انتشار التمييز في السودان !!

يثير استمرار محاكمة اثنين من القساوسة في الخرطوم التساؤل بشأن تعامل السودان مع الأقليات، وهي قضية لها جذور تاريخية عميقة ولا تزال تحظى بأهمية كبيرة.

يثير استمرار محاكمة اثنين من القساوسة في الخرطوم التساؤل بشأن تعامل السودان مع الأقليات، وهي قضية لها جذور تاريخية عميقة ولا تزال تحظى بأهمية كبيرة.
واتهم الأبوان "يات ميشيل" و"بيتر ين" بتهم عديدة من بينها تقويض النظام الدستوري وشن حرب ضد الدولة والتجسس.
ويمكن توقيع عقوبة الإعدام على التهمة الأولى والثانية.
وتعتبر منظمة العفو الدولية أن هذين الرجلين هما "سجينا رأي قبض عليهما واعتقلا واتهما فقط بسبب تعبيرهما السلمي عن قناعتهما الدينية".
وأثارت هذه القضية اهتمام منظمات مسيحية معنية بالدفاع عن حقوق المسيحيين في الولايات المتحدة والتي تقول إن الرجلين "يتعرضان للاضطهاد بسبب عقيدتهما المسيحية".
وينسجم كل هذا بقوة مع الرواية القائمة منذ فترة طويلة والتي تخضع للمبالغة أحيانا بممارسة الدولة السودانية الاضطهاد ضد الأقليات الدينية والعرقية.
وتقول منظمة العفو إن ميشيل قبض عليه في ديسمبر عام 2014 بعد أن ألقى عظة في إحدى الكنائس شمالي الخرطوم أثار خلالها المخاوف بشأن معاملة المسيحيين في السودان.
واعتقل القس الآخر "ين" في الشهر التالي وذلك على ما يبدو بعد أن أرسل خطابا لمكتب الشؤون الدينية يستفسر فيه عن سبب القبض على زميله.
وفي ظل استمرار المحاكمة، فإنه من المستحيل القول بشكل مؤكد إذا كان الرجلان مدانين بأي تهم، لكنهما معرضان لذلك بشكل واضح، إذ أنهما ينحدران من أقليات دينية وعرقية كونهما مسيحيين ومن جنوب السودان.

  

 

تمييز عرقي

 

 

وصوت مواطنو جنوب السودان بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال عام 2011 بعد عقدين من الحرب الأهلية التي يعتقد أنها أودت بحياة أكثر من مليوني شخص.
وسعى قادة السودان على امتداد أجيال متلاحقة إلى توحيد دولتهم الكبيرة شديدة التنوع من خلال اتباع سياسات للتعريب والأسلمة.
وأدى هذا في الغالب إلى نفور الفئات غير العربية وغير المسلمة، واندلعت حروب أهلية في العديد من مناطق السودان بسبب عدم المساواة في التنمية والاضطهاد السياسي.
لم ينه استقلال جنوب السودان، الذي يضم أغلبية من السكان غير العرب وغير المسلمين، مشاكل البلد، فاستمرت الحروب في دارفور وجنوب كردوفان والنيل الأزرق.
وبالرغم مما تقوله منظمات مسيحية وغيرها من جماعات النشطاء، فإن الدين ليس العامل الأهم وراء هذه الصراعات.
جميع سكان دارفور والنيل الأزرق تقريبا من المسلمين سواء أكانوا يؤيدون المتمردين أو الحكومة أو يبغضان كليهما.
ترتبط القضية هنا بشكل وثيق بالتمييز العرقي، إذ تمنح معاملة مفضلة لأولئك الذين ينظر إليهم على أنهم "عرب" في مقابل من يعتقد أنهم "أفارقة".
في جنود كردفان هناك عدد أكبر من المسيحيين وهناك حالات لتفجير كنائس في جبال النوبا حيث يتمركز المتمردون.
لكن هناك اختلاط كبير بين سكان جبال النوبة، إذ أنه من الشائع أن يجد المرء مسيحيين ومسلمين وأتباع ديانات أخرى في نفس العائلة، وسيكون من الخطأ وصف ما يحدث بأنه صراع ديني.
يجب أيضا أن يتحمل المتمردون جزءا من المسؤولية عن الحروب العديدة التي اندلعت، رغم أن تاريخ السودان يشهد بأن الناس المهمشين لم يجر الاستماع لشكاواهم إلا بعد رفع السلاح.

 

 

معاملة سيئة للغاية

 

لكن من الصعب التشكيك في أن تعامل السودان مع أقلياته كان ولا يزال سيئا للغاية.
ونقل عن الأب توت كوني راعي الكنيسة الإنجيلية المشيخية في جنوب السودان قوله إن القبض على كلا القسين "ليس شيئا جديدا على كنيستنا".
وأضاف: "جميع القساوسة تقريبا سجنوا في ظل حكومة السودان، وهذه هي عادتهم لهدم الكنيسة. إننا لسنا مندهشون، هذه هي الطريقة التي يتعاملون بها مع الكنيسة."
يسمح لمسيحيي السودان ممارسة شعائرهم الدينية، ويمكن أن تجد كنائس للعديد من الطوائف في الخرطوم وأماكن أخرى من البلد.
لكن هناك كنائس تعرضت للتدمير في الخرطوم، ويعتقد العديد من المسيحيين في السودان أن الحياة أصبحت أصعب عليهم.
واحدة من الحالات التي تابعها العالم هي الحكم بإعدام مريم إبراهيم بعد أن قال شقيقها إنها ارتدت عن الإسلام قبل إلغاء الحكم في نهاية المطاف وفرارها من البلاد.
وفي كلمة شهيرة له في أواخر عام 2010، قال الرئيس السوداني عمر البشير إنه بعد انفصال جنوب السودان فإنه "لن يكون هناك مجال للحديث عن تنوع عرقي وثقافي".
واعتبر ذلك تهديدا مباشرا لأولئك الذين لم يتبنوا السياسات الإسلامية للنظام، وجميع أولئك الذين لم ينحدروا من الجماعات العرقية المهيمنة من الخرطوم والمناطق القريبة منها.
وأكد الرئيس البشير أيضا أنه بعد انفصال الجنوب فإن "الإسلام سيكون الدين الرسمي والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" وأن اللغة الرسمية للدولة ستكون اللغة العربية".
قد يبدو هذا منطقيا في دولة تشير الإحصاءات الرسمية فيها أن 97 في المئة من السكان مسلمون، لكنها أثارت قلق العديد من غير المسلمين وأيضا المسلمين الذين لا يتبنون رؤية البشير عن الدين ودوره في الحياة العامة.
بعد مرور فترة قصيرة، تحدثت مع نجوى موسى كوندا وهي موظفة تعمل في مجال التنمية وهي مسيحية.
أثار خطاب البشير قلقا شديدا لدى كوندا، وتوقعت أن منطقتها التي ولدت فيها ستصبح قريبا "مثل دارفور"، حرب جديدة في بلد يعصف به بالفعل صراع منذ عدة عقود.
وفي غضون أشهر قليلة، حدث ما كانت تتوقعه كوندا، وهو اندلاع صراع في جنوب كردفان في يونيو عام 2011 وأعقبه بعد فترة قصيرة صراع آخر في منطقة النيل الأزرق، ولا تزال هاتان الحربان مشتعلتين.
فشلت الحكومات المتعاقبة في الخرطوم من عهد العثمانيين والاستعمار البريطاني في جعل التنوع العرقي والديني في البلد ميزة وليس عائقا.
ولا يوجد مبرر قوي يدعو للاعتقاد بأن الحكومة الحالية، التي تتولى السلطة منذ انقلاب عام 1989، راغبة أو قادرة على كسر هذا القالب.