مستشفي الدروشاب ( سوشيال مديا )

منتدى الاعلام السوداني

الخرطوم في 16 مايو 2025  (أفق جديد) – على متن قاربٍ قديم، تعبر “ماجدة” النيل الأبيض نحو الضفة الغربية. لم يعد “الجبل” عاصماً لها، فقد وصلت قوات الدعم السريع وأعلنت سيطرتها على منطقة جبل أولياء جنوب الخرطوم. مثلَ كثيرين غيرها، تركت ماجدة كل شيء خلف ظهرها، لكن شيئاً واحداً ظل يشغل بالها: المستشفى الخاص بالمنطقة، حيث قضت عمرها كله تعمل في مهنة التمريض. كان آخر مكان غادرته في مسقط رأسها، بعد أن ألقت عليه نظرة أخيرة. تأكدت من إغلاق الأبواب والنوافذ، وإيقاف الأجهزة الطبية، ومن خلو الأسرّة من المرضى، في رحلتها نحو الأمان بولاية النيل الأبيض. كانت الأسئلة تعترض طريقها: من للناس هناك؟ من سيحقنهم؟ ومن سيعيد تركيب أكياس المحاليل (أو قسطرات المحاليل)؟ تمنت لو أن كل ما يجري مجرد كابوس ينتهي مع شروق شمس اليوم التالي.

يصادف الثاني عشر من مايو اليوم العالمي للتمريض، وهو يُحتفى به أيضاً في السودان. إنها لحظة يمكن فيها استحضار المعاناة التي واجهها الممرضون والممرضات في بلد يعيش واقع الحرب منذ عامين. ورغم هذه المعاناة، هي أيضاً لحظة لاستذكار مواقفهم وصمودهم في وجه النيران، دون أن يتخلوا عن أدواتهم، فكانت وقفتهم في خط النار رائعة وطويلة.

“كان علينا أن نخوض حربنا داخل الحرب”، هكذا تقول ماجدة لـ “أفق جديد”، وهي تستدعي تفاصيل ما جرى لها ولزملائها بعد اندلاع شرارة الحرب الأولى، وما تبعها من معارك كان عليهم خوضها من أجل توفير جرعة دواء لمريض أو تقديم خدمة إسعافية لجريح، خاصةً وأن الحكومة رفعت يدها، وأصبح ما كان يصل من علاجات في عداد المفقودين. يُضاف إلى ذلك مصاعب التشغيل اليومي: غياب الكوادر الصحية، نقص الوقود والكهرباء والدواء، وحتى الشاش الطبي. تقول: “كان علينا مواجهة كل ذلك وتوفير الخدمة، خصوصاً وأن المستشفى يقع في منطقة ذات كثافة سكانية عالية. انتصرنا على كل ذلك، لكن في نهاية الأمر هزمتنا قوة السلاح حين وصلت حتى العنابر. حتى النجاة بحد ذاتها كانت حرباً أخرى. خرجتُ أنا، بينما بقي مصير آخرين من الكوادر معلقاً حتى الآن، مثل المدير الطبي لقسم الحوادث في مستشفى الجبل، عبد الحميد خميس توفيق، الذي لا يزال الجميع ينتظر معرفة مصيره دون جدوى.”

مع ما سردته الممرضة الناجية من الحرب، تخجل حتى من أن تسألها عن شعورها في يوم الممرض السوداني. الحال هنا يغني عن السؤال، والحكاية هي مجرد عنوان لكتاب كبير اسمه “معاناة الكادر الطبي في السودان من الحرب وخلالها”، وبالطبع معاناة شريحة الممرضين الذين وجدوا أنفسهم في قلب الحرب؛ الحرب التي دخلت مستشفياتهم ولم يذهبوا إليها. يحكي ممرض عن معاناة من نوع آخر، عنوانها استهداف الكادر الطبي داخل المستشفيات أو في الشوارع وعند نقاط التفتيش (الارتكازات)، وتوجيه التهمة الجاهزة إليه بأنه يوالي أحد أطراف النزاع؛ تهمة التعاون ظلت حاضرة. وتحدثك أخرى عن ألم المستشفى المغلق وعن فقدانها لوظيفتها بعد أن نجحت آلة الحرب في تحطيم المستشفى الذي كانت تعمل فيه. في يوم الممرض السوداني، يصف أحدهم حاله بقوله: “حين وصلتُ إلى مكان عملي، وجدتُ معطفي الأبيض (اللابكوت) ملطخاً بالدماء، ليست دمي، ولكن دم سوداني كان له أسرة وحلم، وضعت الحرب نهاية لهما.”

في يوم الممرض السوداني، لا يمكنك مشاهدة أي شكل من أشكال الاحتفال في زمن الحرب. لقد أصبحت عملية استهداف ومهاجمة المقار الصحية ممنهجة أكثر منها عشوائية، بحسب تقارير أشارت إلى اعتداءات ضد الكوادر الصحية ونهب المستشفيات، وهو ما عرقل تقديم خدمات الرعاية الصحية، فضلاً عن أي إمكانية للاحتفال بيوم الممرض دون عمل. المفارقة أنه لا يوجد من يحتفل، فقد ساهمت الحرب في هروب كوادر التمريض من السودان بحثاً عن الأمان، بعيداً عن العنف وعدم الاستقرار السياسي، وبالطبع بسبب افتقار بيئة العمل لكل متطلبات أداء الوظيفة؛ فلا مرتبات تُدفع من الحكومة، ولا توريد للإمدادات الطبية في سودان الطرق المغلقة.

لكن، وفي ظل هذه الظروف، قرر الكثير من الممرضين الوقوف في خط النار وفي الخطوط الأمامية للقيام بواجبهم في إنقاذ أرواح الناس وسط الدمار. فعلوا ذلك في مستشفى “النو” بأمدرمان، الذي يديره متطوعون كبقعة ضوء وسط ظلمات الحرب، وفعلوا ذلك في مستشفيات الولايات التي وصلوا إليها في رحلات نزوحهم. بل واجه بعضهم الخطر في خضم المعارك وقدموا الرعاية الصحية للجنود المشاركين في الحرب، التزاماً بقَسَمِهم. اختار الكثيرون البقاء في مدنهم لتقديم الخدمة للمرضى، غير مبالين بالمخاطر التي واجهوها بكامل الصمود. ولم يغب هذا الصمود عن مواجهة الأوبئة التي ضربت البلاد، كالحميات والكوليرا، حيث واجه كادر التمريض في كوستي الوباء متسلحاً بالواجب.

قرر كثير من العاملين في مجال التمريض مواصلة رسالتهم والعمل وفقاً لظروفهم الجديدة في بلدان النزوح بعد الحرب، وتحديداً فئة الممرضات، حيث التحقن بالعمل في الدول التي وصلن إليها. والمفارقة هي أن شعار المجلس الدولي للممرضات لهذا العام هو: “ممرضاتنا مستقبلنا: قوة الممرضات الاقتصادية في الرعاية”، وهو الشعار الذي حملته الممرضات السودانيات لتعزيز اقتصادات أسرهن، وقمن بمهمة الرعاية الاقتصادية لأهلهن في ظل ظروف بالغة التعقيد. وكأنهن يُعِدنَ كتابة مفهوم فداء الآخرين، مثلما فعلت الممرضة وشهيدة الثورة “ست النفور”، حين قررت أن تمنح الوطن روحها فداءً لسودان الحرية الذي يمضي نحو العدالة والسلام.

في البلاد المنكوبة بالحرب، وأزمات الاقتصاد الخانقة، وانهيار النظام الصحي، ومع صور الدمار الذي شهدته المستشفيات في العاصمة الخرطوم، وعمليات النهب الممنهج للأجهزة الطبية، وفي ظل عجز الحكومة عن دفع رواتب الممرضين لشهور، ومع القصص اليومية التي تخبرك عن الأدوار التي تقوم بها هذه الفئة، لا شيء يمكن أن تُقدّمه سوى باقة ورد مكتوب عليها: “متشكرين ومقدرين يا ممرضات ويا ممرضين.

ينشر منتدى الإعلام السوداني هذا التقرير كجزء من مساهمات الإعلاميين في تسليط الضوء على انهيار النظام الصحي من جراء الحرب الدائرة في البلاد.

Welcome

Install
×