الخبير الاقتصادي د.التجاني الطيب: الوضع الاقتصادي الراهن(1-2)

الوضع الاقتصادي الراهن معقد وصعب نتيجة الاستمرار في التشخيص الخطأ للمشكل الاقتصادي … مرحلة (الجاهلية) شهدت توسعاً مذهلاً في الإنفاق العام …

الخبير الدولي د. التجاني الطيب(ارشيف)

الخبير الاقتصادي الدكتور التجاني الطيب

 

الوضع الاقتصادي الراهن معقد وصعب نتيجة الاستمرار في التشخيص الخطأ للمشكل الاقتصادي

بسبب الدولار اتخذت سياسات حدت كثيراً من الوارداتالخبير الاقتصادي د.التجاني الطيب صُنّاع القرار الخبير الخبير الاقتصادي د.التجاني الطيب الاقتصادي د.التجاني الطيب  لم يستفيدوا من موارد البترول

الاقتصاد السوداني لم يبن على رؤية وإستراتيجية طويلة المدى

مرحلة (الجاهلية) شهدت توسعاً مذهلاً في الإنفاق العام غير التنموي

الوضع المالي للحكومة في حالة حرجة

يواجه الاقتصاد السوداني في الوقت الراهن مضاعفات عديدة، تمثلت في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الضرورية، والعملات الأجنبية، خاصةً الدولار، رغم كل الإجراءات التي وضعت من أجل احتواء ارتفاعه المستمر، إضافة بعض المضاعفات المستجدة، كأزمة الوقود والخبز، مما أثر سلباً على شرائح مجتمعية واسعة.. فبدأ يتساءل الكثيرون: هل مشكلة الاقتصاد السوداني مشكلة بنيوية أم مشكلة إدارة اقتصادية؟

ذهب بعض الخبراء الاقتصاديين إلى أن الوضع الاقتصادي الراهن، هو وضع معقد وصعب نتيجة للاستمرار في التشخيص الخطأ للمشكل الاقتصادي، واتباع السياسات الخاطئة على ضوء هذا التشخيص الخاطئ، اعتقاد أن الدولار هو المشكلة، أدى إلى اتخاذ سياسات حدت كثيراً جداً من الواردات، ومكلف في الصادرات في الوقت نفسه، نتيجة لعدم توفر المدخلات الإنتاجية، نتج عن ذلك اختناقات في الأسواق، مما أدى إلى ارتفاع الصدمات التضخمية، حيث ارتفع معدل التضخم من 25% في نهاية ديسمبر 2017، إلى 55.6% في نهاية مارس 2018، مما يعني أن الأسعار ارتفعت بنسبة 121% في الربع الأول من عام 2018. هذا يعني أن معدل النمو الحقيقي المقدر رسمياً بحوالى 4% قد لا يخرج من دائرة الصفر في الربع الأول من عام 2018، على ضوء التقدير الرسمي لمعدل التضخم في حدود 19.5% لعام 2018. حرصتُ في هذا الحوار الصحافي سبر غور جوانب مهمة في المشكل الاقتصادي السوداني مع د. التجاني الطيب إبراهيم، الخبير الاقتصادي السابق بصندوق النقد والبنك الدوليين، وزير الدولة للمالية والتخطيط الاقتصادي إبان فترة الديمقراطية الثالثة، والأستاذ المشارك والمحاضر السابق في الاقتصاد الكلي بجامعة الخرطوم وجامعات ومعاهد عليا في ألمانيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، والمستشار المالي والاقتصادي لعدة مؤسسات إقليمية ودولية، فإلى مضابط الجزء الأول من الحوار..

حوار: إمام محمد إمام

*ما هي الأسباب التي أفضت إلى الواقع الاقتصادي الحالي؟

الاقتصاد السوداني مرَّ بعدة مراحل خلال العهود الثلاثة الماضية، المرحلة الأولى: – كانت مرحلة (الجاهلية) كما سميتها في كتابي "الاقتصاد السوداني في مقالات"، وهذه المرحلة شهدت توسعاً مذهلاً في الإنفاق العام غير التنموي الذي أدى بدوره إلى صدمات تضخمية لم يشهد لها السودان مثيلاً في الفترة من 1990م – 1995م، حيث بلغ متوسط معدل التضخم أكثر من 115% في العام. وهذه هي الفترة التي شهدت نهاية ما يسمى بالطبقة الوسطى في السودان نتيجة لعدم تماشي المرتبات والأجور مع الفقدان الكبير للطاقة الشرائية للعملة المحلية. المرحلة الثانية: كانت هي فترة الإصلاح التي أعقبت الإدراك بفشل السياسات الاقتصادية غير المدروسة التي تمت في المرحلة الأولى. الإصلاح في هذه الفترة من منتصف تسعينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة، تمت بمساعدة عاملين أساسيين: أولاً عودة صندوق النقد الدولي ومساهمته في رسم سياسات إصلاحية جديدة للاقتصاد السوداني – ثانياً: تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع النفط والذي ساعد في استقرار نسبي للأوضاع المالية والاقتصادية، مما أدى إلى الهبوط التدريجي في معدلات التضخم والتي انخفضت إلى مستوى الرقم الواحد في مطلع الألفية الجديدة. والمرحلة الثالثة: كانت مرحلة الردة أي العودة إلى عدم الاستمرار في الإصلاح وتقوية السياسات والمؤسسات المالية والاقتصادية والذي ساعد على ذلك بداية تدفق صادرات النفط والتي أعطت مساحات أكبر للحكومة للحركة المالية دون الاهتمام، لأن موارد النفط هي موارد غير مستدامة، ولا يمكن الاعتماد عليها في المدى الطويل، بالتالي توسع الإنفاق التشغيلي (الجاري) بمستويات عالية، مما أدى إلى تقليص الموارد التي يمكن توظيفها في القطاعات الإنتاجية، بتعبير آخر، كان البترول نقمة وليس بنعمة، حيث أُصيب السودان بالمرض النيجيري، المتمثل في الإعتماد على الواردات وإهمال الإنتاج المحلي. أدى هذا بدوره إلى اتساع الفجوة بين العرض من الإنتاج المحلي والطلب الفائض في القطاع العام، علماً بأن سكان السودان ينمون بنسبة 3% سنوياً. عدم التوازن هذا بين الطلب والعرض الكليين في الاقتصاد الكلي تسبب في ارتفاع الأسعار، خاصة سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية قابلة التحويل. ومن هنا بدأت مشكلة الدولار كانعكاس لعدم التوازن في الاقتصاد الكلي، وليس العكس. لذلك فإن مشكلة الدولار لا يمكن حلها بصورة مستدامة، إلا بحل الأسباب التي أدت إليها، المتمثلة في الفجوة بين العرض والطلب في الاقتصاد الكلي.

* ما هي قراءتك للوضع الاقتصادي الراهن؟

الوضع الاقتصادي الراهن، هو وضع معقد وصعب نتيجة للاستمرار في التشخيص الخطأ للمشكل الاقتصادي، واتباع السياسات الخاطئة على ضوء هذا التشخيص الخاطئ، اعتقاد أن الدولار هو المشكلة، أدى إلى اتخاذ سياسات حدت كثيراً جداً من الواردات، ومكلف في الصادرات في الوقت نفسه، نتيجة لعدم توفر المدخلات الإنتاجية، نتج عن ذلك اختناقات في الأسواق، مما أدى إلى ارتفاع الصدمات التضخمية، حيث ارتفع معدل التضخم من 25% في نهاية ديسمبر 2017م، إلى 55.6% في نهاية مارس 2018م، مما يعني أن الأسعار ارتفعت بنسبة 121% في الربع الأول من عام 2018م. هذا يعني أن معدل النمو الحقيقي المقدر رسمياً بحوالى 4% قد لا يخرج من دائرة الصفر في الربع الأول من عام 2018م، على ضوء التقدير الرسمي لمعدل التضخم في حدود 19.5% لعام 2018م. هذا يؤشر إلى أن الاقتصاد لم يخلق أي فرص عمل جديدة في الربع الأول من عام 2018م. ما يؤشر إلى استمرار ارتفاع معدلات البطالة، وتمدد الفقر. في العادة، التضخم في السودان هو نتاج للطلب الفائض في القطاع العام، الناتج عن ضخ السيولة، المتمثلة في السحب على المكشوف (أي بدون غطاء مالي)، هذه المرة، يبدو أن صناع القرار قد قرروا، تحجيم السيولة بوقف الاستيراد، وتحديد كمية السيولة للقطاع الخاص. هذا الفهم ينطلق من فرضية أن الحد من السيولة سيقلص الطلب على النقد الأجنبي، لكن الخطأ في هذا الفهم، أن أسعار العملات الأجنبية قد استقرت نسبياً، لكن كل أسعار السلع والخدمات قد قفزت بنسب عالية كما ذكرنا آنفاً. والآن ستجد الحكومة نفسها مجبرة على فتح باب الاستيراد حتى ولو كان محدوداً، مما سيؤدي إلى تصاعد أسعار الدولار بوتيرة أعلى مما إذا استمر الاستيراد مفتوحاً، لذلك فإن السياسة الاقتصادية والمالية التي أتبعت لمعالجة مشكلة الدولار، ستكون كارثية، لأن المواطن دفع أولاً ثمن خنق الأسواق لمنع الاستيراد، وسيدفع مرة أخرى ثمن آخر بعودة ارتفاع الدولار والأسعار في الأسواق.

*هل ما يُشاع عن عدم استغلال أموال النفط قبل الانفصال في الزراعة حقيقة أم تهويل؟

عدم استغلال جزء من إيرادات النفط قبل الانفصال في القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة، حقيقة. كما ذكرنا من قبل، فإن موارد البترول وُظف معظمها في التوسع في الإنفاق التشغيلي وليس التنموي. إذا نظرنا إلى الموازنات العامة لسنوات البترول من عام 2000 إلى عام 2011م، إننا نجد أن الإنفاق التشغيلي كان يبتلع كل إيرادات الدولة، بما في ذلك إيرادات البترول، أي أن التنمية كانت تتم بالاقتراض أو بالسحب المكشوف. الاستثناء الوحيد في هذه المعادلة، كان في عام 2003م، حيث زادت الإيرادات على الإنفاق الجاري بنسبة ضئيلة. كل ذلك، يعني أن العجز الجاري (الفرق بين الإيرادات والإنفاق التشغيلي)، كان سالباً، مما يؤشر إلى أن الحكومة لم تلجأ إلى خلق مدخرات من موارد البترول، كان بالإمكان توظيفها بالقطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصناعة. وهذا هو جزء، ربما الجزء المهم من الأسباب التي أدت إلى عدم التوازن في الاقتصاد الكلي(العرض والطلب الكليين).

*كيف نتعامل مع إيرادات المعادن، خاصة معدن الذهب؟

للأسف، لم يستفد صناع القرار الاقتصادي من عدم الاستفادة من موارد البترول في إحداث نهضة اقتصادية حقيقية تنقل الاقتصاد، من اقتصاد نامٍ إلى اقتصاد ناشئ. ما حدث في البترول، يكرر الآن في الذهب. كالذي حدث في البترول من عدم الاستفادة من إيرادات الذهب في تنمية القطاعات الحيوية كالرزاعة والصناعة، حيث استمر العجز التشغيلي في الاتساع، مما عقد من مشكلة التنمية، خاصة في القطاعات الإنتاجية والخدمية.

وفي تقديري، أن ما حدث في عهد البترول، بتجنيب جزء من موارده بالنقد الأجنبي، لمواجهة تكلفة الحروب والصراعات المسلحة والأنشطة الأمنية والعسكرية المتعددة التي ليست لها موارد في الميزانية العامة، يحدث الآن بالنسبة للذهب، حسب موازنة العام المالي 2018م، تقدر السلطات السودانية صادرات الذهب بحوالى 110 أطنان لعام 2018م، وفقاً لتضريبات الحكومة من الإيرادات المتوقعة لهذه الصادرات قد يصل إلى 3,5 مليارات دولار، مقارنة مع 6,8 مليارات دولار، إذا أخذنا بالأسعار العالمية. مما يعني أن هناك فرقاً يصل إلى 3,3 مليار دولار. ولا أحد يدري أين ذهب هذا المبلغ؟ علماً بأن من المستحيل أن يعزى كل هذا العائد من عائدات الذهب إلى التهريب.

كيف يتم ضبط ومراقبة إيراد حصائل الصادر؟

في العادة، التصدير يتم وفق السياسات التي ترسمها وزارة التجارة والبنك المركزي وإلى حد ما وزارة المالية. وللمصدرين سجل معروف يحتوي على معلومات لكل الذين يحق لهم التصدير. ولهؤلاء شركات مسجلة لها موجودات ذات قيمة كافية لضمان استعادة عائد الصادرات. والمشكلة تكمن في عدم المتابعة والتنسيق بين الجمارك والتجارة والبنك المركزي، وعدم تطبيق اللوائح والقوانين السارية على الذين يخالفون سياسات الصادر، بالتالي ظهرت شركات وأسماء وهمية، استغلت الثغرات الموجودة في تنفيذ السياسات والقوانين الموجودة، مما أدى إلى الهرج والمرج الذي يدور الآن حول تحصيل عائدات الصادر.

*موجهات السياسة الاقتصادية في السودان كثيرة التغييرات.. ما هي الأسباب؟

من سوء طالع الاقتصاد السوداني، أنه لم يبن على رؤية وإستراتيجية طويلة المدى، ذات أهداف محددة، كمياً وزمنياً. غياب هذه الرؤية أدى إلى أن السودان لم ينجح في تطبيق أي نهج تنموي، ينتقل بالاقتصاد من مرحلة النمو إلى مرحلة النشوء، بالتالي ظلت السياسات المالية والاقتصادية ذات طابع ارتجالي تهتم بالعلل وليس الأسباب. فإذا أخذنا مرحلة العهد المايوي، تقلبت التوجهات والسياسات في عدة جبهات، من اشتراكية إلى ليبرالية إلى مختلطة إلى فوضى في السياسات. للأسف الإنقاذ لم تشذ عن هذه القاعدة. لذلك ليس غريباً، أن صافي احتياط النقد الأجنبي وصل إلى ناقص 262 مليون دولار في نهاية ديسمبر 2017م، حسب التقرير القطري لصندوق النقد الدولي الصادر في ديسمبر 2017م في صفحة 31، بينما أعلن النظام عند بدايته، أنه وجد خزائن الدولة فارغة، وها نحن بعد ثلاثين عاماً، نجد أن خزائن الدولة فارغة ومقلوبة. فعدم اتباع أي نهج تنموي لفترة طويلة مع استمرار في ارتجال السياسات، دون أهداف وإستراتيجيات مستقبلية محددة، سيقود إلى عدم الثبات في السياسات الاقتصادية والمالية، مما قلل كثيراً من تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، ما أقعد الاقتصاد عن النهوض .

تحيل أن تذهب كل المبالغ من عائدات الذهب إلى التهريب.

*كتبت عن ميزانية 2018م مقالاً مطولاً توقعت فيه حدوث بعض العراقيل والمعوقات في مسار إنفاذ تلكم الميزانية.. وبالفعل حدث ما توقعته، إلى ماذا تُعزي عدم تدارك المسؤولين لبعض هذه العراقيل والعقبات؟

أولاً: بُنيت موازنة 2018م، على فرضيات بعيدة عن الواقع، فمثلاً قدرت الموازنة ارتفاع الإيرادات العامة والمنح الخارجية بنسبة 51%، مع توقع زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة 30%، والإيرادات غير الضريبية بنسبة 96%، هذه النسب لا يسندها لا الأداء الاقتصادي الكلي، ولا الأداء الفعلي لموازنات ما قبل عام 2018م، لكن هذا نهج درج عليه صناع القرار لتضخيم الإيرادات، كحجة للتوسع في الإنفاق الجاري (الموارد المالية التي تحتاجها الدولة لتحريك دولابها على المستوى اليومي). في هذا الإطار، قدرت الموازنة زيادة عبور نفط الجنوب بنسبة 292%، وارتفاع المساعدات الانتقالية بنسبة 186%، والمنح الخارجية بنسبة 189% ؟! الأداء المالي في الربع الأول لميزانية عام 2018م، يؤشر إلى أن هذه الأرقام، هي مجرد أحلام وأماني، فمثلاً استمر الوضع في الجنوب في التأزم وعدم الاستقرار، ولم يتمكن الجنوب من تصدير أي كميات ذات معنى عبر الشمال، وبالتالي، التحويلات الانتقالية لم يأتِ منها ما يذكر حتى الآن. أما المنح الخارجية، فلم ير السودان منها حتى الآن غير الوعود. بالنظر إلى الإيرادات العامة من الضرائب، فهي الأخرى يؤشرأداء الربع الأول من العام إلى تراجعها، بقدر كبير نتيجة للسياسات الحكومية في الأشهر الماضية التي حدت من الواردات، مما أثر سلباً على الحركة الاقتصادية برمتها. بينما تشير الوقائع إلى أن الإنفاق التشغيلي أي الجاري، ظل كما هو مقدر له في الموازنة، فمن المتوقع ارتفاع العجز التشغيلي (الفرق بين الإيرادات الكلية والإنفاق الجاري) بأكثر من 4 إلى 5 مليارات جنيه من تقديرات الموازنة. فبالتالي، إن الصرف التنموي، لم يحدث فيه ما يذكر علماً بأن هذا البند من الصرف لا يزيد أداؤه عن 30 – 40% من إجمالي تقديرات التنمية، حسب الموازنات السابقة.

الخلاصة، هي أن الوضع المالي للحكومة في حالة حرجة، ما يتطلب إعادة النظر في مكونات الموازنة حتى تتماشى مع الواقع المالي والاقتصادي في البلاد. كما أشرنا إلى ذلك في تقدمة هذا الحوار. أما ارتجال السياسات الاقتصادية وعدم الواقعية في التعامل مع الوقائع والحقائق الإقتصادية، فلن يحل مشاكل السودان الاقتصادية، بل يزيدها تعقيداً

نقلا عن الصيحة