ياسر عرمان: العودة الى داؤود يحى بولاد مرة أخرى ..

كتب الصديق العزيز عدلان أحمد عبد العزيز في إحدى مجموعات الاعلام الاجتماعي، والذي ما عاد اجتماعي إلا بالمعنى الأوسع لكلمة اجتماعي…

بقلم: ياسر عرمان

 

كتب الصديق العزيز عدلان أحمد عبد العزيز في إحدى مجموعات الاعلام الاجتماعي، والذي ما عاد اجتماعي إلا بالمعنى الأوسع لكلمة اجتماعي، ووجه لي سؤالاً مباشراً في معرض تعليقه علي مقالة قصيرة نشرتُها على صفحتي بالفيسبوك بعنوان (عائد عائد يا بولاد). قائلاً (تحياتي ياسر عرمان.. والعزاء في بولاد..اعتذر عن جهلي بما قدمه بولاد، وليتكم عرفتونا بفكر وعمل بولاد في ترقية حياة الانسان). وعلى الرغم من أن المجال يتسع للآخرين للكتابة عن داؤود يحى بولاد، فإنني أخذتُ ما قاله عدلان بجدية، فقد تعرفت على عدلان عبد العزيز قبل أكثر من (30) عاماً في أيام زاهرات وهو انسان جاد ومنحاز للفقراء، وتحمل تكاليف التعذيب في أقبية النظام في سنواته الأُول اتفقت معه ام اختلفت.

لا أدعي المعرفة الكاملة بداؤود يحى بولاد، ولكنه في آخر عام أمضاه في ضيافة الأرض وفي هذا العالم الفسيح، وقبل أن يصعد إلى بارئه في السماء التقينا، وما أجمل اللقاء مع الشهداء وكم هو موجع أيضاً. لقد كان داؤود يحى بولاد على عجلٍ كأنّ الريح تحته، وكادحاً إلى ربه كدحاً فملاقيه، وهو انسان ذو باعٍ طويلٍ في الحركة الاسلامية، وكلمة انسان هنا تسبق عبارة "الحركة الاسلامية"، وهذا مهم لأن الانسان كان دوماً هو القضية والرهان، إذا أردنا أن نترك عالمنا أفضل مما وجدناه.

داؤود من بُناة الحركة الاسلامية، ليس في السودان فحسب، بل حتى خارجه، فقد ذكر لي بأن الدكتور الترابي أرسله في الثمانينيات إلى الجزائر لمساعدة عباس مدني في بناء حركته، والحركة الاسلامية بحسبانها حركة أممية عابرة للأمم اكتشف داؤود إن أمميتها لم تغطي أمم وشعوب السودان دعك عن العالم، بل إنها لا تخلو من العنصرية وأمميتها محدودة الآفاق وإن رابطة الدم فيها أقوى من رابطة الدين، ولذا أجاب داؤود عندما سأله دكتور جون قرنق لماذا تركت الحركة الإسلامية، ذكر داؤود المهندس ( لأننى إكتشفت إن رابطة الدم أثقل عند الإسلاميين من رابطة الدين “I discovered that blood is thicker than religion” ، سيتضح ما عناه بولاد على نحو واسع واشمل فى عموم السودان ولاسيما فى دارفور بعد رحليه. وفي أزمنة لاحقة تقسّم الاسلاميون بين حجر العسل وحجر الطير والأحجار الكريمة ومن لا حجر له، وقد تحسّر دكتور الترابي نفسه على ذلك.

في أديس أبابا 1991، كان لقائي الأول بداؤود يحى بولاد ومعه يوسف حسن وآخرين وتحدثنا كثيراً عن تجربته وكيف إن الحركة الاسلامية لم تعبر حواجز الإثنية إلى الإكرام بالتقوى، وعن المطبات السياسية التي واجهها عندما تفرغ للحركة الاسلامية في دارفور، وقد لاحظ أن دكتور الترابي لا يحب أبناء القبائل الكبيرة مخافة استخدام نفوذهم، كانت تلك رواية داؤود، وبالطبع فإن لمخالفيه رواية أخرى. ومن المفيد تمحيص الروايتين، وبي شوقٌ ورغبة لأن أطلّع على كتاب من الشباب النابهين عن رحلة بولاد (من الحركة الاسلامية إلى الشعبية) فهي رحلة تستحق أن يكتب عنها، ومن قبل أعجبني كتاب الاستاذ عادل حمودة عن سيد قطب (من القرية إلى المشنقة) إذا اسعفتني الذاكرة، على الرغم من إن عادل حمودة في (الاتجاه المعاكس) لسيد قطب، ولكن بإمكانك أن تجرد سيد قطب من كل شئ إلا من شجاعته، فسيد قطب يمشي تحت (ظلال) الشجاعة، عدلان وأنا لم نشتري من بضاعة سيد قطب، ولكن بضاعته لها زبائنها حتى يومنا هذا.

في أديس أبابا وفي فندق الهيلتون، حضرتُ لقاءً بين داؤد والعم العزيز أحمد إبراهيم دريج، متعه الله بموفور الصحة، وكان حواراً شيقاً لا يخلو من الألم، كان بولاد يرى أن النظام امتهن كرامة الفور وأخذ أرضهم، ولا يغسل الأرض ويرجعها إلا السلاح، وأنه يعرف التنظيم الذي يحكم السودان جيداً، والقوة وحدها هي الرد المناسب، أما الاستاذ دريج، خلفه تجربته الطويلة، كان يرى أن توازن القوى لا يجعل من السلاح الرد المناسب، وأن دارفور وجنوب السودان أمران مختلفان وإنه لا يجب خلط الأوراق. وبعد سنوات من رحيل داؤود يحى بولاد، كنت أجلس إلى جانب الأستاذ دريج في عربة تنهب الأرض نهباً في المرتفعات الأريترية في طريقها إلى شرق السودان، وقد ترأس الأستاذ دريج تنظيماً مسلحاً هو التحالف الفيدرالي الذي أسسه مع الدكتور المناضل شريف حرير، والأستاذ دريج في المناقشة مع بولاد كان متفقاً بأن السودان لا يمكن أن يمضي مثلما كان في الماضي، ومضى داؤود في طريقه، ولا يزال الحوار بين العم دريج وداؤود لم ينتهي تواصله أجيالٌ جديدة. ومع إنني كنت منحازاً لوجهة نظر داؤود، ولكنني عبر الزمن والتجارب توصلت إلى الأهمية الفائقة لشخصيات وقيادات مثل مولانا أبيل ألير والدكتور فرانسيس دينق والأستاذ أحمد إبراهيم دريج، وإني لأخشى بأن المصانع التي أنتجتهم قد أغلقت أبوابها، فهؤلاء الناس جميعاً محبين للسودان ومخلصين لوطنيتهم.

داؤود تحلى بالشجاعة وأعلى نقاط شجاعته تجلّت في لحظتين من منظوري؛ الأولى حينما غادر الحركة الإسلامية وطرق أبواب الحركة الشعبية، فقد كانت تلك نقلة هائلة انسانياً وفكرياً وسياسياً وتتطلب قدرة على اتخاذ القرار، واللحظة الثانية التي تجلت فيها شجاعته حينما تم أسره، حيث حدثني أحد الحاضرين عن المناقشة الشجاعة مع أحد قادة النظام، الذي شتمه ونعته بأوصاف كثيرة، منها انضمامه للخوارج والصليبين، فردّ بولاد، من ضمن أشياء أخرى، وذكرّه بأنه كان حافظاً للقرآن الكريم حينما التقى به في مقاعد الدراسة وسأله أين كنت أنت من حفظ القرآن والدين؟ ورداً على انضمامه للحركة الشعبية، سأله بولاد عندما تأخذ آراضي الفور ماذا تتوقع مني؟! من الطبيعي أن أدافع عن آراضي أهلي، وموقف داؤود امتداد لنضالات طويلة في دارفور والسودان وقد حفّز بمواقفه هذه كثير من الشباب ولا سيما في دارفور على مقاومة هذا النظام، وهذه اضافة انسانية بتقديم التضحية والنموذج، ويجب ألاّ نسجن داؤود في مرحلته الأولى التي انتهت بخروجه من الحركة الاسلامية، هذا لا يعني ألاّ نحاسب تلك المرحلة، ولكن في حياة داؤود مرحلتين يمكن رؤية كل منهما بوضوح.

في مدينة طمبره في غرب الاستوائية في جنوب السودان كان لقائي الأخير بداؤود يحى بولاد في أغسطس 1991، حينما كلف الدكتور جون قرنق الرفيق أدوارد لينو أبيي وشخصي بنقل ذخيرة ومعدات عسكرية من مدينة توريت في شرق الاستوائية إلى الرفاق عبد العزيز آدم الحلو وداؤود يحى بولاد في غرب الاستوائية وهم في طريقم إلى دارفور، وكان الخريف في أوجه وسماء الاستوائية بلا أبواب تبث بثاً مباشراً من الأمطار والطرق قد تحولت إلى أنهر صغيرة والعربات التي تقلنا تذهب إلى أعماق الأرض وهذه حكاية أخرى.

كان يوم 28 أغسطس 1991 يوماً عصيّاً على النسيان، فبينما كنا نجلس مع عبد العزيز وداؤود جاء ضابط الاشارة (جور كوي) بإشارة من الدكتور رياك مشار لكل الوحدات العسكرية وعنوانها (لماذا يجب أن يرحل قرنق why Garang must go?) وبدأ انقسام قاتل داخل الحركة الشعبية لا زالت آثاره تجرجر أذيالها حتى اليوم في داخل الحركة الشعبية جنوباً وشمالاً، ووجه جون قونق بمواصلة الرحلة إلى دارفور وأمضينا أياماً معاً في نقاش ذلك الوضع المعقد ولم نلتق بعدها.

بالرجوع لسؤال عدلان واعطاء إجابة مباشرة له، أقول؛ أن قيمة بولاد فيما يتعلق بترقية حياة الانسان يحتاج هذا السؤال لدراسة مسيرة بولاد من الحركة الاسلامية إلى الشعبية، وإذا أتيحت لي فرصة بإمكاني المساهمة بمقالة أكثر توسعاً عن فترته في الحركة الشعبية، ولم التقيه حينما كان في الحركة الاسلامية، ويمكن القول أن أهم مساهماته الانسانية هو انتصاره لذاته الانسانية أولاً عندما اكتشف أن مشروع الحركة الاسلامية لن يصعد به إلى جبل مخضر الزرع ولا يخلو من العنصرية ويميل إلى الانحيازات الإثنية وبعيد عن الدين، وحينما توصل إلى هذا الاكتشاف الخطير لم يغلق فمه أو عقله ويمضي، بل قاوم هذا المشروع.

بولاد على عكس من تجربتنا نحن القادمين من تجارب اليسار، أبصر الاضطهاد القومي والإثني وقضايا الأرض والهوية بقوة أكبر من رؤيته لقضايا العدالة الاجتماعية وقيام مجتمع جديد من منظور شامل، وقد تأُثر بتجربته المحسوسة في دارفور والسودان حول قضايا الاضطها القومي والأرض والهوية والعنصرية. ومن تجربتي الخاصة، فإن حركات الهامش ظلت تلامس هذه القضايا بمعزل عن جذورها الطبقية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية العميقة في كثير من الأحيان، ودار حول ذلك صراع مستمر داخل الحركة الشعبية ولا يزال، ولم تسلم حتى رؤية السودان الجديد من التفسير والتأويل الإثني، والانفصال الشبكي بينما هو طبقي وما هو قومي. وفي عام بولاد الأخير الذي التقيته فيه، اعتقد أنه كان يشكل مرحلة انتقالية بين رؤية هجرها وأخرى لم يثبت أقدامه عليها بعد.

رحلة بولاد المزهلة ربما كان حصاده سيكون مختلفاً إن لم يزل على قيد الحياة، لكن بالامكان القول بأن الأسئلة الصعبة التي تواجه قضايا البناء الوطني ووحدة بلادنا واسهامها الإقليمي والعالمي ذات صلة بالأسئلة الكبيرة التي واجهت بولاد، وتواجه ملايين الشباب اليوم الذين يستحقون مشروعاً يزرع الأمل في نقوسهم، وتظل مساهمته الإنسانية الأرفع تتمثل في انحيازه لنفسه أولاً وإعلان موقف صريح ضد الاضطهاد القومي والاستيلاء على آراضي مواطنين سودانيين شديدي الارتباط بأرض السودان ماضياً وحاضراً، وقد كلفه هذا الموقف أغلى ما يملك؛ روحه والتي حينما قدمها انتزع انسانيته من بين فك الاضطهاد وأصبح نموذجاً، والتعمق في مسيرته ورحلة حياته يشكل وجبة حوار دسمه مع الاسلاميين السودانيين، فهم سوف يظلون قوى تستحق الاهتمام في مسرح السياسة السودانية، ويظل السؤال هل بامكانهم التحول من نقمة إلى نعمة؟ لا سيما أن المتربعين على دسة الحكم منهم قد قاربت بطاقات شحنهم على النفاذ.

تجدني من المعجبين بالنقلة الفريدة للشهيدين داؤود يحى بولاد والدكتور خليل إبراهيم مع اختلاف التجربتين، ولكن شجاعتهما لا تخطئها العين والجود يفقر والاقدام قتّال.

في خاتمة هذه العجالة، دعني أسجل لك عظيم شكري ووافر تقديري ويبقى الود الذي بيننا,

*7 مايو 2018*