صلاح شعيب: طلاب دارفور بين عنصرية البشير وصوفية الياقوت

بلغ الألم مداه حين تابع قطاع عريض من السودانيين ما تعرض له أبناء دارفور من معاملة عنصرية بغيضة من النظام الحاكم. إذ منعهم من دخول الخرطوم …

 

صلاح شعيب

بلغ الألم مداه حين تابع قطاع عريض من السودانيين ما تعرض له أبناء دارفور من معاملة عنصرية بغيضة من النظام الحاكم. إذ منعهم من دخول الخرطوم ليتلذذ رجالاته بالوضع البائس الذي وجد فيه الطلاب أنفسهم تحت رحمة أحد شيوخ الصوفية الكرام. وقد هز هذا الحدث الذي أخذ بعد الأزمة طلاب دارفور بين عنصرية البشير وصوفية الياقوت الإنسانية كل صاحب ضمير حي في بلادنا المنكوبة، وجاد كل الوطنيين بما لديه من تقديم وجبات، ومساعدة حلول ممكنة، وكلمات تضامن. وسرنا أن السودان الاجتماعي ما يزال بخير وفير، ويحفز على مستقبل أفضل لنسيجنا القومي الذي استهدف لصالح مشروع رأسمالي طفيلي ليس إلا.
فقد كان الشيخ الياقوت عند حسن الظن به رجلا مسؤولا يبين عند الملمات، والكرب، كما هو شأن مشائخ بذلوا جهدا لسودنة التدين. حركته صوفيته، مع مجتمعه الصغير، للقيام بواجب هو من صميم عمل أي حكومة محترمة، بمنظماتها الاجتماعية الفرعية. وهكذا تثبت الأيام للسودانيين الفرق بين إسلام الصوفية وأخلاقها، وإسلام الإخوان المسلمين. ولذلك لا غرو أن تواجه الصوفية السودانية في زمن الإنقاذ استهدافا محموما لتمزيقها، أو ابتزازها، أو احتوائها. وفي حال فشل كل هذا الاستهداف يسعى قادة النظام إلى تعاونه السري مع الجماعات الدينية المتشددة للهجوم النظامي على كل الطرق الصوفية التى تربى آباؤهم وأجدادهم عليها.
وقد شاهدنا كيف أن النظام يسكت عن حرق القباب، ويتيح المجال لمتديني الوهابية للإساءة لرموزنا المتصوفة الذين قام على جهودهم التضادم السوداني لقرون. وكثرت شكاوى الصوفيين من سخرية المتطرفين بمشائخهم، والإزراء بنظراتهم الدينية، وتحطيم زواياهم، ونبش وحرق قبورهم، ولكن لا حياة لمن تنادي. فالنظام يسعد بتعاركات المكونات السودانية بعضها بعضا، ما دامت لا تمس وجوده، وما برح الضحايا ليس هم ضحايا المشروع الحضاري. كل هذا ليس بغريب على فئة خطفت الإسلام لتحارب به المسلمين السودانيين الذين يعوقون مشروعها الأممي، والذي يخدم أصحاب مشاريع مماثلة في العالم أكثر من وفائه لمشروع الصوفية الممتد لخمسة قرون في البلاد. وهو المشروع الذي صنع السودان الحديث، وحافظ على تنمية نسيجه الاجتماعي. والسؤال هو أين مشروع الإسلام السياسي، وتطرف الوهابيين، من هذا التاريخ المشرف الذي ساهمت فيه الصوفية؟ وهل ملك الإخوان المسلمون إنجازا في تحقيق الوحدة الوطنية التي ساهم فيها الإسلام الصوفي بشكل مباشر، وغير مباشر، خلاف فصل الجنوب، والسعي المحموم لتجزئة السودان؟
ولئن تجاهلت منظومات الاسلاميين (الخيرية) وضع طلاب دارفور فقد تولى الشيخ الياقوت، وقبيلته، وأهله، بما يملكون في بيئتهم الفقيرة، مسؤولية ضيافة هؤلاء الطلبة المنهكين والجوعى. ولعل الياقوت فعل هذا الصنيع، وهو مدرك أن هذا لن يرضي النظام. ولكنها هي صوفيته السودانية التي تربى، ونشأ، عليها ليبعث إلى أهل الحكم، والسودان قاطبة، رسالة شيخ شجاع مفادها أن هؤلاء أبنائه، وبناته، وضيوفه، وأنه لو لم تحركه إنسانيته لحركته قيمه الدينية.
على النقيض من ذلك كانت نخبة الخرطوم الإسلامية تتلذذ بمنظر الطلبة العزل، ولا تخشى من شئ إلا من دخولهم الخرطوم، مخافة أن يطيحوا بعرش الظلم، والبهتان، والجبايات. ولذلك حجزوهم هناك، وهم يتضاحكون في صوالينهم، ويستمتعون بالمعاناة التي يعايشها الطلاب. بل لاحقوهم في الخلاء الفسيح، والمدن، ليمنعوا عنهم الطعام الذي جاد به ذوو القلوب الرحيمة. وما إن صمتوا كلهم خرج علينا الطيب مصطفى ليستثمر عنصريته في هذا المولد، وليبني في احتياط حركته الاسلاموية الذي يتمثل في دولة صغيرة مثل قطر، إذا لم يكن هناك بد من إخضاع كل البلاد بالقهر، والجبروت، والابتزاز. ولما لعب صاحب الانتباهة دورا في فصل الجنوب شمر الساعد، وهكذا جاء غثاؤه ليكون الدور على دارفور، وبقية مناطق النزاع التي ظلت ثيمة أساسية في مقالاته التي تشيطن سياسييها، وطلابها، وقبائلها، ونخبها.
إن الشيخ الياقوت لم يترب دينيا بالخداع، والمكر، والجبن، حتى يترك ضيوفه من البنين والبنات ليكونوا نهبا لقفر العراء. وإنما حركته قيمه الدينية الزاهدة لإغاثة بني وطنه الذين توطنت العنصرية ضدهم منذ حين حتى كادوا يكفروا بالوطن. ولكن الطيب مصطفى وزملاءه لا يعرفون إلا المكر، والكذب، ولوي الحقائق، وتشويهها، للمحافظة على نظامهم الخرب الذي انبنى على قاعدة الخداع، والتزوير، واستحلاب رصيد الدولة المالي.
إن الذي حدث لطلاب دارفور في بخت الرضا يمثل جزءً من سياسة مدروسة لشحن كل الدارفوريين بالضيم المتواصل ليتجوهر الصراع في البلاد على ذيول عرقية، وحتى لا يبقى هناك أي مجال لوجود معارضة حقيقية تستند على أسس قومية، على أن يُغذى مجموع الوسط النيلي بالكراهية ضد أهل دارفور. ذلك رغم أن النظام يعتمد على الانتهازيين منهم للحفاظ على وجوده. ومن ناحية أخرى يهدف النظام بصنائعه العنصرية إلى شحن أهل دارفور بالكراهية ضد مكون الوسط النيلي حتى يقعوا في فخ مواجهة كل ما ينتمي للشمال، بينما يجلس قادة النظام هناك في مأمن، وهناك في وسائط التواصل الاجتماعي تحترب نخب دارفور ونخب الوسط النيلي. وبذلك تضعف مكونات المعارضة شيئا فشيئا، وتحترب إعلاميا بينها، ويفتك الصراع الإعلامي بين أبناء البحر وأبناء الغرب بإمكانية تحميل الحركة الإسلامية مسؤولية ما يجري في البلاد.
وللأسف انشغلت بعض مواقع الإنترنت، والقروبات، بسجالات شرسة وسط المعارضين الممثلين لمناطق النزاع، وزملائهم من الوسط النيلي. ورأينا كيف أن هذه الحوارات تبدأ بصورة موضوعية ثم ما تلبث أن تشهد عنفا لفظيا، وشتائم، وتخوين، واتهامات غليظة، تعمق في صدع المعارضة. ونحن ندرك بالطبع أن هناك خلافات جوهرية وسط المشاريع الفكرية للمعارضة حول بعض القضايا المتصلة بتحليل الصراع السوداني. وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى اختلاف مشارب النخب السودانية، ورؤاها، ومرجعياتها. بل إن هذه الخلافات ملحوظة في بنية التنظيم الواحد، والتي تحدث داخله العديد من محفزات الشقاق بسبب تنازع الأساليب التنظيمية، والفكرية، والأولويات، وأحيانا حتى الخلافات ذات الطابع الشخصي تُقنن بالحجج، وتبين بأنها تهدف لإصلاح التنظيم. ولكن نعتقد أن الحوار الموضوعي المثمر بين مكونات المعارضة حول تحليل الظاهرة السودانية ينبغي له أن يستمر، على ألا يكون سببا للتصادم الجغرافي بين هذه النخبة أو تلك، حتى لا يصب ذلك في إستراتيجية النظام الساعية إلى حسم الصراع بناء على الخطوط العرقية، أو الجهوية.
إن عنصرية نظام الخرطوم المتمثلة ضد طلاب دارفور، ومناطق أخرى، يجب ألا تثنينا عن البحث عن سبل أفضل لإسقاط النظام، وخلق سودان جديد يستجيب لتطلعات أهله، ويعالج كل المظالم الجغرافية، والجيلية، والجندرية. فضلا عن ذلك فإن الذين يتظلمون من هذه العنصرية يجب ألا تصيب أعينهم غشاوة دون النظر إلى الصراع السوداني من خلال كوة معرفية حتى تتبين لهم المعضلات الكبيرة المتعلقة ببناء دولة من العالم الثالث. فحل مشكلة العنصرية يمكن الوصول إلى تسوية بشأنها كما اعترف الشمال بحق الجنوب ضمن اتفاقية نيفاشا. وربما لاحظنا في بنود اتفاقات الحكومة مع حركات دارفور، والشرق، بعض الاعتراف بوجود نظرة عرقية حرمت نخب الإقليمين من عدالة التوظيف في دواوين الحكومة.
ولكن المشاكل الكبرى المتعلقة بدستور الدولة، وهويتها الدينية والثقافية، ونظامها الإداري والاقتصادي والتربوي، وعدالتها التنموية، هي المحك الأصعب عند التعامل معها لإيجاد الحلول. وربما لو ركزت الدولة السودانية عبر تاريخها لضبط هذه السياقات المتعلقة بالحكم لما وجدت العنصرية، أو التهميش، مجالا للظهور.
لا سبيل لطلاب دارفور جميعا إلا الاعتبار من حركة الإسلام السياسي التي انضم إليها بعضهم بحسن نية، ولكنها كشفت لهم عن نهجها العنصري البغيض بعشرات الأمثلة. وثقتنا كبيرة في كل أبناء وبنات دارفور في أنهم قادرون على مقاومة الظروف القاهرة التي يواجهونها في الجامعات السودانية، وأن تكون العراقيل الحكومية الممنهجة تحديا ملهما أمامهم للسير في درب التعليم بالصبر حتى يصلوا نهايته، وأن يراهنوا على المستقبل الذي سيصنعوا أعمدته مع زملائهم الآخرين من مختلف مناطق السودان.
إن هناك طريقا واحدا لإعادة بناء السودان وفق أسس جديدة تعيد هيكلته للحفاظ عليه. وهذا الطريق يتطلب تضامن أبناء السودان من الطلاب بعضهم بعضا في كل جامعات السودان لمقاومة التفريق وسطهم، وذلك بوصفهم رأس الرمح في التغيير. وهذا ينطبق أيضا على كل أبناء السودان الناشطين في حقل المعارضة. فما وجده أبناء دارفور من تضامن زملائهم في الجامعات الأخرى، وكذلك تضامن كل فئات المجتمع المعارض في ظروف هي نفسها تعاني القمع يجب أن يحملهم للثبات على مواقفهم الطليعية لمنازلة النظام، والإصرار على المساهمة في بناء وطن يسعى الجميع دون فرز طبقي، أو عرقي، أو ديني، أو جهوي.