القاسم المشترك بين أطروحات (الخبراء الاستراتيجيين) و(الحكماء الاستراتيجيين)

شهدت الساحة السياسية السودانية والفضائيات العربية انتشاراً غير مسبوق (للخبراء الاستراتيجيين) بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 مبررين وقوعه وداعين لاستمراره. كما عرفت الأيام القليلة الماضية نشاطاً مركزاً (للحكماء الاستراتيجيين) الذين جزموا باحتكارهم لناصية الحكمة والدراية الاستراتيجية لمعالجة كافة تحديات السودان المستقبلية ومعضلاته الآنية. وحرصت المجموعتان على تنميق طرحهما بالإيعاز بمعرفتهما التفصيلية للنهج الاستراتيجي، أحدهما من منطلق الخبرة والآخر من منطلق الحكمة. فبالنسبة للخبراء الاستراتيجيين فقد طرحوا بوضوح انحيازهم لاستلام الجيش للسلطة في 25 أكتوبر 2021 لتجنيب البلاد مخاطر الفوضى والتدخل الأجنبي. أما مجموعة (الحكماء الاستراتيجيين) الذين تزامن طرحهم مع بداية عملية الأمم المتحدة التشاورية فقد طغى على طرحهم التعويل على توجس (الخبراء الاستراتيجيين) من التدخل الأجنبي بتوقيت انتشارهم الإعلامي مع التجاوب الواسع الذي لاقته عملية يونيتامس من كافة أطراف الانتقال. وطغى على طرح (الحكماء الاستراتيجيين) التوافق مع أطروحات (الخبراء الاستراتيجيين) بتبني الشعار الشعوبي الخاسر الذي رفعه النظام السابق لثلاثين سنة “سودانية بس”. وقد لاحظ كثير من الناس الثقة المفرطة التي غلبت على أسلوب طرح (الحكماء الاستراتيجيين)، واعتقادهم الجازم باحتكارهم للحكمة وإيمانهم برجاحة طرحهم في معالجة تحديات السودان المستقبلية والآنية مقارنة بسواه من الأطروحات الوطنية والدولية.

بروفيسور/ مكي مدني الشبلي

 

 بقلم: بروفيسور/ مكي مدني الشبلي

 

شهدت الساحة السياسية السودانية والفضائيات العربية انتشاراً غير مسبوق (للخبراء الاستراتيجيين) بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 مبررين وقوعه وداعين لاستمراره. كما عرفت الأيام القليلة الماضية نشاطاً مركزاً (للحكماء الاستراتيجيين) الذين جزموا باحتكارهم لناصية الحكمة والدراية الاستراتيجية لمعالجة كافة تحديات السودان المستقبلية ومعضلاته الآنية. وحرصت المجموعتان على تنميق طرحهما بالإيعاز بمعرفتهما التفصيلية للنهج الاستراتيجي، أحدهما من منطلق الخبرة والآخر من منطلق الحكمة. فبالنسبة للخبراء الاستراتيجيين فقد طرحوا بوضوح انحيازهم لاستلام الجيش للسلطة في 25 أكتوبر 2021 لتجنيب البلاد مخاطر الفوضى والتدخل الأجنبي. أما مجموعة (الحكماء الاستراتيجيين) الذين تزامن طرحهم مع بداية عملية الأمم المتحدة التشاورية فقد طغى على طرحهم التعويل على توجس (الخبراء الاستراتيجيين) من التدخل الأجنبي بتوقيت انتشارهم الإعلامي مع التجاوب الواسع الذي لاقته عملية يونيتامس من كافة أطراف الانتقال. وطغى على طرح (الحكماء الاستراتيجيين) التوافق مع أطروحات (الخبراء الاستراتيجيين) بتبني الشعار الشعوبي الخاسر الذي رفعه النظام السابق لثلاثين سنة “سودانية بس”. وقد لاحظ كثير من الناس الثقة المفرطة التي غلبت على أسلوب طرح (الحكماء الاستراتيجيين)، واعتقادهم الجازم باحتكارهم للحكمة وإيمانهم برجاحة طرحهم في معالجة تحديات السودان المستقبلية والآنية مقارنة بسواه من الأطروحات الوطنية والدولية.

وفي إطار التفاعل مع دعوة (الحكماء الاستراتيجيين) للمواطنين السودانيين لإبداء الرأي حول رؤيتهم، تنبع الضرورة لتسليط الضوء على مدى الاتساق والتماسك الداخلي لمنهج (الحكماء الاستراتيجيين) بالاهتداء بالمسلمات الأساسية المتعارف عليها في أدبيات مبادئ التخطيط الاستراتيجي. ويرمي ذلك التناول لمساعدة المواطنين المتأثرين بالأسلوب الصارخ لعرض ذلك النهج حتى يتخذوا مواقفهم تجاهه على هدى استنارة واعية بخلفياته ومآلاته. وفيما يلي استعراض وجيز لجملة من المآزق والإشكاليات الجوهرية التي تفت في عضد رؤية (الحكماء الاستراتيجيين):
يتجلى المأزق الأول في طرح (الحكماء الاستراتيجيين) جنوحهم للتركيز على المستقبل البعيد. وهذا يتنافى مع صلاحيات الفترة الانتقالية التي ينحصر مداها الزمني القصير في الإيفاء باستحقاقات السلام والانتعاش الاقتصادي وتهيئة البيئة المناسبة لإجراء الانتخابات. وذلك فضلاً عن أن الوقت اليسير المتبقي من الفترة الانتقالية لا يسمح بإعداد وتنفيذ حتى “صلاحيات مرجعية” لمهام مباشرة الأمد، ناهيك عن “رؤية” يصل مداها الزمني لخمسين سنة.

وتتمثل الإشكالية الثانية في نهج (الحكماء الاستراتيجيين) في دعوتهم للتركيز في هذه المرحلة على “نظام الحكم” وليس على “من يحكم وكيف يحكم”. وكما هو معلوم لعامة الناس أن الفصل في موضوع نظام الحكم من اختصاصات المؤتمر الدستوري الذي يشارك فيه كافة أصحاب المصلحة في السودان، وليس حكراً على بيت خبرة أو بيت حكمة. ويصعب على عامة الناس فهم الحكمة في دعوة (الحكماء الاستراتيجيين) للسودانيين في مؤتمر صحفي رسمي للالتفاف حول منظورهم لنظام الحكم في السودان خارج إطار مؤتمر نظام الحكم في السودان وأروقة المؤتمر الدستوري الذي توافقت عليه كافة أطراف الفترة الانتقالية.

وينطوي المأخذ الثالث على رؤية (الحكماء الاستراتيجيين) على تخليهم عن استهداف نزع فتيل الاحتباس السياسي الخانق الذي يعاني منه السودان آنياً ويهدد بانزلاقه من شفير الهاوية. وتعمدت رؤية حكماء السودان تجاوز هذه المرحلة المفصلية بالإحاطة صراحة بأنها غير معنية بمعالجة أزمة السودان السياسية الحالية، بل تدعو السودانيين للنظر للمستقبل البعيد، رغم المهددات الماثلة التي قد تجعل الوصول لذلك المستقبل أمراً مستحيلاً.
ويتجسد المأزق الرابع في نهج (الحكماء الاستراتيجيين) في طرحهم لرؤى استراتيجية بعيدة المدى لمعالجة أزمات مباشرة المدى تتطلب تفاعلاً عاجلاً وحلولاً آنية، وليس معالجات استراتيجية مستقبلية لا يسعف الوقت القليل المتاح للحصول على نتائجها التي لن تتحقق إلا بعد طول انتظار.
وتتجلى الإشكالية الخامسة في طرح (الحكماء الاستراتيجيين) في عدم الإفصاح عن الخطة الإسعافية التي حُدد مداها بستة أشهر، رغم حاجة السودان لخطة لا يتجاوز مداها ستة أسابيع، أو حتى ستة أيام، لنزع فتيل الأزمة الحالية التي تهدد بقاء السودان بالشكل المتعارف عليه.
وهنا يتكشف المأزق السادس في رؤية (الحكماء الاستراتيجيين) وهو عدم التوفيق في استيعاب أساسيات منهج التخطيط الاستراتيجي الذي يقوم أولاً على وضع وإجازة الخطة الاستراتيجية طويلة المدى، ثم يتبعها إجازة الخطة متوسطة المدى، وأخيراً الوصول للبرامج السنوية، أو نصف السنوية في حالة الحاجة لإجراءات إسعافية عاجلة. وعليه فإن البرامج الإسعافية غير المعلنة التي تحتويها رؤية (الحكماء الاستراتيجيين) ربما لا يتعدى التوافق عليها “بيت الحكمة” الذي أعدها نظراً للإخفاق في الوصول إليها عبر التسلسل المعروف في أساسيات التخطيط الاستراتيجي الذي تنادي رؤية حكماء السودان بالالتزام به.

أما المأخذ السابع على طرح (الحكماء الاستراتيجيين) فينطوي على السقطة الكبيرة في الادعاء العريض بأن تحقيق التنمية يجب أن يسبق تحقيق السلام. وهذا يعكس قصوراً بائناً في إدراك التسلسل والتدرج المتعارف عليه في أدبيات ما بعد الصراع. ذلك أن الخروج من مأزق النزاع إلى رحاب التنمية المستدامة لا يمكن مطلقاً تحقيقه إلا عبر مرحلة تحقيق السلام. ولا غرو أن كافة البلدان العالم الخارجة من الصراع، بما فيها السودان، تمر بمرحلة انتقالية لتحقيق ركائز السلام بإعادة إعمار ما دمره الصراع قبل الانتقال لمرحلة التنمية المستدامة. وتشمل استحقاقات مرحلة السلام التي تتخطاها رؤية (الخبراء الاستراتيجيين) التسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج، وعودة النازحين واللاجئين، وإرساء أسس الدولة الناجحة، وتحقيق التكامل المجتمعي. وغني عن القول أن دعوة حكماء السودان لتحقيق التنمية المستدامة قبل تحقيق استحقاقات السلام هي في واقع الأمر وصفة لتحقيق الصراع المستدام.

وعود على بدء، فإن القاسم المشترك بين (الخبراء الاستراتيجيين) و(الحكماء الاستراتيجيين) يتجلى في دعوة حكماء السودان الصريحة لإسناد رئاسة مجلس السيادة خلال ما تبقى من الفترة الانتقالية لعسكري متقاعد. وهذا يعكس تطابق الرؤي حول مفهوم مدنية السلطة بين المجموعتين رؤية (الخبراء الاستراتيجيين) ومدى تنسيق الأدوار بينهما لأجل استمرار السلطة في قبضة العسكريين سواء كانوا على رأس العمل أو من المتقاعدين. ومع التقدير الكامل للعسكريين سواء في الخدمة أو خارجها، إلا أن موضوع الرئاسة المدنية الكاملة لمجلس السيادة خلال المدة المتبقية من الفترة الانتقالية أمر محسوم دستورياً بالتوافق بين كافة أطراف الانتقال، بما فيهم العسكريون أنفسهم. واستدعى تحقيق ذلك الهدف استشهاد العشرات وجَرْح المئات من خيرة الشباب وخروج ملايين السودانيين في مواكب صامدة تستمد استمراريتها من الإيمان الراسخ بمشروعية القضية. ورغم ذلك فإن مجموعتي (الخبراء الاستراتيجيين) و(الحكماء الاستراتيجيين) تتفقان في الدعوة للعودة للوراء بالوقوف على طرفي نقيض من تطلعات القطاعات الواسعة من أبناء الشعب السوداني لتحقيق المدنية الكاملة للسلطة، توطئة للتحول الديمقراطي المنشود.