إدانة كوشيب .. ترحيب واسع واختلاف في الدوافع

قاضية الدائرة الابتدائية في المحكمة الجنائية الدولية التي تلت حكم الإدانة على كوشيب- اكتوبر 2025-المحكمة الجنائية
أمستردام – الخميس 9 أكتوبر 2025م – راديو دبنقا
تواصلت ردود الأفعال المؤيدة لإدانة الدائرة الابتدائية بالمحكمة الجنائية الدولية للمتهم علي عبد الرحمن، الشهير بـ“علي كوشيب”، في 27 تهمة تتعلّق بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور خلال عامي 2003 و2004م.
وصدرت بيانات التأييد والترحيب بقرار المحكمة من عدة كيانات سياسية وحركات مسلحة، أبرزها:
(تحالف تأسيس – صمود – الكتلة الديمقراطية – الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا – حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد – تحالف التغيير الجذري).
في المقابل، لَزِمت الحكومة الصمت إزاء الإدانة، رغم مشاركتها في جلسات المرافعات الختامية في ديسمبر الماضي.
ويعكس اختلاف البيانات والمواقف تباين خلفيات الأطراف السياسية ومقارباتها تجاه العدالة الدولية.
وطالبت بعض الكيانات المدنية والمسلحة بتسليم بقية المطلوبين إلى المحكمة، مثل التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة السودانية “صمود” وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد. ويرى محللون ومدافعون عن حقوق الإنسان أن هذا الموقف حقوقي ومنسجم مع منطلقات العدالة الدولية، من حيث محاسبة الجناة دون تحيّز أو إفلات من العقاب.
في المقابل، أضاف تحالف التغيير الجذري، الذي يضم الحزب الشيوعي وكيانات أخرى، البرهان وحميدتي إلى قائمة الذين يفترض أن تطالهم العدالة الدولية.
بينما اتخذ تحالف السودان التأسيسي “تأسيس” – الذي يضم قوات الدعم السريع – من قضية إدانة كوشيب موقفًا سياسيًا لإدانة حكومة بورتسودان، بل طالب بتوسيع ولاية المحكمة الجنائية الدولية لتشمل استخدام الأسلحة الكيميائية في حرب 15 أبريل 2023م.
أما الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا والمتحالفة مع حكومة بورتسودان فقد أسقطت في بياناتها المطالبة بتسليم بقية المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، وفي مقدمتهم الرئيس السابق عمر البشير ووزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم محمد حسين ووزير الدولة بوزارة العدل السابق أحمد هارون.
وركزت تلك البيانات على الحرب الدائرة حاليًا والانتهاكات التي جرت خلالها، محمّلة قوات الدعم السريع مسؤولية جميع الانتهاكات.
براغماتية مُضِرّة
أكد الدكتور صلاح الدومة، أستاذ العلوم السياسية والمحلل المعروف، أن الوضع السياسي الراهن في السودان يتسم بتبدّل المصالح والتحالفات بين القوى السياسية والحركات المسلحة، معتبرًا أن كثيرًا من الأطراف “تلعب بالسياسة” وتتعامل ببراغماتية مفرطة تضر بالبلاد وبالقضية السودانية عمومًا.
وأوضح الدومة في مقابلة مع راديو دبنقا أن المرحلة الحالية تشهد ما يُعرف بـ“تضارب المصالح”، حيث يصبح أصدقاء اليوم أعداء الغد والعكس صحيح، مشيرًا إلى أن صمت بعض القوى عن تجاوزات معينة لا يعني بالضرورة موافقتها عليها، وإنما هو محاولة لتمرير أجندات خاصة أو حماية مصالح معينة.
وقال: “إن بعض القيادات تمارس سياسة (رجل هنا ورجل هناك)، وهذه البراغماتية الصارخة تضر بالجميع لأنها تضعف الثقة وتفقد السياسة معناها الأخلاقي.”
غياب الاهتمام بالمجتمعات المحلية
وانتقد الدومة بشدة مواقف بعض الكيانات التي فقدت ارتباطها بمجتمعاتها الأصلية، موضحًا أن هذه القيادات “لم تعد تأبه بالرأي العام أو بمعاناة الناس”، وإنما باتت مرتبطة بمصالح آنية ومحدودة تسعى لتحقيق مكاسب مادية مباشرة دون النظر إلى البعد الوطني أو الإنساني.
ووجّه الدومة رسالة إلى المجتمعات المحلية في دارفور وإلى القيادات التي تمثل الإقليم، مفادها أن قرار إدانة كوشيب يحمل دروسًا بالغة الأهمية، أبرزها أن الحق لا يضيع ما دام وراءه مطالب، وأن العدالة لا بد أن تتحقق عاجلًا أم آجلًا مهما طال الزمن.
وقال: “يجب أن نوثق كل شيء ونحفظ الأدلة، لأن يوم العدالة قادم لا محالة. الطغيان والجبروت لا يدومان، وسيقع المجرمون في شباك العدالة في النهاية.”
الدعوة إلى التعاون الدولي
وانتقد الدومة الخطاب الرافض للتدخل أو الدعم الدولي في حل الأزمة السودانية، واصفًا إياه بأنه “كلام فارغ ودعوة باطلة”، مبينًا أن قضايا مثل جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة تحتاج إلى دعم خارجي، تمامًا كما حدث في حروب التحرير عبر التاريخ.
وأضاف أن طلب المساعدة الدولية ليس منّة، بل حق مشروع، كونه جزءًا من التضامن العالمي الذي تكفله المواثيق الدولية وميثاق الأمم المتحدة.
الجنائية وتأثيرها على الأزمة السودانية
عبّر الدكتور صلاح الدومة عن اعتقاده بأن القرارات الأخيرة الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ستكون لها آثار إيجابية وقوية على مجريات الأزمة السودانية، موضحًا أن معظم القادة الفاعلين في الحرب الحالية ملاحقون قضائيًا، وأن هذه القرارات “أدخلت الرعب في نفوسهم وجعلتهم يعيشون لحظاتهم الأخيرة في السلطة”.
وأكد أن المعلومات والبينات المتداولة في هذه المحاكمات ستشكّل سوابق قانونية يمكن الاستناد إليها في محاكمات لاحقة.
واختتم الدومة حديثه بالتأكيد على أن العدالة الدولية تمثل بارقة أمل جديدة لضحايا الحرب والانتهاكات، وأن سقوط الأنظمة الظالمة حتمي لا محالة، مضيفًا أن قرارات المحكمة تسهم في تسريع هذا السقوط وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الإنصاف والمساءلة.
الانتهازية السياسية
قال الصحفي والمحلل السياسي عبد الحافظ عبد اللطيف إن البيانات التي صدرت من بعض الحركات المسلحة والقوى السياسية عقب إدانة المتهم علي كوشيب أظهرت تباينًا واضحًا في محتواها، مشيرًا إلى أن بعضها لم يخلُ من رائحة الانتهازية السياسية.
وأوضح عبد اللطيف في حديثه لـ”راديو دبنقا” أن معظم البيانات الصادرة عن الحركات والتحالفات الأخرى جاءت متشابهة إلى حد كبير، إذ ركزت على المطالبة بمحاكمة كل من شارك أو ساهم في ارتكاب الجرائم في دارفور، بينما حملت بعض البيانات نوعًا من التهليل لمحاكمة الخصوم، مقابل الصمت عن محاسبة الحلفاء، وهو ما يعكس ازدواجية واضحة في التعامل مع العدالة الدولية.
وأضاف: “هذا الموقف يوضح بجلاء أن المطالبة بالعدالة الدولية أحيانًا ليست سوى شعار، ويستغلها البعض كأداة سياسية؛ فحين يكون المتهم من صفوفنا نرفض المحاكمة، أما إذا كان من أعدائنا فنرحب بها.”
وأشار عبد اللطيف إلى أن بيانات مثل بيان تحالف صمود وبيان تأسيس وبيان حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، اتفقت جميعها على ضرورة محاكمة بقية كبار المتهمين في جرائم دارفور.
وختم عبد اللطيف حديثه قائلًا:”كنا نتمنى أن تتسم مواقف جميع الأطراف بقدر أكبر من الاتساق والمصداقية في المطالبة بالعدالة الدولية، وألا يكون الصوت خافتًا حين يتعلق الأمر بحليف، وعاليًا حين يتعلق بخصم. فالمبدأ الأخلاقي الحقيقي هو المطالبة بمحاكمة كل من انتهك حقوق المدنيين دون استثناء أو انتقائية.”
جدية المحكمة الجنائية
من جهته، أشار الكاتب الصحفي والمدافع عن حقوق الإنسان محمد بدوي المحامي إلى الترحيب الواسع من مختلف القوى السياسية والحركات المسلحة بإدانة علي كوشيب، واعتبر ذلك تأييدًا للمحكمة الدولية، مؤكدًا أن الإدانة حدث تاريخي.
وقال بدوي في حديثه لـ”راديو دبنقا” إن البيانات التي صدرت عقب الإدانة رحبت جميعها بالقرار، معتبرًا أنه يمثل انتصارًا حقيقيًا للضحايا، ولا سيما أولئك المتواجدين في معسكرات النزوح واللجوء في إقليم وداي بدولة تشاد قبل حرب أكتوبر 2021م، مشيرًا إلى أن عدد تلك المعسكرات تجاوز الـ21 معسكرًا.
وأوضح أن القرار يمثل خطوة جادة من المحكمة الجنائية بعد عشرين عامًا من إحالة ملف دارفور إلى المحكمة من قبل مجلس الأمن.
وأضاف أن التطورات تتسارع في ملف المطلوبين، حيث أظهرت تقارير إعلامية مؤخرًا تواجد الرئيس السابق عمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين، وزير الدفاع الأسبق، بمستشفى في قاعدة مروي بشمال السودان.
ولفت إلى أن أهمية الحدث تكمن في أن مطالبات المحكمة للسلطات السودانية، بما في ذلك زيارة المدعي العام لبورتسودان قبل أشهر، لم تُفضِ إلى نتائج مباشرة بشأن التسليم.
وأشار إلى أن إدانة كوشيب تفتح الباب للمطالبة بتوسيع نطاق المحكمة الجنائية ليشمل جرائم أخرى ارتُكبت خلال حرب أبريل 2023م، وألا يقتصر النطاق الجغرافي على إقليم دارفور فقط، مبينًا أن القرار يجعل من الصعب تجنّب تسليم بقية المطلوبين.
وأكد أن الترابط في الأفعال التي تمت إدانة كوشيب بها يشير إلى توصل المحكمة إلى أدلة دامغة، ما يفتح الباب أمام انتصار العدالة مستقبلًا في مواجهة بقية المطلوبين.
وأضاف أن هذه المواقف يجب أن تدفع نحو العدالة الوطنية باعتبارها مكملة للعدالة الدولية، من خلال الإصلاح القانوني واستقلال القضاء وتبني موقف صلب تجاه العدالة التي كانت الضلع الغائب طوال فترات الصراع في السودان.
الإدانة لا تقف عند كوشيب
قال التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة – صمود إن إدانة المحكمة الجنائية الدولية لا تقف عند شخص علي كوشيب فحسب، بل تمتد لتشمل كامل منظومة النظام البائد التي خططت ونفذت ووفرت الغطاء السياسي لتلك الجرائم.
ودعا التحالف المجتمع الدولي إلى تشديد الضغط على سلطات بورتسودان لتسليم جميع المطلوبين دون قيد أو شرط.
كما أعلن دعمه لتوصية لجنة بعثة تقصّي الحقائق في السودان التابعة لمجلس حقوق الإنسان، التي دعت إلى إحالة ملف الانتهاكات خلال حرب أبريل 2023م إلى المحكمة الجنائية الدولية.
العدالة لا تموت
من جانبه قال مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان، تعليقًا على إدانة علي كوشيب:”أينما حلّ العدل فنحن خلفه وندعمه بكل قوة وثبات.”
واعتبر الإدانة الدولية انتصارًا عظيمًا للضحايا الذين قضوا تحت وطأة الاختفاء القسري والتطهير العرقي والتهجير القسري، مؤكدًا أن العدالة لا تموت مهما طال الزمن.
وأكدت حركة تحرير السودان بقيادة مناوي أن إدانة كوشيب خطوة مهمة في تحقيق العدالة الدولية وانتصار لقيمها ومبادئها، متهمة قوات الدعم السريع بالاستمرار في ارتكاب انتهاكات أبشع مما ارتكبه كوشيب، ودعت إلى تصنيفها جماعة إرهابية.
الجرائم لا تسقط بالتقادم
واعتبر تحالف التغيير الجذري أن إدانة المحكمة الجنائية الدولية لعلي كوشيب تمثل انتصارًا للعدالة وإنصافًا لضحايا الجرائم البشعة التي ارتُكبت في دارفور، مؤكدًا أن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
وقال التحالف في بيانه إن جميع المجرمين ستلاحقهم العدالة الدولية والشعب السوداني، مشيرًا إلى أن العدالة ستطال البشير وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين والبرهان وحميدتي وكل من ارتكب الجرائم.