محلل اقتصادي: شركات نافذة تخالف قرارات بنك السودان بشأن الذهب

ضبط ذهب مهرب في البحر الأحمر-صفحة الشركة السودانية للموارد المعدنية على فيسبوك


أمستردام – الجمعة 19 سبتمبر 2025م – راديو دبنقا

أصدرت السلطات السودانية سلسلة من القرارات بشأن الذهب، كان آخرها القرار الصادر يوم الأربعاء بتشكيل قوة مشتركة لمكافحة تهريب المعادن وحماية مناطق الامتياز المخصصة للتعدين بواسطة الشركات من التعديات.

وسبق ذلك قرار لجنة الطوارئ الاقتصادية برئاسة رئيس الوزراء كامل إدريس بتخصيص نافذة موحدة للذهب. وبالتوازي مع ذلك، أصدر بنك السودان المركزي قرارًا قضى بحظر شراء وتصدير الذهب من قبل الشركات أو من إنتاج التعدين الأهلي ومخلفات الشركات، وحصر هذه العمليات حصريًا في البنك المركزي أو الجهات التي يفوضها رسميًا.

وأوضح البنك في بيان صدر يوم الإثنين أن شراء وتصدير “الذهب الحر” الناتج عن التعدين الأهلي أو مخلفات الشركات داخل السودان سيتم عبر بنك السودان المركزي فقط، حسب أسعار البورصة العالمية والسعر المحلي السائد، على أن تتولى شركة مصفاة السودان للذهب تنفيذ عمليات الشراء.

كما أجاز القرار للمصارف استكمال الإجراءات المصرفية المتعلقة بتصدير الذهب لأغراض التصنيع أو إعادة التصدير، شريطة الالتزام بضوابط محددة، من بينها: الحصول على موافقة وزارة الصناعة والتجارة، استخراج شهادة من هيئة المواصفات والمقاييس، وتقديم شيك مصرفي أو خطاب ضمان بنكي يعادل قيمة الذهب، مع إلزامية إعادة الذهب المصدَّر بغرض التصنيع أو الإعادة خلال فترة لا تتجاوز شهرًا من تاريخ الشحن.

فقدان 80% من الميزانية

أكد المحلل الاقتصادي والكاتب الصحفي كمال كرار أن الدافع الأساسي وراء قرار حظر شراء وتصدير الذهب عبر البنك المركزي هو فقدان نحو 80% من مصادر إيرادات الميزانية. وقال إن الجزء المتبقي من الموارد يعتمد في الغالب على الضرائب أو على رفع التعرفة الجمركية بالدولار.

وأوضح كرار في حديثه لـ”راديو دبنقا” أن البنى التحتية للإنتاج المحلي الزراعي والصناعي معطلة أو مدمرة، ولا يوجد بديل عملي سوى مورد الذهب. وأضاف أن السلطة الحاكمة في بورتسودان تحاول السيطرة على صادرات الذهب لضمان حصولها على عملة حرة.

وأشار إلى أن التركيز على الذهب يرتبط بتوفير العملات الأجنبية الضرورية لتمويل الإنفاق العسكري، الذي يعتمد في معظمه على عملات صعبة لاستيراد السلاح. وقال إن وزارة المالية صرّحت بأن الحاجة ليست للعملة المحلية بل للعملات الأجنبية.

ورأى كرار أن مثل هذا القرار لن يحقق الاستقرار الاقتصادي ولا استقرار العملة، ولا سيما في جمع العملات الأجنبية، لأن قطاع التعدين — سواء الأهلي أو المنظم — كان يتبع مسارات واضحة لكنها غير رسمية.

وأوضح أن الإنتاج والتصدير كانا يتمان عبر قنوات غير رسمية، مضيفًا أن كثيرًا من إنتاج الذهب لا يمر عبر القنوات الرسمية. وحتى إن حاول بنك السودان شراء هذا الذهب وفقًا للقرار، فالمشكلة أن هذا الذهب لا يصل عادةً إلى المصفاة التي ستشتريه.

شركات عسكرية متنفذة

أوضح كرار أن شركات الامتياز والشركات العسكرية المتنفذة في قطاع الذهب لديها منذ زمن طويل منافذ وطرق تمكّنها من تصدير الذهب بوسائل غير رسمية، لذلك سيجد بنك السودان نفسه يتسلم فقط 10% إلى 20% من الإنتاج المتاح عبر القنوات الرسمية، بينما يبقى نحو 80% من الإنتاج خارج متناول المصافي الرسمية.

وقطع كرار بأن الأزمة لن تُعالَج ما دامت الدولة غائبة عن دائرة الإنتاج، وطالما بقيت ملكية الإنتاج حصرية لشركات الامتياز أو للتعدين الأهلي، فإن هؤلاء سيبيعون إنتاجهم لمن يدفع أكثر، وغالبًا ما يكون المشترون وسطاء مرتبطين بالتهريب.

وتابع قائلًا: إن الزيادة في قيمة الجنيه بالنسبة لجرام الذهب إن لم تُمرَّر عبر القنوات الرسمية فإنها تمر عبر من يدفع أعلى ثمنًا، وأن هذه المنظومة تعمل بعلاقات مع أجهزة رسمية وتحقق فوائد كبيرة لا يمكن لأي جهة مثل بنك السودان السيطرة عليها وحدها.

طباعة العملة

ونوّه كرار إلى أن بنك السودان يلجأ لطباعة العملة المحلية لشراء الذهب، وهو ما يساهم في تراجع قيمة الجنيه. وقال إن البنك ليس تاجرًا ولا مصنعًا يحقق أرباحًا، بل هو يطبع عملة محلية لشراء الذهب، وسيقنع الباعة والمنتجين بأن الشراء يتم وفق السعر العالمي لكنه سيدفع بالجنيه وبسعر صرف مقابل الدولار.

وتوقع أن يرفض كثير من منتجي الذهب هذه المعادلة لأن العملة السودانية متقلبة وصارت “ورقًا” في نظرهم، وبالتالي سيفضلون تصدير الذهب بالطرق التي يعرفونها للحصول على العملة الصعبة.

واستبعد أن يكون للقرار تأثير كبير على المستثمرين، مشيرًا إلى أن قطاع التعدين غير خاضع للقرارات الرسمية، وأن صغار المعدنين يبيعون لسماسرة مرتبطين بالتصدير والتهريب، ولا توجد جهة تلزمهم ببيع إنتاجهم لبنك السودان.

وأضاف أن هؤلاء لن يواجهوا مخاطر عند بيع الذهب لأي طرف، لا سيما وأن الدولة غير مشاركة في أي عملية إنتاج. وأكد أن مسارات البيع والتصدير متعددة، وحتى في السوق المحلي يصل الخام إلى المصنّعين بطرق مشابهة لطرق التهريب لإعادة تصنيعه كمشغولات ذهبية.

وتابع: إن التفاوض الذي كان يتم “فوق الطاولة” سابقًا صار الآن “تحت الطاولة”، وستستمر التجارة المحلية للذهب مع استمرار التصدير عبر التهريب، وفي نهاية المطاف سيكتشف بنك السودان أن الأموال التي طُبعت لشراء الذهب لم تُنتج شيئًا سوى زيادة المعروض النقدي، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع وتدهور القوة الشرائية للجنيه السوداني.

بورصة عالمية للذهب

وقال: إن فكرة بنك السودان بطباعة العملة لشراء الذهب يمكن أن تنجح فقط إذا كان المنتجون يخضعون للقرارات وتُدفع لهم العملة الصعبة بالسعر العالمي، لكن الواقع أن الحكومة تعيد تجربة “المجرَّب” وكل التجارب السابقة فشلت.

ورأى كرار أنه كان من الأفضل إنشاء بورصة خاصة بالذهب على غرار البورصات العالمية في بورتسودان أو الخرطوم أو أي موقع آخر، يتم توريد كل كميات الذهب إليها وتُتاح لأي جهة أو شخص فرصة الشراء بالعملات الحرة (دولار أو يورو أو جنيه إسترليني) وبالسعر العالمي.

وتابع قائلاً: “بهذه الطريقة يمكن أن يدخل النقد الأجنبي إلى السودان، وتتوفر للعملة الأجنبية لدى بنك السودان الذي بعد ذلك يتفاوض مع المنتجين حول سُبل إدخال العائدات إلى النظام المالي الرسمي”.

وأضاف أن موقف بنك السودان الحالي يتمثل في رغبته في شراء الذهب من المنتجين بالعملة المحلية “الجنيه السوداني” ثم تصديره للحصول على العملة الحرة، مبينًا أنه من حق المنتج أيضًا أن يبيع بالدولار بدلًا من التعامل مع وسيط يُدعى البنك المركزي.

ورأى استحالة تطبيق القرار على أرض الواقع، قائلاً: قد يحدث التفاف عليه عبر استغلال نصوص القرار نفسه التي تسمح بتصدير الذهب لأغراض إعادة التصنيع بشرط إعادته، ما قد يُفتح منفذًا لتصدير كميات كبيرة تحت ذريعة إعادة التصنيع دون إعادتها فعليًا، مما يفتح بابًا للفساد (مثل تسجيل تصدير أطنان بينما يُصرّح بأنها كيلوجرامات قليلة).

“الذهب الحر”

وقال كرار إن القرار يخص ما يُسمى “الذهب الحر”؛ أي ذهب التعدين الأهلي ومخلفات التعدين، لكنه لا يمس شركات الامتياز التي هي غالبًا أجنبية ولها الحق في تصدير كامل إنتاجها مع دفع العوائد والضرائب، إذ إن هذه الشركات لا يشملها القرار، بينما يشمل السودانيين العاملين في التعدين الأهلي.

وتابع قائلاً: في القرارات السابقة، حتى عندما سمح بنك السودان بتصدير ذهب التعدين الأهلي و”الكرتة”، كان يُشترط وضع ذهب التعدين في حساب بنوك تجارية يُسمى “حساب صادر”، بحيث يتصرف فيه صاحب الحساب لعمليات استيراد أو يبيعه للبنك الذي صدر به.

وأضاف: كان لهذا الحساب إطار زمني (خمسة أيام)، لكن الواقع أن الذهب الذي وُضع في هذه الحسابات كان ضئيلاً مقارنةً بالكمية المهرَّبة، ولم يكن هناك التزام تام بتطبيق النصوص، وحتى عندما وُفِّق في تطبيق بعض الإجراءات بقي السوق الموازي قائمًا يحكم تجارة العملة.

ولفت إلى أن الخزينة المركزية وبنك السودان لم يستفيدا فعليًا من هذه الإجراءات السابقة، وأن تجربة اليوم تُعيد نفس أخطاء الماضي. وأكد أن المسألة ليست أن بنك السودان يريد الشراء فحسب، بل هل الذهب ذاته معروض للبيع للبنك أم أنه يخرج عبر مصادر ومنافذ أخرى.

وحتى لو أُنشئت مصفاة للذهب، طالما استمر الوضع على حاله سيقفز بنك السودان “في الظلام”، ولن يجد ذهبًا كافيًا ليشتريه، وسيبقى معظم الذهب متداولًا بطرق أخرى.

شروط صندوق النقد

وأشار كرار إلى أن أحد شروط برنامج صندوق النقد الدولي كان عدم تدخل الدولة في قطاع التعدين، وهو ما يُشكّل قيدًا على إجراءات تقييد قطاع التعدين الأهلي أو “الذهب الحر”. ومع ذلك، تميل الدول للتصرف وفق واقع الحرب والضائقة المالية؛ فلا ميزانية متاحة والاقتصاد في حالة ضعف، والدولة نفسها غائبة.

وقال: لذا يحاول البنك المركزي فرض قرار كهذا على حساب المنتجين السودانيين، بينما تحتفظ شركات الامتياز بحق التعامل وفق الاتفاقيات والمعاهدات، واصفًا ذلك بأنه نوع من التعسف تجاه المنتجين المحليين. وبيّن أن التهريب لم يبدأ اليوم بل استمر منذ وقت مبكر، لأن قرارات مماثلة جُرّبت وفشلت.

مهمة البنك المركزي

وأعاد كرار التأكيد على أن مهمة البنك المركزي الأساسية ليست إصدار العملة فقط، بل الرقابة على السياسة النقدية والبنوك التجارية. لكنه استدرك قائلاً: إن هذا الدور أصبح ضعيفًا جدًا على مدى فترة طويلة.

وقال إن غياب الرقابة يظهر في قضايا عدة، منها نقص الاحتياطي المطلوب لدى البنوك مقابل ودائع العملاء، والاستثناءات الواسعة، وكذلك غياب الرقابة على حصائل صادر الذهب، حيث تتصرف البنوك التجارية بحرية دون مراقبة.

Welcome

Install
×