امستردام: الجمعة 19/يناير/2024:رادي دبنقا

كشف الدكتور عبد الرحمن الغالي، القيادي السابق بحزب الأمة القوي، أنه كان مهتما بالتوصل إلى أتفاق سياسي متفاوض عليه ينهي الأزمة السودانية حتى قبل اندلاع الحرب. وأكد الدكتور عبد الرحمن الغالي في حديث مفصل لبرنامج ملفات سودانية يبث يوم السبت القادم، أكد أنه التقى بعدد كبير من الفاعلين ليحذر من أن البلاد على شفا الحرب الأهلية وأنه من الواجب تغيير الأولويات السودانية لتضع منع الحرب في المقدمة ومنع أي تدخل أجنبي في الشأن السوداني ومن مطالبة الأقاليم بالانفصال أو بالاستقلال والتوافق على الحكم المدني الديمقراطي والعمل على استعادته. كان توازن القوى يتطلب أن تقدم الأطراف تنازلات متبادلة خصوصا توازن القوى ما بين العسكري والمدني.

ومضى الدكتور عبد الرحمن الغالي للقول طالبت حينها بفتح الاتفاق الاطاري لكل الأطراف طالما أن قوى الحرية والتغيير قد قبلت بوجود أطراف فاعلة في النظام السابق مثل حزب المؤتمر الشعبي والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، جناح السيد الحسن الميرغني. كما أنها قبلت أيضا بقوى مشاركة في انقلاب 25 أكتوبر مثل فصيل الدكتور الهادي إدريس وفصيل الطاهر حجر. وبما أن الحرية والتغيير قبلت بهذه التنازلات، فقد كان من المفترض فتح الاتفاق الاطاري لتنضم له حركة مناوي وحركة جبريل والحزب الاتحادي الأصل جناح السيد محمد عثمان الميرغني وابنه السيد جعفر. مثل هذه التنازلات كانت ستفتح الطريق على الأقل لإزالة الاستقطاب العسكري-العسكري وتفتح الطريق لتحول مدني، حتى ولو كانت هناك عقبات ستكون عقبات سياسية وهي أخف ضررا من الحرب.
وقال الغالي انه يعتقد أن الخلل كان يكمن في أن هنالك نظرة مثالية حدية جذرية، وأن بعض الناس تريد كل شيء أو لا شيء. الديمقراطية تقوم على منهج القبول المتبادل، تقوم على التنازل المتبادل، تقوم على الواقعية السياسية التي تعلي المصالح وتعيد ترتيب الأولويات حسب المصلحة الأولى وهي بقاء الوطن والمواطن، قبل السياسة والسياسيين يعني.
بعد نشوب الحرب لم يعد عزل احد امرا منطقيا
وأضاف القيادي السابق في حزب الأمة أنه في الفترة الأولى من الثورة الشعبية في ديسمبر، كان من المنطقي جدا أن يتم عزل المؤتمر الوطني باعتباره النظام الذي ثار عليه الشعب كله، وعليه أن يدفع ثمن أخطائه. وهذا كان منطقيا. الآن، نحن في وضع جديد، وضع فيه حرب أهلية، حرب داخلية بين فصيلين، كلاهما كان في فترة من الفترات تابعا للنظام القديم وانحاز للشعب لسبب أو لاخر في ثورة ديسمبر المجيدة، ولكن كلاهما انقلبا على النظام المدني الديمقراطي في 25 أكتوبر. ترتب على ذلك وضع جديد، فيه حرب داخلية، واحد الأطراف يعتقد بما في ذلك جزء كبير من الشعب السوداني المؤيد لجبهة (تقدم) ولقوى الحرية والتغيير بأن الحرب هذه أشعلها النظام السابق للعودة للسلطة. هنالك طرف آخر يرى أن هذا صراع سلطة بين الجنرالين، وهناك طرف يرى أن هذا الصراع هو صراع محاور إقليمية تريد أن تهيمن على السودان بواسطة أحد حلفائها. ولكن بغض النظر، وطالما أن هنالك اختلاف حول من تسبب في الحرب، وهنالك من يرى أن المؤتمر الوطني أو الإسلاميين هم من تسبب في الحرب. وطالما أن هذا الفصيل الذي يرى وقف الحرب أو يرفع شعار لا للحرب، فوقف الحرب يكون بالضرورة بالتفاوض السلمي. والتفاوض بالضرورة يكون مع المختلف معك، أو الذي تعتقد أنه أشعل الحرب، لأنك لا تتفاوض مع حلفائك أو المتفقون معك في الرأي.
النتيجة المنطقية لشعار لا للحرب هي التفاوض والتفاوض المنطقي يكون مع المختلف، وأنا قلت لهم إذا كنتم ترفعون شعار لا للحرب، وتريدون عزل الإسلاميين والمؤتمر الوطني، عليكم تغيير الشعار إلى نعم للحرب حتى القضاء على النظام السابق وعلى الإسلاميين وعلى المؤتمر الوطني. هذه نقطة، النقطة الثانية أنا أرى ضرورة هذا الحوار لسبب بسيط لأن الإقصاء والإقصاء المضاد في السودان ومنذ الستينات، ووقوع انقلاب مايو يربطه قطاع كبير من السودانيين بالخطأ في قرار حل الحزب الشيوعي. لذلك بالضرورة أن يكون الحل شاملا حتى لا يحدث في المستقبل مرارات أو غبن في المستقبل تعيد إنتاج الأزمة. المنطق الثالث في الدعوة لهذه المسألة، خلاف المعاناة الإنسانية الكبيرة، وضرورة وقف الحرب بأي ثمن، المنطق هنا أن الإسلاميين أو المؤتمر الوطني ارتكبوا انتهاكات فظة في السودان لمدة 30 عام وهذا امر واضح لكل سوداني. بالمقابل الدعم السريع، أو طرفي الحرب ارتكبا انتهاكات غير مسبوقة في فترة التسع أشهر الماضية. فطالما أنك وافقت على الجلوس مع طرفي الحرب رغم الانتهاكات الفظيعة التي حدثت، وبغض النظر عن مساواة الطرفين في حجم الانتهاكات، الجيش ارتكب انتهاكات والدعم السريع ارتكب انتهاكاتـ فلماذا رفض فكرة الجلوس مع المؤتمر الوطني بسبب انتهاكاته الطرفين مع الانتهاكات الفظيعة التي حدثت في الحرب. الأمر هنا لا يتعلق بكون المؤتمر الوطني جيد أو سيء، فهناك شبه إجماع أن المؤتمر الوطني قاد البلاد لكل هذه الكوارث خلال الثلاثين عاما الماضية.

شراء المستقبل
وأضاف الدكتور عبد الرحمن الغالي أنه تضرر من المؤتمر الوطني على المستوى الشخصي والحزبي، ولكن نحن نتحدث عن شراء المستقبل. السياسيون مسؤولون عن أرواح الشعب السوداني وعلينا الانتقال لمربع مجدي. والحوار الدائر في جدة حوار طرشان، لأنك تعتقد أن الجيش مسير، أو ليس من الأفضل التحدث مباشرة مع من يسير الجيش. أنا أعتقد أن كل الحجج التي تساق لرفض الحوار الشامل الآن في ظل الحرب غير منطقية، ومع إقراري التام بأن الإسلاميين أو تنظيم المؤتمر الوطني وجماعته تسببوا بغير شك في كوارث كثيرة بالسودان. وأنا بالنسبة لي شخصيا، أرى أن الدعم السريع ارتكب انتهاكات فظيعة جدا جدا، جعلت الشعب السوداني يفر بأرجله من المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع، الآن هنالك 8 مليون سوداني تركوا بيوتهم، 6 مليون داخل السودان و2 مليون خارج السودان. هذا يعني أن الانتهاكات التي حدثت ليست تفلتات وإنما انتهاكات عنيفة في طبيعة قوات الدعم السريع، ولكن مع ذلك إذا قبل الناس الجلوس مع الدعم السريع، وقبلوا الجلوس مع الجيش، فأنا لا أرى مانعا من الجلوس مع المؤتمر الوطني، إذا كان هذا يحل المشكلة. هناك نقطة مهمة، الجلوس معهم لا يعني إعادة إنتاجهم، لأنك تجلس مع كل السودانيين، كل القوى السياسية لتحدد كيفية إيقاف الحرب وما هو مستقبل السودان في النظام ال الديمقراطي الذي نريده وكيفية عدم مشاركتهم إلى آخره، هذا ممكن يكون فيه دورة المفاوضات.
عندما نتحدث عن التفاوض، فإننا نتكلم عن مسيرة تفاوض، وإذا كانت القوى السياسية بمجملها قد قبلت التفاوض، وسيكون في مقدور هذه القوى في أي لحظة وقف التفاوض إذا لم يتم التوافق على شروط مرضية للتفاوض تمنع إعادة تكرار التجربة. لكن أن ترفض القوى السياسية مبدأ الجلوس للتفاوض في حد ذاته فإن ذلك سلوك غير حكيم من أي شخص يمارس السياسة لأن السياسة هي أن تجلس مع عدوك ومن ثم ومن خلال طاولة التفاوض يمكن أن ترفض الشروط التي يضعها الإسلاميون لأنها ستعيد انتاج الأزمة وستعيدنا إلى نفس الممارسات السابقة وبالتالي نعلن عن عدم الاتفاق معهم. مثل هذه الأمور واردة في كل المفاوضات في العالم، لكن مبدأ الجلوس يجب ألا نختلف عليه.
علاقة الجيش بالاسلاميين
وأضاف الدكتور عبد الرحمن الغالي أنه لا يرغب في الدخول في قضية علاقة الجيش بالإسلاميين خصوصا وأنه لا يملك دليلا كافيا على هيمنة الإسلاميين على القوات المسلحة وهناك أسباب وشواهد كثيرة ومن بين هذه الشواهد انحياز قيادة الجيش الحالية للثورة وزجه بالإسلاميين في السجون، ثانيا حتى عمر البشير نفسه جلب قوات الدعم السريع إلى العاصمة بسبب خوفه من الإسلاميين نفسهم وبسبب خوفه من الجيش. كما أن قيادة الجيش الحالي، وأقصد الفريق البرهان، لديه طموح سياسي واضح قد يدفعه للاستعانة بالدعم السريع لضرب الإسلاميين والاستعانة بالإسلاميين لضرب الدعم السريع. إذن قضية سيطرة الإسلاميين على الجيش تظل موضوع تساؤل قد يكون صحيحا أو خطاءً. لكن بغض النظر عن كل هذه الفرضيات، تقدمت بمقترح لحل الأزمة السودانية: أولا هناك مرحلة وقف إطلاق نار وتمهيد للقضايا الإنسانية مثلما يحدث في منبر جدة لأن هذه القضايا فنية وعسكرية ويشارك فيها الجيش كمؤسسة وقوات الدعم السريع وتشمل نقاط التجميع وضمانات التجميع والقوة التي ستتولى الفصل بين القوتين وهذه قضايا فنية عسكرية يشارك في معالجتها طرفي الحرب.
أما الخلاف السياسي فيتم بحثه من وجهة نظري في منبر سوداني جامع يشارك فيه الإسلاميين سواء من داخل الجيش أو من خارجه وتشارك فيه كذلك القوى الديمقراطية سواء أن كانت من داخل (تقدم) أو من خارجها باعتبار أن (تقدم) هي إعادة تجميع لقوى الاتفاق الاطاري. وهناك قوى كثيرة لم تنضم إليها من بينها الحزب الشيوعي السوداني وهو قوة سياسية مهمة وكذلك حزب البعث الأصل وغيرها بجانب الإسلاميين أو المؤتمر الوطني وقوى الكفاح المسلح التي هي في الأساس قوى سياسية عبرت عن برنامج ومطالب سياسية بالسلاح مهما اختلفنا أو اتفقنا مع السلاح كوسيلة للتعبير عن المطالب. رغم الخلافات بين كل هذه المجموعات، لكن لا حل أمام السودانيين سوى بالقبول ببعضهم البعض، أي أن نقبل كل طرف ببرنامجه المختلف إذا كان ذلك سيقود إلى حل المشكلة بصورة شاملة ويتوافقوا على خارطة طريق تقود إلى تبني دستور يقر إقامة الدولة المدنية الديمقراطية، يقر تجريد الأحزاب من السلاح ويقر عدم تدخل الجيش في السياسة وتكوين جيش قومي موحد وأي قضايا أخرى يتم الاتفاق عليها في الحوار الجامع. الإسلاميون لن يستطيعوا فرض رأيهم على كل الشعب السوداني خصوصا وأن الهدف الأساسي هو وقف الحرب.
في كل الأحوال هم الآن حلفاء للجيش ومصيرهم مرتبط بعدم انتصار الدعم السريع في الحرب الحالية والجيش يتبنى نفس الفكرة في منع الدعم السريع من تحقيق انتصار. لكن هذا لا يغير في المعادلة والمفترض أن يتولى العسكريون القضايا العسكرية لتهيئة الجو لمعالجة القضايا الإنسانية، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة معالجة قضايا السودان وهي مرحلة يفترض أن يشارك فيها كل السودانيين للوصول لحل شامل للقضايا السودانية.

هل يقبل الخارج مشاركة الإسلاميين في الحل؟
وحول ما إذا كانت مشاركة الإسلاميين في ترتيبات وقف الحرب هي محل خلاف أيضا بين الشركاء الخارجيين في حل الأزمة، عبر الدكتور عبد الرحمن الغالي عن أسفه لحقيقة أن دور العامل الأجنبي في الأزمة السودانية أكبر من العامل الوطني وهناك مصالح متضاربة في المنطقة بشأن السودان والنظرة السياسية له.
أولا، هناك إجماع عربي-خليجي- غربي على رفض الإسلاميين وهذا واقع، ثانيا هناك إجماع عربي-خليجي-مصري لا يحبذ النظام الديمقراطي وأنا أتحدث هنا بصراحة شديدة لأن هذه القضية قضيتنا نحن السودانيين. حتى الغربيون يتحدثون شفاهه عن رغبتهم في رؤية نظام مدني في السودان، لكنهم لا يمارسون أي ضغوط على حلفائهم في المنطقة في هذا الاتجاه. وهنا يكمن مأزق السودان، فثورته العظيمة حين اندلعت لم تجد الدعم بالرغم من أنها أطاحت بالإسلاميين ومع ذلك لم تجد دعم عربي أو غربي حتى في مسائل مثل إعفاء الديون والمساعدات الاقتصادية وكل المنابر التي نفذت لدعم الحكومة الانتقالية كانت شفهية بدورها.
المصالح الأجنبية فرضت علينا وضع مصالح الدول فوق مصلحة الشعب السوداني وعلى القوى السياسية أن تكون مستقلة الإرادة حتى تتجنب فرض الإرادات الأجنبية وأن تشدد على أن استقرار السودان يمر عبر الإجماع الوطني وعدم إقصاء أي فصيل، ولن يحدث ذلك إلا إذا اتفقت كل القوى بما فيها (تقدم) والحزب الشيوعي وحزب البعث الأصل والحزب الاتحادي الأصل وحزب الأمة وكل حركات الكفاح المسلح على أنها ترغب في حوار سوداني-سوداني لا يقصى أحدا.
هذا الكلام ورد في خطاب حميدتي الأخير الذي أرسله بمناسبة انعقاد الدورة الطارئة لقمة الإيقاد حيث أكد على أن الحل لابد أن يكون بين جميع السودانيين ما يعني أن حديثه في هذه النقطة متقدم على خطاب (تقدم) التي وضعت استثناء. لذلك إذا قررت القوى المدنية السودانية الدخول في حوار سوداني-سوداني، فمن غير الوارد أن تنجح القوى الخارجية في فرض إرادتها وتطالب بعزل فصيل.
من الانتقادات الموجهة للبعثات الأممية في تجارب ليبيا والسودان والكونغو واليمن وغيرها، تدخل هذه البعثات والمبعوثين في تحديد أطراف الحوار الوطني في البلد المعني، وهذا خطأ. نحن كسودانيين علينا أن نحدد رغبتنا في حوار وطني جامع وأن يضع كل طرف أجندته على الطاولة. وإذا حاول أي طرف متعنت فرض خياراته بالسلاح أو بالقوة أو ببرنامج أيديولوجي محدد يفرض على الآخرين كما فعل المؤتمر الوطني، سيكون على بقية الأطراف ومن خلال طاولة المفاوضات أن أن توضح أن هناك طرف رافض وحينها سيكون هناك منطق في رفض مشاركته في الحوار.

لا نقبل أن تفرض اطراف أجنبية أجندتها على السودان
وأضاف د. عبد الرحمن الغالي في حديثه لراديو دبنقا، في ظل الحرب والتشريد الترويع، ينظر السودانيون للحرب بشكل مختلف عن السياسيين حيث أن أولوياتهم الأرواح والبيوت والأعرض والممتلكات وهم يدعمون أي جهد لإيقاف الحرب. الشعب السوداني والمواطن العادي يريد إيقاف الحرب بأي ثمن ونحن نريدها أن تتوقف عبر توافق وطني وإذا كانت هناك أي معوقات ستبرز على طاولة الحوار. أما الرفض قبل بدء الحوار أو إذا كان السبب في رفض شمولية الحوار فيتو أجنبي فسيكون ذلك أدهى وأمر. كحزب أو مجموعة سودانية إذا كان هناك فيتو غربي أو خليجي على الحوار مع جهات معينة، فمن الممكن أن يتوسع ذلك في المستقبل ليشمل أحزاب أخرى وهذا ليس من حقه. كمواطن سوداني من حقي تبني أي فكر، وأرفض مصادرة حق الفكر سواء أن كان يمينيا أو يساريا.

العدالة الانتقالية مفتاح الحل ام مقصلة الامل
وحول ما إذا كانت العدالة والعدالة الانتقالية من مفاتيح حل الأزمة الراهنة في السودان، قال الدكتور عبد الرحمن الغالي في حديثه لبرنامج ملفات سودانية أنه بادر بالتواصل مع قادة الحرية والتغيير في المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية قبل انقلاب 25 أكتوبر بأيام لينقل لهم أن الانقلاب العسكري سيقع لأن موعد انتقال رئاسة مجلس السيادة للمدنيين قد اقترب، وأنه ما لم يحدث تطمين لقادة الجيش والدعم السريع فلن يسلموا السلطة للمدنيين بالنظر إلى أن الجيش والدعم السريع ارتكبوا انتهاكات في عهد البشير، ثم عادوا وارتكبوا انتهاكات في فض الاعتصام وفي التعامل مع التظاهرات.
هناك ضرورة لحدوث توفيق في مسألة العدالة ما بين العفو المشروط وتسليم السلطة للمدنيين والسماح باستمرار الفترة الانتقالية وهو ما لم يحدث لأن من بيده السلطة العسكرية ويتم تهديده بالمحاكمة لن يسلم السلطة. الوضع بعد الحرب مختلف وأكثر تعقيدا بالنظر لأن الانتهاكات تجاوزت الناشطين والسياسيين لتطال مجموعات كبيرة جدا، وهناك مجتمعات تعرضت لإبادة جماعية وفق تقارير المنظمات الأجنبية وبالذات في غرب دارفور وحدث تهجير واسع للمواطنين، اعتداءات جنسية على النساء، نهب للممتلكات وتدمير للبنى التحتية.
كل ذلك يجعل ملف العدالة الانتقالية شائكا جدا لأن هذه الحرب طال تدميرها طرف ثالث، في الحروب السابقة كانت الأضرار للمواطنين أضرار جانبية، لكن الآن المواطن شعر أنه جزء من الانتهاكات وأنه مستهدف بها وبالتالي، لذلك يتطلب موضوع العدالة الانتقالية الكثير من الحكمة وسيعتمد على الوضع الذي ستنتهي عليه الحرب. انتصار طرف عسكريا على الآخر ستجعله يفرض رؤيته وينفد من العقوبة ويفرض العقوبات على الطرف الآخر.
لكن إذا تم التوصل لحل متفاوض عليه، ففي هذه الحالة يمكن مثلا الحديث عن التعويضات الجماعية مثلما كانت الفكرة في دارفور بتعويض من فقدوا بيوتهم وكذلك من فقدوا مصانعهم وغيرها من الخسائر. وطبعا في إطار مشروعات إعادة الإعمار من المفترض استقطاب أموال لمقابلة مثل هذه التعويضات. وفي رأي أن تقديرات الخسائر الحالية، حيث يتحدث البعض عن 20 مليار، وآخرون عن 120 مليار، تقديرات متواضعة جدا وأن الخسائر قد تصل إلى تريليون دولار إذا أخذنا في الاعتبار التكلفة اليومية للحرب وخسائر البنيات التحتية بشكل مفصل.
بغض النظر عن كل هذه الاعتبارات، من المفترض أن تضمن العدالة الانتقالية في بنود التفاوض. لكن في وجود قائد الجيش والدعم السريع وأن وقف الحرب رهين بموافقتهم، فإن ذلك سيدفعنا وتحت بند الاضطرار للبحث عن عدالة انتقالية تشتري المستقبل لأنهم سيستمرون في الحرب وارتكاب الجرائم من أجل الإفلات من العقاب ومنح القائدين الذين دمروا البلاد ضمانات حتى لا يدمروا ما تبقى منها ويقتلوا ما تبقى من الشعب السودان. يمكن القبول بمثل هذه الترتيبات.