُويِّة في السُّودان من أهم أسئلة المصير السُّوداني، وقد أدى الفشل في الإجابة على هذا السؤال إلى خلق منظومة فكرية مهتزة، لا تقف على أرض صلبة، وإلى إطالة أمد الصراعات الدموية، و زيادة مساحات دوائر الاستقطاب الحاد، وانتشار العنصرية التي صارت سمةً لازمة في ظل الانحطاط الفكري والسياسي، والديني، فشكَّلت وجدانا شائها، وانتماءً زائفاً، وشخصيةً مُدعيِّةً، وعقلاً مسطحاً..

فشلت النُخَب السودانية في إيجاد قواسم مشتركة بين أبناء الوطن الواحد، بسبب عدم قدرتها على انجاز مشروعٍ وطني، يؤسس لدولة القانون والمؤسسات، فبقيت الدولة بمعناها المفاهيمي والوظيفي أشبه بالكائن الخُرافي ، أو قل هي طائر الرخ، الذي نسمع به ولا نراه، هي شيءٌ هُلامي، بلا ملامح، بلا وجود، بلا تأثير، لذلك ينسحب ولاء الشخص منها إلى الجهة، أو الطائفة ، أو القبيلة ، وفي داخل القبيلة يبحث الفرد عن البطون والفروع ، والعشائر والأسر الممتدة، وهي ليست ظاهرة في الأرياف القصية وحدها، بل صارت ظاهرة لا نستثني منها حتى المدن، والجامعات ؛ حيث تنتشر روابط القبيلة وأنديتها ، ولا تزال في العاصمة ذاتها نسمع عن روابط وأندية المحس، والزغاوة، والشوايقة

ليس من الغريب أن تسمع سودانيين يتبادلون نعوتاً عنصرية فيما بينهم في وضح النهار، بل وحتى في وسائل الإعلام، والتي تحوَّلت هي إلى مفارخ للجهل والتجهيل؛ بدلاً عن أن تتحول إلى منابر استنارة، ووسائل وعي، ومعرفة. صرنا كلنا لا نقبل بعضنا البعض، نسعى الى اقصاء المختلف عنا بكل الوسائل، إنسان الوسط يصف أبناء غرب السودان جميعاً بما فيهم ذوي الأصول العربية " بالغرَّابة" و" العبيد"، وإنسان الغرب يسخر من أبناء الوسط والجزيرة بوصفهم " عرب جزيرة"، وجميعهم يسخرون من أبناء الشرق، وجميعهم يسخرون من أبناء الجنوب، والجنوب يسخر منهم كلهم!. والغريب!.

إنّ أزمة الدولة الوطنية، واحدة من أزمات العقل السُّوداني السياسي، فاضطراب الهُوية، وغياب الدولة الوطنية، هو ما يقود إلى انتشار النعرات العنصرية، والانتماءات القبلية، والدينية ، وهو أمر يؤدي إلى بروز أهمية القبيلة وعلو كعبها فوق كعب الإقليم ، والتعصب للإقليم على حساب الدولة، فكان الانحياز للعرق والجهة ، وانعدام الانتماء للكيان الجغرافي الجامع، بهياكله المتحللة، لأنها تداخلت فيما بينها، وعجزت عن عكس هوية الجميع.

بدأت الدولة السُّودانية الحديثة في التكوَّن في القرن التاسع عشر، أي مع بدء الحملة التركية المصرية على السودان. دخل الأتراك بجيوشهم فوجدوا دويلات صغيرة، أة ممالك لكل مجموعة اثنية؛ الفونج، الفور ، المسبعات.

حين أرادوا التقدم نحو النيل الأزرق، رد عليهم الملك بادي السابع ، وهو أحد ملوك السلطنة الزرقاء، " لا يغرنكم انتصاركم على الجعليين والشايقية، فنحن الملوك، وهم الرعية"، وهي تأكيد على تناثر كيانات قبلية ، لا رابط وطني بينها، فهزيمة مجموعة من المجموعات لا يثير حمية وطنية لدى الآخرين لنجدتها، بل يختصرون الطريق بأن هؤلاء " رعية"!.

والسلطنة الزرقاء، أو سلطنة سنار، هي واحدة من مكونات العقل السوداني، ولو بشكله الإقصائي، أو القبلي، فهي مملكة " 1504م – 1821م" نشأت في تحالف بين قبائل عربية وأفريقية وافدتين، هما العبدلاب، وزعيمهم عبد الله جماع، والفونج ، وزعيمهم عمارة دنقس، وكوَّنت أول مملكة إسلامية سودانية. وساهمت في عملية التعريب والأسلمة التي انتشرت فيما بعد. لتتحول إلى أيدولوجيا " اسلاموعروبية" حاولت نسف ملامح السودان الكوشي، أو النوبي، وهي أول من وضع لبنة مفهوم " بوتقة الانصهار، وتكوين قومية سودانية، محصلتها إعادة إنتاج كل المكوِّنات السودانية الأخرى في سياق ثقافي واحد.

ما فعلته فضيحة تسجيل المحكمة أنها أزاحت طرفاً صغيراً جداً من ورقة توت صغيرة من عورات الإسلاميين، قد يقول قائل إن الحادثة فردية، نعم كان يمكن اعتبارها كذلك وأخذها ضمن سياقات سائد الثرثرة المجتمعية في المقاهي والمناسبات الاجتماعية. لكن يؤكد تاريخ وفكر وممارسات المنظومة أنها عنصرية واقصائية ومزدرية. لم تتعظ عن انقلاب يونيو، وها هي تدعم انقلاب أكتوبر.

وعبر التسجيل الفضيحة كذلك عن الموقف العام للجماعة المزردي للثورة وشبابها، فحديث صاحب التسجيل لا يختلف عن " أحاديث " الخبراء الاستراتيجيين" حول المواكب، وما يسوقون له بأنه خديعة ؛ باعتبار الثوار دمىً تحركها أيادي عابثة بأمن البلاد، ولا تريد خيراً لها، والغضب من لقمان مدير التلفزيون المقال لأنه سمح ببث مواكب ٦ أبريل!. أو ليست هي ذات البصمة والموقف؟!

شملت التحيزات العنصرية خلال الثلاثين عاماً كل مؤسسات الدولة، دور الحكومة، مؤسسات الأمن و المناصب الدبلوماسية، وفي التلفزيون نشير إلى ما حدث مع زميلنا السوداني الجنوبي، موبيور شريلو، مراسل قناة العربية استثناء، لقد أعادت له حكاية تسجيل المحكمة ذكريات مريرة، وكتب على حسابه في فيسبوك يوم أمس أنه تقدم قبل عشرين عاماً لوظيفة مذيع في تلفزيون جمهورية السودان، وكشف عن رفض طلبه، لأنه لا يحمل اسماً " عربياً"، ولأن ديانته مسيحية!.

بعيداً عن الحادثة؛ وليس بعيداً عن الموضوع نحتاج الى عمل دؤوب لمواجهة العنصريةـ بعد أن صارت داءً يستشري في جسد كل الوطن، ولا استثني جهةً، بما في ذلك أصحاب خطابات العنصرية المضادة من بعض منسوبي حركات المقاومة، نحتاج الى قوانين وتوعية، ومع ذلك فلن تنته العنصرية، فهي مثلها مثل الفقر والمرض.