الصحافة الورقية في السودان: صراع البقاء في وجه الأزمات ومستقبل غامض بعد الحرب

جريدة الايام السودانية
منتدى الاعلام السوداني
الخرطوم في 4 مايو 2025 (شبكة إعلاميات) – لأكثر من قرن من الزمان، ساهمت الصحف الورقية في السودان بدور محوري في تشكيل الرأي العام، وعكس أصوات الشعب تجاه القضايا المختلفة. كما اضطلعت بدور هام في نشر الحقائق وتمليك المعلومات للقراء بمهنية عالية. وشكلت أماكن بيع الصحف (أكشاك الجرائد) معالم بارزة في مدن السودان المختلفة، وملتقيات لمُحبي القراءة وتصفح الإصدارات اليومية.
لكن هذا الحال بدأ يتغير بشكل ملحوظ قبل اندلاع الحرب الأخيرة، وتحديداً خلال فترة “النظام البائد”، حيث تمت إزالة عدد كبير من أكشاك الجرائد، وفُرض حصار ممنهج على الصحافة عبر زيادة الضرائب والجمارك على مدخلات الطباعة، وتقييد حرية عملها بالرقابة اليومية والمباشرة، وسن القوانين المقيدة للحريات الصحفية. نتيجة لذلك، أصبح إنتاج الصحف مكلفاً جداً مقارنة بعائداته، وارتفعت أسعارها بشكل كبير، مما أثر سلباً على حجم التوزيع. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، توقفت الصحف الورقية تماماً عن الصدور في السودان، وذلك لأول مرة منذ تأسيسها قبل أكثر من 120 عاماً.
وسط هذا الوضع المأساوي، جاءت الحرب لتفرض واقعاً أشد قتامة على الصحافة الورقية والصحفيين، الأمر الذي يثير تساؤلات مشروعة حول مستقبل “صاحبة الجلالة” بعد انتهاء الصراع: هل دقت الحرب المسمار الأخير في نعش الصحافة الورقية، أم أنها قادرة على المقاومة والتعافي لتواصل دورها المنوط بها؟
آراء حول وضع الصحافة قبل الحرب:
في هذا السياق، ترى الكاتبة الصحفية ومسؤولة الإعلام في “مبادرة نساء ضد الظلم”، إحسان عبد العزيز، أن الإعلام بشكل عام في السودان كان يعاني من انعدام الاستقلالية والرقابة الصارمة قبل الحرب. وتشير إلى أن ثورة ديسمبر المجيدة وفرت هامشاً من الحريات الصحفية، لكن هذا الهامش سرعان ما تلاشى بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، لتعود الرقابة على الصحف كما كانت طوال فترة “النظام البائد”. وتضيف إحسان أن الصحف الورقية كانت الأكثر تضرراً مقارنة بوسائل الإعلام الأخرى، حيث كانت تُحذف بعض المواد قبل النشر، وأحياناً تُصادر الصحف بالكامل حتى بعد طباعتها لاحتوائها على مواد لا ترضي السلطة الحاكمة.
من جانبها، ترى الصحفية والناشطة الحقوقية عواطف إسحق، أن استهداف الصحافة دفع القراء إلى الاتجاه نحو الصحافة الإلكترونية. وتوضح أن الصحف الورقية كانت تعاني أصلاً قبل الحرب بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج وملكيتها لشركات خاصة ذات توجه استثماري بحت، مما أدى إلى زيادة أسعارها بشكل متواصل. هذا الأمر أدى إلى عزوف عدد كبير من القراء واتجاههم لمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية الرقمية، التي نافست الصحف الورقية بقوة، مما دفع بعض تلك الصحف لإنشاء مواقع إلكترونية خاصة بها بالتوازي مع استمرار إصدار النسخ الورقية.
وتعزو الصحفية والناشطة الحقوقية مشاعر رمضان انخفاض توزيع الصحف إلى القيود المتعددة التي كانت مفروضة عليها، قائلة: “قبل الحرب، واجهت الصحف عقبات كبيرة وقيوداً كثيرة، سواء كانت قانونية أو أمنية أو اقتصادية. ورغم كل ذلك، واصل الصحفيات والصحفيون عملهم وأدوا رسالتهم على أكمل وجه”.
تأثير الحرب على الصحف الورقية:
كان للحرب تأثير مدمر ومباشر على مستقبل الصحافة الورقية، وزادت من حجم التهديدات التي قد تقلل من فرص عودتها بعد انتهاء الصراع. ترى إحسان عبد العزيز أن الحرب أفسحت المجال للصوت الرسمي لأطراف النزاع ليكون المهيمن الأوحد، قائلة: “للحرب تأثير كبير على الإعلام بشكل عام، وعلى الصحف الورقية بشكل خاص. أصبح الصوت الوحيد المسموع هو الإعلام الرسمي بأكاذيبه وعدم مصداقيته وتغييبه لحقائق ما يجري على الأرض”.
وتتفق معها عواطف إسحق في أن تأثير الحرب كان كارثياً على الصحافة والصحفيين، خاصة وأن الغالبية العظمى من المؤسسات الصحفية كانت تتمركز في العاصمة الخرطوم. تقول عواطف: “منذ اليوم الأول للحرب، توقفت الصحف الورقية تماماً، وذلك لوجود أكثر من 90% من المؤسسات الإعلامية في الخرطوم”. وتضيف أن هذا التوقف أدى إلى تشريد مئات الصحفيين والصحفيات وفقدانهم لوظائفهم، وانتقال البعض للعمل في مناطق أخرى أكثر أمناً أو خارج البلاد.
ويؤكد الباحث والمهتم بالإعلام، الفاضل نور، أن الحرب أثرت على الصحافة الورقية من عدة نواحٍ حاسمة، كتوقف المطابع عن العمل، وانقطاع استيراد مدخلات الطباعة الأساسية (الورق، الأحبار)، والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وانعدام الأمن الذي جعل توزيع الصحف أمراً مستحيلاً. يُضاف إلى ذلك توقف الإعلانات والمبيعات بشكل شبه كامل نتيجة للوضع الأمني المتردي، وصعوبة التغطية الميدانية للأحداث بسبب المخاطر الجمة.
رغم هذا الواقع القاتم، تعتبر مشاعر رمضان أن هذا التوقف مؤقت، وأنه لا يمكن للمجتمع السوداني تجاوز دور الصحافة الورقية المحوري. وتقول: “الصحافة الورقية متجذرة جداً في وجدان المجتمع السوداني، الذي اعتاد أن يبدأ يومه بشراء الصحيفة وقراءتها. كان القراء يتكالبون على الأكشاك والمكتبات وأماكن بيع الصحف للحصول على نسخة من صحيفتهم المفضلة”. وتضيف أن الصحافة الورقية لا تزال تمثل سوق عمل كبيراً ومصدر دخل للعديد من الصحفيين والصحفيات والعاملين في المؤسسات الصحفية، كما تساهم بطبيعتها في تكوين الرأي العام وتوفير المعلومات ومتابعة القضايا والأحداث الهامة.
هل هناك فرص لعودة الصحافة الورقية بعد الحرب؟
يرى الفاضل نور أن فرص عودة الصحف الورقية بشكلها اليومي بعد الحرب تبدو ضئيلة جداً في المدى المنظور. ويتوقع أنه إذا عادت، فستكون على الأرجح بشكل أسبوعي أو نصف شهري في البداية. ويشدد على أن عودة الصحف الورقية، أو حتى عودة “الصحافة المهاجرة” للعمل من داخل السودان، تتوقف بشكل أساسي على نتائج الحرب وطريقة انتهائها، لأن عودتها تتطلب توفر مناخ من الحريات الصحفية والعامة، بالإضافة إلى قدر من الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وتشير عواطف إسحق إلى أن توزيع الصحف كان منخفضاً أصلاً قبل الحرب بسبب ارتفاع أسعارها، مما أحدث تغييراً في سلوك القراء الذين اتجهوا بكثافة نحو الإعلام الإلكتروني. وتقول: “في الوقت الحالي، نعلم جميعاً أن الاقتصاد السوداني قد تدهور بشكل كارثي، مما سيؤثر حتماً على قدرة المؤسسات على إنتاج الصحف. فالمؤسسات الإعلامية والشركات والمطابع تعرضت للدمار أو النهب، وإعادة بنائها أو تأهيلها يحتاج إلى أموال طائلة، وتضافر الجهود، وربما توفر الدعم الخارجي”. ومع ذلك، لا تفقد عواطف الأمل تماماً، مؤكدة أن إعادة إحياء الصحافة الورقية يحتاج إلى إرادة قوية وتعاون ودعم كبير من كافة الجهات المعنية.
وتدعم مشاعر رمضان تفاؤلها الحذر بالدور التاريخي الهام للصحافة الورقية وبإصرار ومساهمات الصحفيات والصحفيين الذين، حسب قولها، أدوا رسالتهم بإخلاص رغم كل الصعاب. وقالت: “نتمنى أن تعود صاحبة الجلالة إلى بلاطها بعد انتهاء الحرب، ليعود معها بريقها وألقها ويتصفحها قراؤها من جديد”. وتشير إلى أهمية توفر الاحتياجات الأساسية ومقومات العودة، مثل: توفر خدمة الإنترنت بشكل مستقر، وجود صحفيات وصحفيين مهنيين، توفر مقار وأدوات إنتاج، وضمان بيئة عمل آمنة ومناسبة لإنتاج محتوى صحفي مهني.
وتختتم مشاعر بالتأكيد على أن الصحف الورقية، إذا عادت، ستوفر سوق عمل كبيراً للعديد من الوظائف المرتبطة بها في مجالات الإدارة والمالية والتوزيع وغيرها، فهذه مؤسسات قائمة بذاتها توظف عدداً كبيراً من العاملين وتوفر لهم فرص عمل حيوية. وتشدد على أن وجود صحافة ورقية مهنية ومستقلة يتطلب بالضرورة وجود دولة قانون ومؤسسات قائمة على حماية القانون واحترامه وتطبيقه، وتوفير الحماية اللازمة للصحفيات والصحفيين أثناء تأدية عملهم.
هذا التقرير الصحفي من إعداد شبكة اعلاميات، وقد تم نشره عبر مؤسسات منتدى الإعلام السوداني بمناسبة اليوم العالمي للصحافة لتسليط الضوء على اوضاع الصحافة والصحفيين في السودان. لنقف مع السودان#
