تقرير المصير .. حل إنهزامي .. وزائف

في تطور لافت للحرب الاهلية الدائرة في دارفور منذ العام 2003 برزت مؤخرا دعوات لمنح اقليم دارفور حق تقرير المصير .. برزت هذه الدعوات بعد تصريحات السيد مني اركو مناوي لصحيفة العرب اللندنيه بتاريخ 27/مايو 2015م والتي ساق فيها بعض المبررات محملاً المسؤولية للحكومة في دفع الاقليم للانفصال. وفي بعض الاوساط المرتبطة ببعض الحركات المسلحة فى دارفور من النخب والكتاب

 

 

بقلم : حزب البعث القومي 

 

 

في تطور لافت للحرب الاهلية الدائرة في دارفور منذ العام 2003 برزت مؤخرا دعوات لمنح اقليم دارفور حق تقرير المصير .. برزت هذه الدعوات بعد تصريحات السيد مني اركو مناوي لصحيفة العرب اللندنيه بتاريخ 27/مايو 2015م  والتي ساق فيها بعض المبررات محملاً المسؤولية للحكومة في دفع الاقليم للانفصال. وفي  بعض الاوساط المرتبطة ببعض الحركات المسلحة فى دارفور من النخب والكتاب  , وجدت هذه الدعوة قبولا وترحيبا وشرحا وتفسيرا تميز بالصراحة الشديدة , مستخدمه مواقع الاعلام (الاسفيرى) , في التأكيد على أن تقرير المصير هو الطريق نحو الانفصال ولم يدع هؤلاء المتحمسون والشراح فرصة للاحتمال الآخر الذي يتضمنه تقرير المصير وهو خيار الوحدة !! لذلك دار الجدل صريحا حول انفصال الاقليم وليس حول منحه حق الاختيار بين الوحدة أو الانفصال.!! لذلك سرعان ما اصبحت اطروحة تقرير المصير بمعناها السياسي الحقيقي خارج اطار المناقشة واصبح المطروح مباشرة هو انفصال الاقليم. ومن جهة أخرى شجعت تصريحات  النظام التى عبر عنها السيد غندور وقبله امين حسن عمر وغيرهم  حول امكانية اجراء استفتاء ادارى  في دارفور دعاة الانفصال على طرح دعوتهم علنا , واى كانت مسميات ومرامى وأهداف هذا الاستفتاء والترتيبات التى تقوم بها السلطه فى هذا الاتجاه فهو مرفوض ولا يعبر عن الاراده الشعبيه , التى تحشد كل طاقاتها الان من اجل ايقاف الحرب والبحث عن الامن والاستقرار,والسؤال هل اجرى النظام استفتاءا حين قسم اقليم دارفور فى العام  1994م ؟… هذا المسلك كان بالنسبة  لدعاة الانفصال الجدد رسالة واضحة على ان الحكومة يمكن ان تقبل تطور  تدابير من هذا النوع تحت اي مسمى . 

بالرغم من مضي اكثر من ثلاثة عشر عاماً على تاسيس حركات دارفور المسلحة واندلاع الحرب في الاقليم فان جذور الدعوة لتقرير المصير ليست بعيدة ولا عميقة في الوثائق الرسمية لهذه الحركات مع ملاحظة ان حركة العدل والمساواة لم تتبنى هذا الشعار في خطابها الرسمي .

وأن حركة تحرير السودان بجناحيها مناوي / وعبد الواحد ادرجت حق تقرير المصير في برامجها السياسية بشكل صريح بعد تاسيس الجبهة الثورية التي ضمت الحركة الشعبية/ شمال بجانب الحركات  فى دارفور وبعد ان اصدرت الجبهة الثورية وثيقتها المسماه " اعادة هيكلة الدولة السودانية " . وفي هذه الوثيقة  تم التركيز الشديد على فكرة الوحدة الطوعية لاقاليم السودان بما يمكن اعتباره الاساس النظري لفكرة تقرير المصير وفي هذه الوثيقة يتجلى ايضا التاثير الواضح  للحركة الشعبية على الحركات فى  دارفور نتيجة تمرس قادتها السياسي وتجربتهم الطويلة مع الحرب .. لم يتوقف تاثير قادة الحركة الشعبية عند هذا الحد فقد بدأ واضحا تاثيرهم في ما عرف بوثيقة الفجر الجديد ثم وثيقة اديس ابابا .. في كلتا الوثيقتين كانت هناك اشارات واضحة تفتح الباب امام اطروحة تقرير المصير ناقشناها بالتفصيل في بيانين منفصلين حذرنا فيهما من مغبة الانجرار والركض خلف حلم بناء اطار موحد يضم المعارضة السياسية والحركات المسلحة باي ثمن …  وأن ذلك يحتاج لعمق اكبر بعيدا عن التبسيط والتهافت الذى لا يصنع مشروعا وطنيا مشتركا لمواجهة تحديات المستقبل الوطنى ,وعلى نحو خاص شجع التوقيع غير المتبصر على ميثاق اديس ابابا  حركة مناوي على طرح  فكرة حق تقرير المصير في دارفور, بامكانيه قبولها فى اطار ما سمى بالوحدة الطوعية .

تحت ظل هذه المعطيات يبرز التساؤل عن معنى اطلاق  دعوة مناوي في هذا التوقيت ؟!!عندما انطلقت حركة تحرير دارفور فى بداياتها  لم تكن تملك غطاءً فكرياً واضحاً  فقد كانت عند انطلاقها تعبير قوي عن الشعور بالغبن والتهميش, لذلك وجدت في البداية ما يفسر هذا الغبن في شعارات الحركة الشعبية فى الجنوب  . هذا الانكشاف الفكري جر الحركة لخيارات سياسية متضاربة .. في البداية عرفت نفسها كحركة لتحرير السودان من القوى التي تسلطت على حكم البلاد منذ الاستقلال وحددت طريقها لهذا التحرير بالكفاح المسلح فانطلقت منذ لحظتها الاولى كحركة مسلحة .

بعد سنوات من اندلاع الحرب في دارفور جرت عدة محاولات للوصول الى حل سلمي يوقف الماساة في الاقليم كان اهمها منبر أبوجا.. وعبر هذا المنبر توصلت حركة مناوي منفردة الى اتفاق مع النظام فيما عرف باتفاق ابوجا. بموجب هذا الاتفاق تبوأ السيد  مناوي منصباً رفيعا في القصر الجمهوري وشغل عدد من قادة الحركه مناصب دستورية رفيعة في اطار النظام القائم وفى هذا المنحى لم يمس اتفاق ابوجا  ومرحلته أياً من ركائز النظام الأساسية وقبضته الشموليه  .. واستمر  ذات النظام الذي انطلقت الحركة  لتحرير السودان منه!!.

لم يصمد اتفاق ابوجا  طويلا  فعاد مناوي بالحركه الى العمل المسلح من جديد  بعد أن تسبب اتفاق ابوجا في انقسام الحركه  وإنسلاخ بعض كوادرها .. والآن وبعد عدة سنوات من ذلك المشوار المتأرجح  يطرح مناوي  فكرة تقرير المصير مع تصور مسبق للنتيجه وبخيار وحيد هو الانفصال!! أي التخلي عن تحرير السودان والتخلي عن بقية قوى الهامش بحسب منظور الحركة التى بنت عليه مجمل اطروحاتها  !! المهم ان الحركة تتحرك بين هذه الخيارات المتضاربة والمتعارضة دون اي حرج لسبب وحيد هو افتقارها لارضية فكرية ثابتة وايمان عميق بهذه الفكرة، والأسوأ من كل هذا ان الحركة بعد ثلاثة عشر عاما من انطلاقها تتمترس فى اطار التفكير الجهوي وترى نفسها كحركة دارفورية لا اكثر ولا أقل وهي غير المعنية في هذه اللحظة إلا بدارفور وحدها بهذا الطرح لفكرة تقرير المصير !!  ومن ثم عودة الحركة الى نقطة التفكير الاولى عند انطلاقها باسم/ حركة تحرير دارفور. 

من جهة اخرى يعني طرح الحركة لفكرة تقرير المصير ادراك الحركة لعجزها عن تعديل ميزان القوى عسكرياً وسياسياً لصالح تفكيك النظام او الاطاحة به او على الأقل فرض خيارات سياسية عليه تجبره على تقديم تنازلات جوهرية لصالح الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في البلاد لذلك ترى الحركة ان  الممكن هو اخذ ما تيسر من تراب الوطن وترك الباقي للمؤتمر الوطني يفعل به ما يشاء!! ذات المنطق الذى هزم الحركه الشعبيه لتحرير السودان الموحده  بانفصال الجنوب .

اذا كانت الحركة تدرك عجزها عن اجبار النظام على تقديم تنازلات حقيقية فعلام تراهن إذن؟! دون شك يراهن مناوي والحركه على سلوك النظام غير المسؤول واستعداده للتنازل عن وحدة البلاد في سبيل إبقاء سيطرته على ما يتبقى من الوطن  وهذا يفسر التزامن مع تصريحات غندور والدلالات السياسية لها حول الاستفتاء فى دارفور ..

من جانب اخر كان تصريح غندور يهدف الى مغازلة أمريكا وابلاغها رسالة عن استعداد النظام لتطوير علاقته مع الولايات المتحدة مهما كلف الأمر. ولا شك أن هذه الرسالة سوف يتردد صداها بما يتجاوز باحة  البيت الأبيض الامريكى . فتصريح غندور يعيد سيناريو علي الحاج في فرانكفورت عندما وقع مع مجموعة مشار إتفاقا  فى 25/يناير1992م تضمن اطروحة تقرير المصير لأول مرة في تاريخ الصراع السياسي بعد الاستقلال بصورة جاده , لسبب تكتيكي محدود هو تعميق انقسامات الحركة الشعبية بقيادة قرنق واضعافها … ولاحقاً تحولت هذه المناورة الى ورطة وجدت مكانها في اتفاق نيفاشا. ثم قادت للإنفصال في 2011م .

اذا كانت مناورة النظام في فرانكفورت تنم عن محدوديه الافق السياسى  وضعف العقيده الوطنيه فى بنيته  فإنها تكشف عن تصميم واصرار على تمزيق وحدة البلاد وتفتيتها …وفي النهاية السيطرة على السلطه وتحجيم وتقزيم الوطن فى سبيلها  كأدنى ما يكون فى حدود ماعرف "بمثلث حمدي" وهذا ما يمكن ان تراهن عليه اي حركة انفصالية في البلاد.

من الناحية السياسية يبرز التساؤل حول الاساس الذي ترتكز عليه الدعوة الى حق تقرير المصير فإقليم دارفور لا يحمل هوية مغايرة لهوية السودان في عمومه , وقسماته الثقافية العامة لا تختلف عن القسمات الثقافية للسودان في مجمله أي ان الاقليم لا يشابه جنوب السودان من هذه الزاوية. ومن زاوية اخرى يتميز الاقليم بالتنوع القبلي الواضح  بما يفوق اقاليم البلاد الأخرى وانتعاش روح القبيلة فيه التي جعلت دورة الصراعات القبلية هي الاعلى والاكثر دموية مقارنة ببقية اقاليم البلاد. ضمن هذا الواقع فإن انفصال الاقليم سوف يقوده الى كوارث عديدة إذ أن قسما مهماً من الصراعات القبلية أججها النظام الفدرالي المشوه . والتسييس المتزايد للإدارة الأهلية وهي امور مرشحة للتصاعد تحت وقع الإنفصال بصوره اوسع نتيجه استمرار وتصاعد هذا الواقع المحتقن من جهه ومن جهة اخرى عدم مخاطبه اساس الصراع السياسى  والاجتماعى فى البلاد بصوره  عامه وجذر الازمه الوطنيه الشامله التى تؤثر وتتأثر بحاله الاقليم  .

وهنا لا بد من أخذ تجربة انفصال الجنوب بعين النظر . فالإنفصال لم يحقق السلام بين الشمال والجنوب إذ استمرت الحرب بالوكالة ، كما انه لم يحقق الاستقرار لا في الجنوب ولا في الشمال وحال الدولتين يسير من سيء إلى اسوأ . موضوعيا لا شيء في تجربة الجنوب يغري بالانفصال. الهجرات الشعبيه الواسعه من الجنوب  والحرب الاهليه التى تحصد الارواح والقتل على الهويه كل ذلك انعكاس لفشل مشروع تجزئه  الاقطار والتشرزم فى عالم الكيانات الكبيره والاقتصاديات الضخمه .كما يؤشر من ناحيه اخرى  غياب المشروع  الوطنى المستند على حقائق التاريخ و القراءه الموضوعيه للواقع بافاق التنميه  المستدامه والعداله الاجتماعيه والقانونيه والديمقراطيه والتداول السلمى للسلطه .

في دلالاتها السياسية العامة تضع دعوة مناوي لتقرير المصير حركته وسائر الحركات المسلحة بين حدين إما مشاركة النظام حكم البلاد دون تغيرات جوهرية في ركائزه الاساسية أو الأنفصال بجزء من تراب الوطن فطوال تاريخ سودان ما بعد الاستقلال لم تنجح أي حركة مسلحة في اسقاط النظام او تعديله جوهرياً لمصلحة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بل أقصى ما كانت تحققه هو مشاركة ومحاصصة النظام ضمن شروطه مثلما حدث في اتفاق أديس ابابا 1973 وابوجا والدوحة والقاهرة او الفرار بجزء من ارض الوطن مثلما حدث في نيفاشا . لذلك ان اطروحة تقرير المصير حتى بالقياس على شعارات واسم وطموحات حركة تحرير السودان والسيد مناوي في سنوات انطلاقها الأولى هو حل انهزامي وتراجعي وزائف لازمه اقليم دارفور والازمة الوطنيه الشامله فى البلاد ولا يقدم مشروعا مستقبليا فى احسن حالاته افضل من مشروع جنوب السودان اليوم استنادا لتعقيد واقع الاقليم والحركه والوطن برمته وتحديات الظروف الاقليميه والدوليه فى المنطقه .  

ولكن لابد من الوقوف بعمق امام هذه الدعوه رغم انها تعبر عن احباط وتازم  ذاتى وانكفائى امام ازمه الوطن وازمه تطوره والنفق الذى ادخله فيه النظام الاسلاموى القائم ,كما انها من الزاويه الاخرى  ترشح مهاما ملحه امام القوى الوطنيه على رأسها العمل الجدى مع جماهير شعبنا وتصعيد النضال الجماهيرى المنتظم من اجل تخليص الوطن من هذا الكابوس  الذى لا يتوانى فى تفتيت البلاد والبقاء على السلطه باي ثمن  , و وضع اطروحات التشرزم  التى تخطط لتفتيت الوطن , امام دراسه جاده وموضوعيه وبناء الخطاب الوطنى الوحدوى الرصين فى دارفور وفى كل القطر , وتاسيس منابر المواجهة  الجاده فكريا وسياسيا  لمنطق تقاسم الوطن مع سلطه الامر الواقع القائمه. وصولا لسودان موحد حر ومستقل و ديمقراطى نهضوى فاعل فى محيطه العربى والافريقى 

 

 

     حزب البعث القومي        

       المكتب السياسي  

   الخرطوم يونيو2015م