“الجوع يقتلنا”.. الفاشر المحاصرة.. من أكل علف الحيوانات إلى التهام جلودها
أطفال ونساء في انتظار الحصول على الطعام في احدي تكايا الفاشر- وسائل التواصل
منتدى الإعلام السوداني
الفاشر، 25 أكتوبر 2025 –(سودان تربيون)– تقول فاطمة حامد (75 عاما) وهي تغالب دموعها: “قبل يومين دفنت إثنتين من شقيقاتي وإبني، الذين استشهدوا في القصف، ولم أجد من يقف إلى جانبي.. أعيش في جحيم، إذ أصبحت مسؤولة عن عشرة أطفال لإبني الذي فقدته.. أقسم بالله، لم نتذوق طعاما منذ ثلاثة أيام.. أحياناً اتهاوى على الأرض من شدة الجوع.. “.
هكذا. في شوارع مدينة الفاشر الصامتة، يتردّد أنين الجوعى أعلى من أي صوت آخر. أطفالٌ بأجسادٍ هزيلة ينامون على بطونٍ خاوية، وأمهاتٌ يذرفن الدموع عجزًا أمام جوع أبنائهن. في هذه المدينة التي أنهكها الحصار وابتلعها الجوع، لم يعد في البيوت ما يُطبخ، وأصبح الموت البطيء ضيفًا دائمًا.
منذ مطلع أكتوبر الجاري، يعيش عشرات الآلاف من سكان الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، في عزلة تامة بعد اشتداد الحصار المفروض عليها منذ أكثر من عام ونصف. ولا توجد إحصائية موثوقة للعدد الكلي للمواطنين الذين ما زالوا تحت الحصار القاتل.
أكملت قوات الدعم السريع إنشاء سواتر ترابية ضخمة أحاطت بالمدينة من جميع الجهات، ما أدى إلى قطع جميع الطرق التي كانت تُستخدم لتهريب المواد الغذائية. ونتيجة لذلك، خلت الأسواق من السلع الأساسية، وارتفعت أسعار القليل المتبقي منها إلى مستويات تفوق قدرة الجميع.
النساء والأطفال وكبار السن هم الأكثر تضررًا من هذه المأساة، إذ يقضي كثيرون أيامًا دون طعام، لتعمّ مظاهر الهزال وسوء التغذية الحاد أرجاء المدينة. ومع ضعف الأجساد المنهكة، تتزايد المخاوف من كارثة إنسانية غير مسبوقة.
وفي ظل انقطاع المساعدات الإنسانية وصعوبة الوصول إلى المدينة، يخشى الأهالي أن تتحول الفاشر إلى “مقبرة جماعية صامتة” بعدما ضاقت بهم سبل الحياة. وبحسب ناشطين في غرف الاستجابة الإنسانية تحدثوا إلى “سودان تربيون“، يُقتل ما بين 5 إلى 7 أشخاص يوميًا جراء القصف العشوائي بالمدفعية الثقيلة أو الطائرات المسيّرة التابعة لقوات الدعم السريع.
ومع كل يوم يمر، تتراجع آمال السكان في وصول الغذاء أو رفع الحصار، بينما يستمر النزاع المسلح في ابتلاع ما تبقى من أرواح المدينة المنهكة.
الجلود آخر ما تبقى للأحياء
في ظل الحصار الخانق الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر منذ أشهر، تحوّلت حياة المدنيين إلى صراع يومي من أجل البقاء. فبعد تدمير الأسواق وإغلاق طرق الإمداد، وجد السكان أنفسهم أمام مجاعة حقيقية دفعت بعضهم إلى أكل جلود الحيوانات، بعد تنظيفها وحرقها، علّها تخفف شيئًا من ألم الجوع.
وقد لجأت قوات الدعم السريع إلى تدمير الأسواق، كان آخرها سوق محطة “أبو قرون” الذي تعرض للقصف بطائرة مسيّرة في أواخر سبتمبر الماضي، ما تسبب في مقتل عشرات المدنيين. كما أقدمت تلك القوات على تدمير المتاجر الصغيرة في حي “الدرجة الأولى” وقتل عدد من التجار، في خطوة تهدف إلى تجفيف مصادر السلع بشكل كامل.
موت بطيء وجوع قاسٍ
في مشهد يجسد حجم الكارثة الإنسانية، تابعت السبعينية فاطمة حامد رواية قصتها بصوت متهدج وهي تبكي أبناءها الذين فقدتهم في القصف. تقول لـ”سودان تربيون”: “أسكن خيمة من الجوالات، والقذائف تسقط حولنا.. الجوع يقتلنا وتوقفت التكايا، حتى الأمباز (علف الحيوانات)اختفى.. لا يوجد ما نأكله، وربطت بطني من الجوع.. أصبت بالعمى ولم أعد أستطيع السير..”. وختمت فاطمة حديثها بإطلاق مناشدة للعالم بقولها: “من شدة الجوع، لا أستطيع أن أسلك طريق النزوح، أخشى أن أموت في الطريق.. أناشد الجميع بمساعدتنا. هناك أشخاص ماتوا بسبب الجوع. أنقذوا ما تبقى من المدنيين، أنقذوا أحفادي قبل أن يموتوا”.
أم جريحة وأطفال جياع
حال فاطمة يشابه حال عشرات النساء، كانت مريم يحيى إحداهن، وهي أم لأربعة أطفال تعيش في مركز إيواء بعد أن فقدت منزلها وأُصيبت بشظايا قذيفة أثناء فرارها من جنوب الفاشر. تقول لـ”سودان تربيون”: “ساقاي مكسورتان، لا أستطيع المشي ولا أملك شيئًا. أطفالي لم يأكلوا منذ أيام، ووالدهم مفقود منذ شهرين. لا نعرف إن كان حيًا أم ميتًا.”
تختصر مريم معاناة آلاف النساء اللواتي يواجهن الجوع والخوف في مراكز الإيواء التي لم تعد تجد ما تقدمه.
كارثة إنسانية وشيكة
بحسب محمد إبراهيم نكروما، منسق مبادرة “الله يبردي” الطوعية، فإن الوضع في الفاشر بلغ مرحلة “الانهيار الكامل”. ويؤكد إن القصف المتواصل وتدمير الأسواق والمستشفيات ومراكز الإيواء أدى إلى توقف شبه تام للحياة المدنية، ويقول: “آلاف المدنيين محاصرون بلا طعام أو دواء. حتى التكايا التي كانت تطعم الناس توقفت. بعض السكان اضطروا لأكل علف الحيوانات، لكنه بدوره ندر وارتفعت أسعاره بشكل خيالي.”
ويؤكد محمد الخير الرفاعي، مشرف مبادرة “تكية وسقيا مطبخ الخير“، أن المطبخ اضطر لإعداد وجبات من نشاء الأمباز بسبب انعدام السلع الأساسية. ويصف الأسعار بأنها “جنونية”، حيث بلغ سعر جوال الدخن أو الذرة نحو 18 مليون جنيه سوداني (نحو 5 آلاف دولار)، وكيلو الأرز 500 ألف جنيه، وتجاوز سعر كيلو اللبن المجفف 480 ألف جنيه، وعلبة الكبريت الصغيرة 20 ألف جنيه.
نداء استغاثة
بين الدمار والجوع، يعيش المدنيون في الفاشر مأساة صامتة لا تجد صدى كافيًا في العالم. نداءات فاطمة ومريم وغيرهما تعكس صرخة مجتمع يُدفع إلى حافة الفناء.
إنها ليست مجرد أزمة غذاء، بل كارثة إنسانيةمكتملة الأركان، تتطلب تدخلًا عاجلًا من المجتمع الدولي لإنقاذ ما تبقى من الأرواح قبل أن يتحول الجوع إلى مقبرة جماعية.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (سودان تربيون) لإلقاء الضوء والتوثيق للمأساة الإنسانية المتفاقمة في مدينة الفاشر، حيث يعيش السكان تحت حصار خانق تفرضه قوات الدعم السريع منذ أكثر من عام ونصف. وقد أدى تدمير الأسواق وقطع الإمدادات إلى مجاعة دفعت المدنيين لتناول جلود الحيوانات، بعد نفاذ أعلافها، للبقاء على قيد الحياة.



and then