مجزرة كرينك تعري اتفاق سلام جوبا

تعرضت منطقة كرينك بولاية غرب دارفور لهجوم هو الأعنف من نوعه، من قبل مليشيات من القبائل العربية أسفرت عن مقتل أكثر من مائتي قتيل وجرح أكثر من مائة شخص، وحرق المنازل، ونزوح الآلاف من سكان المنطقة. وذكر والي غرب دارفور ان حجم المليشيات العربية المسلحة التي هاجمت المنطقة قد فاق حجم القوات المسلحة الموجودة بالمنطقة، التي اضطرت للانسحاب تاركة المواطنين لمواجهة أسوأ مصير تشهده دارفور منذ اندلاع الحرب فيها. وامتدت أحداث العنف لمدينة الجنينة المجاورة حيث قتل العشرات فيها.

المستشار/ إبراهيم علي ابراهيم

 

 

 بقلم : المستشار/ إبراهيم علي ابراهيم

 

تعرضت منطقة كرينك بولاية غرب دارفور لهجوم هو الأعنف من نوعه، من قبل مليشيات من القبائل  العربية أسفرت عن مقتل أكثر من مائتي قتيل وجرح أكثر من مائة شخص، وحرق المنازل، ونزوح الآلاف من سكان المنطقة. وذكر والي غرب دارفور ان حجم المليشيات العربية المسلحة التي هاجمت المنطقة قد فاق حجم القوات المسلحة الموجودة بالمنطقة، التي اضطرت للانسحاب تاركة المواطنين لمواجهة أسوأ مصير تشهده دارفور منذ اندلاع الحرب فيها. وامتدت أحداث العنف لمدينة الجنينة المجاورة حيث قتل العشرات فيها.

شكلت هذه الأحداث صدمة على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، حيث أدانت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان أعمال العنف والقتل بين قبائل عربية وغير عربية، وطالبت بفتح تحقيقات محايدة ومستقلة في هذه الهجمات المروعة. وحمّل الاتحاد الأوروبي الموقعين على اتفاقية سلام جوبا مسؤولية حماية المدنيين، وطالب بوقف العنف وتقديم الجناة للعدالة، كما دعا لانشاء وتدريب قوات أمنية مشتركة من الجيش والحركات لحماية المنطقة.  كما طالب الاتحاد الافريقي باتخاذ قرارات لحماية النازحين والمدنيين العزل في إقليم دارفور.

وعلى الصعيد المحلي، لوحت سلطنة “دار مساليت” بالمطالبة بتقرير المصير حال استمرار هجمات المليشيات ضد مواطنيها، كما طالبت الأمم المتحدة بوضعها تحت البند السابع لحماية مواطنيها من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وفي نفس الوقت، طفق عدد من قادة الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، ينتقدون عجز الحكومة المركزية وحملوها كامل المسؤولية عن اندلاع أعمال العنف، واتهموها بالتقاعس عن حماية المواطنين. كما اتهم حاكم دارفور مني أركو مناوي في خطاب له بالخرطوم الأجهزة الأمنية بأنها إما متواطئة أو متباطئة أو مشاركة في التفلتات الأمنية التي تدور بدارفور، وقال إن الأسلحة الحكومية تستخدم في الصراع.

هذا الاتهام قد يبدو صحيحاً في ظاهره، ولكن ما يقدح فيه أنه جاء من قيادات دارفورية تشكل أس وصلب الحكومة المركزية التي يتهمونها بالقصور. على هؤلاء القادة أن يدركوا ان زمان توجيه اللوم والاتهام للحكومة المركزية وحدها قد انتهى بعد دخولهم للحكومة، فهذه الحكومة الانقلابية الفريدة تشكل الحركات المسحلة وقيادتها المكوّن الجوهري و الأساسي فيها. فكيف يستقيم ما يقولون !

تثبت أحداث كرينك والجنينة إن الأوضاع في دارفور ظلت كما هي، وإن ثورة ديسمبر المجيدة وحكومتها لم تغير شيئاً في الأوضاع في دارفور التي ظلت تشهد صراعات قبلية سياسية وحروباً مستمرة حول الموارد الطبيعية والذهب وغيرها، منذ عهد النظام المباد. كما تثبت إن اتفاق سلام جوبا لا يعني شيئاً على أرض الواقع والنزاع.

بالطبع إن ما حدث في كرينك والجنينة وانعدام الأمن في دارفور وكل أنحاء السودان، هو مسؤولية النظام الانقلابي الذي تشارك فيه الحركات المسلحة الدرافورية وقيادتها التي تبوأت أعلى المناصب فيه. وهو يوضح حالة الفشل التي طالت المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية في ظل هذا النظام الانقلابي المشترك، وعجزها عن الدفاع عن أرواح المواطنين الأبرياء.

كشفت هذه المجزرة عن ضعف وقصور اتفاقية سلام جوبا وعوراتها، حيث فشلت الاتفاقية فشلاً ذريعاً في مخاطبة ومعالجة جذور الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تقف وراء اندلاع الحروب  في إقليم دارفور.  كما أكدت إن اتفاق سلام جوبا لم يعد الا اتفاقاً فوقياً بين قيادات الحركات المسلحة والدعم السريع، من أجل الانفراد بالسلطة المركزية وتوزيع المناصب السيادية والوزارية محاصصة فيما بينهم، بعيداً عن قواعدهم وأرضهم التي يدعون تمثيلها. فلم يحقق اتفاق سلام جوبا السلام المنشود لإقليم دارفور، أو يعد بأي نفع لسكانه، حيث لم يعالج أوضاع ضحايا الحرب والنازحين، كما فشل في منع اندلاع حروب أخرى في المنطقة، ومن بينها مجزرة كرينك وأحداث الجنينة الأخيرة.

تؤكد هذه الأحداث الدموية الصادمة خطأ وضع جيوش الحركات المسلحة في الخرطوم، حيث كان الأصح والأسلم أن يتم وضعها في إقليم دارفور “أرض النزاع”. عقب توقيع اتفاق سلام جوبا ودخول جيوش الحركات المسلحة للخرطوم، اعترضت على هذا الاجراء في قروب للمفاكرة، يضم سياسيين وقادة لبعض الحركات المسلحة، وقلت أنه كان من الأجدى أن تتم موضعة جيوش الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام في مناطقها الجغرافية والقبلية، وأن يتم تنفيذ وقف اطلاق النار والترتيبات الأمنية وغيرها من إجراءات الدمج والتسريح لهذه الجيوش على أرض النزاع “إقليم دارفور”، وذلك كله حماية للمدنيين وممتلكاتهم من أراضي ومواشي وغيرها، حيث أن هذا هو المتبع في فض النزاعات دولياً.

والغريب أنه بعد توقيع اتفاق جوبا ودخول جيوش الحركات المسلحة وقوات الدعم السريع للخرطوم، انعدم الأمن والسلام في العاصمة وعمت الفوضى وجرائم النهب المسلح العلني والقتل، وانتشار السلاح في كافة ربوع السودان. ويعزو الكثيرون انعدام الأمن وانتشار الجريمة والفوضى الى اتفاق سلام جوبا.

كذلك كشفت هذه الأحداث الدموية عن مدى تعقيد الأزمة السودانية، وخطورة وضع الدولة المنزلق نحو الهاوية. فمن ناحية تدل هذه الأحداث على قصر عمر التحالف الحاكم الآن (البرهان والدعم السريع والحركات المسلحة) وقصر نظرهم، حين ظنوا أنهم بتوقيعهم على اتفاق جوبا الآخر “السري”  يستطيعون الانفراد بحكم السودان. كما تنبيء  هذه الأحداث عن وجود صراع مكتوم بين أطراف سلام جوبا، بدأ في الظهور والتكشف في الحرب التي دارت في كرينك والجنينة بين فصائل اتفاق جوبا الحاكمة الآن، مما ينذر بحدوث المزيد من المواجهات والحروب بينها، وذلك لما تحمله هذه الحركات من خلافات جذرية بينها وطموحات متصادمة. كذلك أكدت هذه المجزرة إن الجنرال حميدتي لا يسيطر على قوات الجنجويد بشكل كامل، أو انها مليشيا قبلية متناسلة يصعب تنظيمها. كل هذا يجعل من عملية الترتيبات الأمنية وإعادة دمج هذه الجيوش في جيش قومي واحد، وتسريح بعضها، حلماً بعيد المنال على الصعيد العملي.