أحد محلات بيع السلع الغذائية -مصدر الصورة ـ وكالة السودان للأنباء

أمستردام – الأربعاء 17 سبتمبر 2025م – راديو دبنقا
تقرير: سليمان سري

وجّه الخبير الاقتصادي د. وائل فهمي انتقادات شديدة للتقارير الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء بشأن مؤشرات التضخم، مشيراً إلى أنها لا تجد صدى لدى المواطنين، إذ ينظرون إليها على أنها بعيدة عن واقعهم المعيشي اليومي.

وقال فهمي في حديثه لـ”راديو دبنقا” إن المواطن غالبًا ما يواجه واقعًا مغايرًا للأرقام الرسمية، ما يضعف ثقة المستهلك ويؤثر سلبًا على توقعاته. ورأى أن المواطنين لا يأخذون هذه التقارير مأخذ الجد، في ظل فقدان الصلة أو التواصل بينهم وبين الجهاز المركزي.

وأعلن الجهاز المركزي للإحصاء، الأحد، عن ارتفاع معدل التضخم في أغسطس 2025 إلى 81% مقارنة بـ78.39% في الشهر الذي سبقه.

وشهد معدل التضخم في السنوات السابقة تصاعدًا متواليًا حتى بلغ 422% في يوليو 2021، قبل أن يبدأ في الانخفاض تدريجيًا إلى أن وصل إلى خانتين في يوليو 2025.

وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن إعلان ارتفاع معدل التضخم إلى 81% في أغسطس مقارنة بـ78% في يوليو لا يعد مجرد زيادة طفيفة، بل هو تأكيد على استمرار تصاعد الأسعار، وهو ما يمثل اعترافًا من الحكومة بعدم قدرة السياسات الحالية على كبح جماح الغلاء.

وأضاف: “الناس يشعرون بغلاء المعيشة في حياتهم اليومية أكثر مما تعكسه الأرقام الرسمية، وهذا الضعف في المصداقية يؤدي إلى تراجع توقعات المستهلكين وغياب الثقة”.

التضخم “مرض اقتصادي”

وصف الخبير الاقتصادي د. وائل فهمي التضخم بأنه “مرض اقتصادي” يؤدي إلى إيذاء الاقتصاد القومي قبل أن يؤذي المواطن، مؤكداً أن الهدف الأساسي للسياسات الاقتصادية هو المواطن نفسه، وبالتالي فإن تضرره من ارتفاع الأسعار ينعكس مباشرة على تراجع الأداء الاقتصادي العام.

ودلّل فهمي على ذلك بقوله: “يتفق كبار الاقتصاديين ومؤسسو علم الاقتصاد الحديث، من آدم سميث وكينز وصامويل سون إلى ميلتون فريدمان والحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد، على أن التضخم – خاصة عند مستوياته الجامحة – يمثل أسوأ الأمراض التي تصيب اقتصادات الدول، وهو ما يشهده السودان حالياً في ظل ظروف الحرب والانهيار الاقتصادي”.

663 سلعة.. واقع بعيد عن المواطن

وانتقد د. وائل فهمي خلال حديثه لـ”راديو دبنقا” المعيار الذي اعتمده الجهاز المركزي لقياس معدل التضخم بالاستناد إلى 663 عينة من السلع والخدمات التي يستهلكها المواطن، موزعة على عدة مجموعات استهلاكية، معتبراً أن الرقم بعيد عن واقع المواطن العادي.

وقال: “من المستحيل أن يستهلك فرد واحد هذا العدد من السلع والخدمات خلال عام. هذه سلة إحصائية للمجتمع ككل، لكنها لا تعكس حياة المواطن اليومية، الذي يضطر لتقليص استهلاكه إلى سلع محدودة جداً”.

وأضاف: “يعكس الارتفاع المستمر في المستوى العام أو المتوسط لأسعار السلع والخدمات الـ663 التي اعتمدها الجهاز المركزي للإحصاء حجم السلع والخدمات ذات الوزن الهام في دخل المستهلكين، والتي بالتأكيد لا يستهلكها كل مواطن على حدة، وإنما تستهلك جماعياً”.

وشدد على أنه يجب التنبيه إلى أن انخفاض التضخم لا يعني نهائياً انخفاض المستوى العام لأسعار السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون، بل على العكس، يعني استمرار الارتفاع في المستوى العام للأسعار.

وقال: “بالنسبة لشهر أغسطس 2025، فقد ارتفعت الأسعار بنسبة 81%، وهو معدل جامح بالمقارنة مع قدرات السودان الإنتاجية الضعيفة، خاصة خلال الحرب الحالية”.

ورأى أن المواطن بات يبحث عن بدائل أرخص وأقل جودة، ما ينعكس سلبًا على صحته وأدائه العام في العمل والحياة، ويؤدي إلى ركود اقتصادي وتفشي البطالة والفقر.

وتابع قائلاً: “فالتضخم يعني استمرار غالبية المستهلكين في تدهور مستويات معيشتهم، بسبب إعادة توزيع الدخل القومي لصالح الأغنياء، عن طريق تخفيض كميات مشترياتهم – جبراً – من السلع والخدمات”.

وأضاف: “بل وتخفيض جودتها عما كان يُشترى من قبل، للحفاظ – ما أمكن – على الحصول على أكبر كمية ممكنة من سلع وخدمات لتوفير مستوى الإشباع اليومي بما هو متاح لهم من دخول نقدية في جيوبهم أو في المصارف”.

“تضخم دفع التكاليف”

ووصف الخبير الاقتصادي طبيعة التضخم السائد خلال الحرب الحالية بالسودان بـ”تضخم دفع التكاليف”، قائلاً إنه ناتج عن تدهور قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وزيادة أسعار الوقود ومدخلات الإنتاج.

وأضاف: “هذا فضلاً عن ارتفاع تكاليف النقل والرسوم الحكومية المتعددة، والاعتماد المتزايد على الواردات بسبب تدمير القاعدة الإنتاجية، وزيادة الضرائب والرسوم الجمركية، وطباعة النقود، وارتفاع تكاليف النقل في إطار تنامي قوى الحصار الدولي على السودان”.

وأكد أن التضخم الراهن لا يرتبط بجذب الطلب الكلي، الذي انهار موضوعياً بسبب تدمير وتوقف العديد من الوحدات الإنتاجية خاصة في الولايات ذات الاقتصادات الكبيرة، ما خلق بطالة حادة في الاقتصاد السوداني.

الحضر والريف

ولفت د. وائل فهمي إلى أنه من الطبيعي ألا يختلف معدل التضخم بالمناطق الحضرية عن الريفية، وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للإحصاء نفسه بنسبة 83% لكل، وعزا ذلك إلى استمرار الحرب المدمرة للقواعد الإنتاجية للاقتصاد السوداني.

كما أرجع ذلك أيضاً إلى اعتماد المدن على الاستيراد بصورة أكبر، وإلى تدمير الحرب للأسواق والوحدات الإنتاجية سواء الزراعية في الريف أو الصناعية في المدن، إلى جانب سياسات “دفع التكاليف” الانكماشية للإنتاج.

وأشار إلى أن ذلك أدى إلى ندرة في السلع بسبب تقليص مستمر في المعروض الوطني وصعوبة النقل، في ظل المساهمة القوية للكوارث الطبيعية (السيول والفيضانات) وانقطاع الطرق، سواء بفعل هذه الكوارث أو الحرب، واتساع قاعدة الاقتصاد المعيشي حيثما أتيحت الظروف.

وأضاف قائلاً: “كل ذلك، إلى جانب عوامل جزئية أخرى، لا يساعد في استقرار الأسعار للمواطنين، وبالتالي للاقتصاد القومي وتنافسيته الدولية”.

كما أشار إلى أن الحكومة لجأت في فترات سابقة إلى زيادة أسعار الوقود أكثر من مرة خلال أسبوعين فقط، وهو ما انعكس مباشرة على تكاليف النقل وأسعار السلع، ودفع الاقتصاد والمواطن معاً في الريف والمدن إلى دائرة الإنهاك المستمر.

وقال إن المواطن – خاصة محدود الدخل في الريف أو الحضر – يظل يصارع لتلبية احتياجاته اليومية بتقليص الإنفاق على كثير من السلع والخدمات، وإعادة تخصيصه للبنود التي لا يستطيع الاستغناء عنها كالخبز والدواء والمواصلات.

التضخم كحلقة مفرغة

وحذر الخبير الاقتصادي في حديثه لـ”راديو دبنقا” من أن استمرار التضخم الجامح يدخل الاقتصاد السوداني في ما سماه “الحلقة الحلزونية المفرغة”: ارتفاع أسعار الـ663 سلعة وخدمة يؤدي إلى تدهور مستوى المعيشة، وهو ما يقلص النشاط الإنتاجي، بما ينعكس في تفاقم كارثتي الفقر والبطالة وزيادة الفاقد في الناتج المحلي الإجمالي، وتفاقم أزمات الديون العامة واستمرار تناميها، خاصة مع استمرار الحرب.

وخلص إلى أن التضخم كارثة، وأن استمراره خلال الـ35 عاماً الماضية جعل الشعب السوداني يعاني منه، بخلاف فترة الحرب، مؤكداً أن معالجة التضخم تتطلب قرارات عاجلة تراعي حماية المستهلك وضمان توفير السلع الأساسية بأسعار معقولة.

Welcome

Install
×