كمال الجزولي : شُبُهاتٌ حَوْلَ العَلمَانيَّة!

أثارت كلمتنا بعنوان “الدِّين والعلمانيَّة بين السِّياسة والثَّقافة”، مطلع الشهر الماضي، نقاشاً كثيفاً في بعض المواقع،

(1)

أثارت كلمتنا بعنوان “الدِّين والعلمانيَّة بين السِّياسة والثَّقافة”، مطلع الشهر الماضي، نقاشاً كثيفاً في بعض المواقع، خصوصاً حول عدم ملاءمة “المفهوم” و”المصطلح” لإضاءة أيِّ من جوانب الصِّراع في بلداننا، كونه ليس هو ذات الصِّراع الذي أنجب هذين “المفهوم” و”المصطلح” من زاوية التَّاريخ، أو الاجتماع، أو أي علم سياسي آخر. ومن ثمَّ فإن ما نرمي إليه بهذه المقالة ليس تكرار دعوتنا للنأي بحراكاتنا الفكريَّة والسِّياسيَّة عن تبديد الطاقات في الدِّفاع عن “العلمانيَّة” الغربيَّة، وما إنْ كانت بـ “فتح” العين أو “كسرها”، كما في بعض التَّعبير السَّاخر، بل يلزمنا، لأجل التَّحقُّق المعرفي، ولدرء التَّلبيس والتَّدليس، فضُّ الخلط والتخليط اللذين لا يندر أن يُلحِقا هذين “المفهوم” و”المصطلح بـ “الإلحاد”، عند مقاربتهما من خلال بعض الطرح المثار، بصرف النَّظر عن كونهما صالحين أو غير صالحين لتفسير حالتنا، بحسب استقصاء جذريهما في تربتهما الأصليَّة.

(2)

أوَّل ما تصادفنا، على هذا الصَّعيد، العروة الوثقى التي يكاد لا يخلو منها خطاب راديكاليٌّ، أو حتَّى إصلاحي، في منطقتنا، بين شعاري “العلمانيَّة” و”فصل الدِّين عن الدَّولة”، فما يكاد ينطرح واحدهما حتى يستتبع الآخر، ضربة لازب! والحقُّ، من زاوية النظر الفكريَّة التَّاريخيَّة، أن “العلمانيَّة”، بنشأتها في سياق الفكر الأوربي، مطلع عصر الحداثة، بحقبه الثَّلاث “النَّهضة ـ الإصلاح الدِّيني ـ التَّنوير”، كانت الأصل الذي تناسل عنه مفهوم “الفصل”. بتعبير أوسع، فإن “العلمانيَّة secularism”، بالمصطلح الغربي العام، أو “اللائكيَّة laicisme”، فى طورها الفرنسي الخاص، هي ذلك المفهوم المحدَّد الذي أنتجه الفكر البرجوازي الأوربي بدلالة تحرير “السُّلطة الزَّمنيَّة” من قبضة “الإكليروس الكنسي”، باعتباره المؤسَّسة الاجتماعيَّة ذات المصالح “الدُّنيويَّة” التي ارتبطت، في التَّاريخ القروسطي الأوربي، بكلِّ مظالم التَّشكيلة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة للإقطاع، والحارسة الأيديولوجيَّة لعلاقات إنتاجه، وصائغة تبريراته الرُّوحيَّة، قبل أن تهب البرجوازيَّة بثوراتها التَّاريخيَّة، وأهمُّها الثورة البرجوازيَّة العظمى (فرنسا؛ 1789م)، رافعة معها مجموع الشَّعب الكادح، لتقوِّض سلطة “الإكليروس”، وتصادر أملاكه الإقطاعيَّة، وتلغي الأتاوات التي كان يفرضها على “المؤمنين”، بل وتصفي النِّظام الإقطاعي نفسه، وتصدر “الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن”، تحت التأثير المباشر لفلسفة “الأنوار”، وتلحق التَّربية والتَّعليم وشؤون الأسرة باختصاصات السُّلطة “المدنيَّة”، وهلمَّجرَّا.

من جهة أخرى تلازم صعود المركانتليَّة، ومفاهيمها حول المدنيَّة والتَّمدُّن، مع استمرار التَّهميش الثَّوري لاقتصاد الرِّيف الطبيعي، والذي يمثِّل أساس نفوذ “الإقطاع” و”الكنيسة”، مِمَّا هيَّأ لصعود مناهج جديدة في التفكير الفلسفي خارج اللاهوت، فأصبحت الفلسفة عقليَّة، بقدر ما بقى اللاهوت نقليَّاً (د. برهان غليون؛ اغتيال العقل ـ محنة الثقافة العربية بين السَّلفيَّة والتَّبعيَّة، ط 1، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 1985م، ص 229 ـ 230).

(3)

مع ذلك، لم تستهدف “العلمانيَّة”، أوَّل أمرها، ترتيب مفاصلة ما مع “الدِّين”، وإنَّما هدفت، فقط، لإخضاع الكنيسة الكاثوليكيَّة لسلطة الدَّولة باستقلال عن كنيسـة روما (رضا هلال؛ م/العصور الجديدة، ع/8، أبريل 2000م)، غير أن عوامل محدَّدة لا يجوز، فكريَّاً، فصلها عن تاريخ “المصطلح”، أو إغفالها عند تناول “المفهوم”، دفعت بها، وبطبعتها “اللائكيَّة” خصوصاً، على طريق التحوُّل إلى أيديولوجيا مصادمة للدِّين (ديفيد مارتن؛ “النظريَّة العامَّة للعلمنة” ـ ضمن المصدر). من تلك العوامل، حسب هلال، تغيير أوضاع “الكهنة” عقب الثَّورة، فأضحوا، بموجب “القانون المدني لرجال الدين 1790م”، محض موظفين مدنيين، أو ساسة ينافسون في الانتخابات، فانحازوا إلى الثَّورة المضادَّة للجُّمهوريَّة (1793م)، مِمَّا جعل المعركة بين “الجُّمهوريين” و”الملكيين” تتَّخذ طابع العداء بين “العلمانيَّة/اللائكيَّة” وبين “الإكليروس” المتحوِّل، في الذِّهنيَّة الفرنسيَّة العامَّة، إلى معادل موضوعي لمفهوم “الدِّين” نفسه. وفي الجُّمهوريَّة الثالثة تطوَّر الأمر إلى مواجهة شاملة بين “دولة” القيم “الجُّمهوريَّة”، و”دين” القيم “الملكيَّة”.

(4)

هكذا، وبما أن لكل ثقافة وحضارة “عقلانيَّتها rationalism” الخاصَّة، فإن “العلمانيَّة/اللائكيَّة” ليست سوى مظهر لـ “العقلانيَّة الأوربيَّة” الحداثيَّة كمنجز حضاري/ثقافي تاريخي شكَّل أسلوباً في التَّفلسف يفترض قدرة “العقل” البشري على تجاوز الدِّين في إنتاج وتعليل مختلف المحاكمات. ومعلوم أن أغلب الفلسفات السَّائدة في الغرب اليوم تعود بأصلها إلى الفلسفة اليونانيَّة والرُّومانيَّة القديمة؛ ثمَّ تطوَّرت، لاحقاً، على أيدى فلاسفة كديمقريطس وأبيقور ولوكريتس كار، قبل أن تبلغ فلاسفة “الإلحاد البرجوازي” الذين جعلوا نقد الدِّين، خلال القرنين 18 ـ 19، عملهم الأساسي، كديدرو، وهيلفيتيوس، وفويرباخ. أما الوضعيَّة positivism التي أنشأها الفرنسي أوغسـت كونت، مطلع القرن 19، فقد تطوَّرت، مع مطلع القرن 20، في مرحلة “الوضعيَّة الثَّانية”، أو “مذهب نقد التَّجربة”، على أيدي السُّويسري إيفيناريوس، والنِّمساوي ماخ، ثم خلال النصف الأوَّل من القرن 20، في مرحلة “الوضعيَّة الجَّديدة”، أو “الوضعيَّة المنطقيَّة”، أو “التَّجريبيَّة المنطقيَّة”، على أيدى أعضاء “حلقة فيينا”، ثمَّ، لاحقاً، على أيدى برتراند راسـل والكثير من علماء اللسانيَّات والرِّياضيَّات والفيزياء والمنطق، لتصبح الأكثر تأثيراً، اليوم، على حركة العلم والثَّقافة في الغرب الرَّأسمالي، وتشغل مكانتها المتميِّزة ضمن منظومة الفلسفات التي سعت لتجاوز الدِّين على خلفيَّة شديدة التَّعقيد في التَّاريخ الأوربي؛ غير أنها تظلُّ مشدودة، بوجه خاص، إلى ملابسات الصِّراع الذي أنتج مفاهيم “عقلانيَّة الحداثة” البرجوازيَّة بين القـرنين 16 و18، وضمنهـا “العلمانيَّة”. وأما كارل ماركـس (1818م ـ 1883م) فبرغم موافقته الفكرة الأساسيَّة لهذه “العقلانيَّة” حول قدرة “العقل” على تجاوز التَّجربة “الحسِّيَّة”، إلا أنه انتقدها، أيضاً، وبشدَّة، لمغالاتها في تثمين هذه القدرة، وإسقاط أيَّة أهميَّة لتجربة “الحواس”.

أمَّا لماذا استُهدفت الماركسيَّة، وحدها، بلعنات البرجوازيَّة، فلإعلانها الجَّهير، منذ أوَّل أمرها، بأنها لن تشغل نفسها، كباقي الفلسفات، بـ “تفسير” العالم، وإنَّما بـ “تغييره”!

(5)

“العلمانيَّة”، إذن، سواء في نسختها الأوربيَّة العامَّة أو الفرنسيَّة الخاصَّة، وسواء في الفكر البرجوازي أو الماركسي، هي جنين “العقلانيَّة” الوضعيَّة الأوربيَّة الطالعة من رماد حرب ضروس بين “إكليروس” زعم لنفسه نيابة عن السَّماء في الأرض، وسلطاناً مقدَّساً على السُّلطة الزَّمنيَّة، وعلى حركة الاقتصاد، والاجتماع، والعلم، والفلسفة، والثقافة، وبين مجتمع “مدني” صارع لتحرير حكومته، وثقافاته، وعلومه، من بين فكي تلك الهيمنة، فتحتَّم عليه أن يصطدم، في مرحلة معيَّنة، بـ “الإكليروس”، وأن يطبع بطابعه “عقلانيَّة” أوربا التي أنتجت “العلمانيَّة” كمفهوم ألقت دلالات المواجهة مع “الدِّين”، هناك، بظلال كثيفة عليه، بقدر ما عمد “الإكليروس” إلى التَّماهي مع “السَّماء” في تعاليها المطلق!

مع ذلك فإن “العلمانيَّة” المعاصرة ليست قرينة “الإلحاد” بالضرورة، وإن كانت قد اندفعت باتِّجاهه، كما رأينا، في بعض نماذجها التَّاريخيَّة؛ لكنها سرعان ما عادت لتبقى “مؤمنة”، سواء كانت كاثوليكيَّة أو بروتستانتيَّة (م. إبراهيم نقد ، حوار مع مجلة “بيروت المساء” ، ع/أغسطس 1985م).

ورغم عدم انشغالنا بالدِّفاع عن “العلمانيَّة” الغربيَّة، وتوجيهنا جلِّ اهتمامنا لنصرة قضيَّة “الدَّولة المدنيَّة الدِّيموقراطيَّة”، كون “العلمانيَّة” لا تسعفنا في تفادي وهدة “الشُّموليَّة”، إلا أن بعض الحُجج التي تساق ضدَّها، من مواقع الخصومة الأيديولوجيَّة، غير مقبولة، معرفيَّاً، كونها تتمادى في تشويه الواقع وإنكار الحقائق، كادعائها العريض بمسعى “العلمانيَّة” لطرد الدِّين من الحياة والمجتمع في الغرب، تعامياً عن حقيقة أن ملكة بريطانيا ما تزال على رأس الكنيسة؛ وأن اللوبي اليهودي ما يزال الصوت الرَّاجح في الانتخابات الأمريكيَّة؛ وأن الحزبين المسيحيَّين في إيطاليا وألمانيا شاركا في وضع الدستور “العلماني”؛ وأن فرنسا، بكلِّ عنفوان ثورة 1789م، تبنَّت الكنيسة حتى لقِّبت بـ “طفل الكاثوليكيَّة المدلل”، ورغم إقدامها على فصل الكنيسة، عمليَّاً، عن الدَّولة، إلا أن تشريع الفصل نفسه لم يصدر إلا عام 1905م، بعد أكثر من قرن على الثورة، دون أن يهدف لإقصاء الكنيسة عن المجتمع، أو مصادرة دورها الرُّوحي؛ وبالمقابل، ورغم عدم اعتراف الكنيسة نفسها بوثيقة “حقوق الإنسان والمواطن” الصادرة عن ثورة 1789م، إلا في 1966م، بعد 168 عاماً، فإن مناخ الدِّيموقراطيَّة العام أجبرها على مصالحة التَّاريخ، والحدِّ من غلوائها السِّياسيَّة، وتصحيح بعض أحكامها، حيث راجعت، مثلاً، في 1920م، إدانتها، في القرن 16، لجان دارك بالهرطقة والسِّحر، بل وعمَّدتها قدِّيسة بعد أكثر من 400 سنة؛ وراجع الفاتيكان، في 1992م، إدانته لغاليليو غاليليه، في ضوء تأويل عصري للكتاب المقدَّس يُقرُّ بدوران الأرض حول الشَّمس؛ كما أصدرت الكنيسة الكاثوليكيَّة، في فبراير 2000م، اعتذاراً جهيراً عن حرق محاكم التفتيش لجوردانو برونو .. والحبل على الجَّرَّار.

ورُبَّما كان مناسباً، هنا، أن نشير إلى اقتراح راشد الغنوشي، أواسط تسعينات القرن الماضي، بردِّ الاعتبار للفكر المعتزلي، مِمَّا يُعدُّ فتحاً في الفكر السُّنِّي الأشعري.

الشَّاهد أنه، ومع قناعتنا التَّامَّة بكون “العلمانيَّة” غير مناسبة، “مفهوماً” و”مصطلحاً”، لبلورة أيِّ أفق فكري أو سياسي لحراكات شعوبنا، فإن خلطها وتخليطها مع “الإلحاد”، ضربة لازب، دونما اعتبار لتأسيس “عقلانيَّة” سلطتها المعنويَّة الخاصَّة، في مطالع عصر “الحداثة” الأوربي، إزاء انحلال نظام “الإكليروس”، لهما خلط وتخليط متعمَّلان لا يرميان إلا لتشويه تلك المعطيات التَّاريخيَّة المحدَّدة، ودمغ مجمل الجُّهود الفكريَّة والسِّياسيَّة التي بُذلت على جميع المستويات الرَّاديكاليَّة والإصلاحيَّة، لمقاومة “استثمار” العاطفة الدِّينيَّة في تسويق ما لا يمكن أن يقرَّه أيُّ دين: الظلم الاجتماعي!