المهندس عبدالجبار دوسة يكتب : استفتاء دارفور

تلهث الحكومة السودانية بقيادة البشير في هذه الأيام لاستكمال حزمتها التي تود أن تقدّمها قرباناً للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، أملاً في رفع الحصار الإقتصادي الذي طبقوه على النظام الحاكم في السودان عقب انقلابه على الحكومة المنتخبة ديموقراطياً في العام 1989م، ودعمه للإرهاب الدولي وإنشاد مليشياته “أن أمريكا قد دنى عذابها”، وحيث أن خُطى النظام لاستكمال الحزمة القربانية قد بدأت تتسارع على ساقين اشتد ترنّحما، فإن الضائقة المالية هي الأخرى قد بدأ تأثيرها بائناً في الهيجان الواجم للنظام على الشعب بلسان حَوَارييه في مسرح الحِوار وبالطبع في ما تسمّيه استفتاء دارفور، ويتبع الحزمة أيضاً تسويفها في جولات أديس أبابا، ومراهنتها على أن يتمكن أمبيكي من تسويق الحزمة للمجتمع الدولي .

 

بقلم : المهندس عبدالجبار محمود دوسة

 

تلهث الحكومة السودانية بقيادة البشير في هذه الأيام لاستكمال حزمتها التي تود أن تقدّمها قرباناً للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، أملاً في رفع الحصار الإقتصادي الذي طبقوه على النظام الحاكم في السودان عقب انقلابه على الحكومة المنتخبة ديموقراطياً في العام 1989م، ودعمه للإرهاب الدولي وإنشاد مليشياته "أن أمريكا قد دنى عذابها"، وحيث أن خُطى النظام لاستكمال الحزمة القربانية قد بدأت تتسارع على ساقين اشتد ترنّحما، فإن الضائقة المالية هي الأخرى قد بدأ تأثيرها بائناً في الهيجان الواجم للنظام على الشعب بلسان حَوَارييه في مسرح الحِوار وبالطبع في ما تسمّيه استفتاء دارفور، ويتبع الحزمة أيضاً تسويفها في جولات أديس أبابا، ومراهنتها على أن يتمكن أمبيكي من تسويق الحزمة للمجتمع الدولي .

إستناداً إلى قناعتنا التي تأصلت من خلال العِبر المستقاة من ممارسات الأنظمة المشابهة، إضافة إلى التجارب العديدة مع النظام نفسه، والتي ترسّخت، نكرر بأنه لا فكاك للشعب السوداني من ويلاته إلا بزوال هذا النظام، وهو موقف يزداد عندنا قناعة ولن يتراخى. إذن أتناول موضوع استفتاء دارفور ليس لحث الناس هناك على اختيار خيار بعينه، لا سيما مع إدراكنا وإدراك الناس والنظام نفسه بأن نتائج الإستفتاءآت والإنتخابات في ظل الحكومات الدكتاتورية الشمولية التي لا يُسمع فيها سوى صوت الحاكم، ولا يمثّل الشعب فيها سوى دور الصخرة الصمّاء التي تعكس صدى ذلك الصوت، بأنها نتائج معدّة سلفاً، في المقابل نُدرك بأن ما يقارب الثلاثة ملايين نازح في الإقليم المكلوم، وما يقارب نصف مليون لاجئ في دول الجوار، وعشرات الآلاف ممن هاجروا قسراً، خيارهم محسوم سلفاً ويحتفظون به في دواخلهم، ولا بد أن يعبّروا عنه عقب إزالة آثار هذا النظام في يوم نسعى جميعاً بأن لا يكون بعيدا .ً

برغم كل هذه القناعات التي باتت ثابتة ولن تتزحزح، فأن تناولي للموضوع يأتي أيضاً من باب توضيح الأمر بجلاء أكثر لمن لا يعلمون عنه، والتأكيد للعارفين بما يعرفون، خاصة وأن أبواق النظام الإعلامية ظلّت ولأكثر من ثلاثة أشهر تجهر كعادتها بكل ما هو زائف ومجاف للحقائق أملاً في تغييب الحقيقة عن المواطن في إقليم دارفور أولاً، والمواطن في بقية أنحاء السودان ثانياً، والمجتمع الدولي المستهدف أصلاً بالحزمة التي تمثّل تمثيلية الإستفتاء إحدى مكوناتها الأساسية .

من المعلوم أن دارفور كانت مملكة في هيئة دولة مستقلة بسيادتها لعدة قرون، فيها نظامها السياسي والإداري، وقد تميّز نظام الحواكير في تلك الدولة بقدر متقدم على ذلك الزمان في استخدامات الأرض، ولها علاقاتها الإقليمية والدولية، وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى في العام 1914م، أدى نزاع الحلفاء والمحور في سباق السيطرة على الموارد والمواقع الإستراتيجية في العالم، إلى أن يجمع الإستعمار البريطاني في العام 1917م بين مملكة دارفور ومملكة سنار وسوبا ليتشكل السودان الجغرافي المعاصر، وعقب مغادرة الإستعمار ظلّ إقليم دارفور محل ريبة ورعب لكل الأنظمة التي توالت على دست الحكم في السودان، لماذا؟ قد يجيبونا عليه يوماً ما. لكن تَبايَن وتَرَاوحَ وتَدرجَ التعامل مع الإقليم من السيئ إلى الأسوأ الذي يتمثل الآن في النظام الحالي الذي يقوده البشير. ولأنني بصدد الحديث عن الإستفتاء، سأركّز الحديث في السلطة والثروة ووهم تقصير الظل الإداري الذي يلهث النظام لتسويقه للسودانيين ومن بينهم مواطني دارفور تحت راية الولايات .

تحسباً للريبة والرعب المُفتَعلين فقد أبقت الحكومات المتعاقبة السُلطة الفعلية على دارفور في الخرطوم، وخاصة حكومات الأنظمة الشمولية التي حكمت السودان حتى الآن ما يقرب على خمسين عاماً إلا قليل، حيث نصيب النظام الحالي وحده منها أكثر من نصف المدة (27 عاماً). عندما تم طرح موضوع الإقليم في مفاوضات دارفور التي بدأت من مدينة (أبشي، تشاد) في العام 2003م وحتى إتفاقية (أبوجا، نيجيريا) في العام 2006م، إستند مفاوضوا الحركات الثورية حينها على حقيقة أن دارفور كانت إقليماً وفي العام 1994م، قام نظام البشير وضمن سياسة "فرّق تسد" قسّم الإقليم إلى ولايات ليس لتقصير الظل الإداري ولكن لتقصير الظل للموالين، فهو لم يستفتئ أهل دارفور في ذلك، بل قسّم أيضاً بقية أقاليم السودان إلى ولايات ولم يستفتئ مواطنيها، ولماذا يستفتيهم أصلاً، فهو نظام إستلب السلطة بالقوة، وركل رأي الشعب حينما انقلب على الحكومة التي انتخبها ديموقراطياً. حتى بعد إتفاقية أبوجا التي قامت على وجود ثلاث ولايات في دارفور، ركل النظام الإتفاقية وقسّم الإقليم إلى خمس ولايات، وغداً قد يقسّم الولايات القائمة إلى عشرة. طرح النظام نفسه كتجسيد للظلم المطلق، لذلك نشأت حركات ثورية مسلّحة في بعض الأقاليم وواصلت ساعية لانتزاع الحقوق، وفي أقاليم أخرى لم تسعفها ظروفها فركنت مؤقّتاً للأمر الواقع تتحين الفرص للإنتفاض .

طالبت الحركات الثورية في أبوجا بالإقليم كأستحقاق يقتضي إعادة الوضع إلى أصله، والواقع لم يكن الإقليم كلفظ فقط هو المستهدف، وإنما كان وما زال المستهدف هو تحويل السلطات الحقيقية من الحكومة المركزية/الإتحادية/ الفدرالية أيهما سمّيت، إلى حكومة الإقليم حتى يتمكن أبناء الإقليم في السلطة من ممارستها بكل ما تعني من مضمون، ولتكون قريبة من الإستجابة لمقتضيات حكومات الولايات والحالية داخل الإقليم. كما أن الهدف كان هو تخويل الولايات سلطات حقيقية وليس صورية كما هو الحال الآن، وأنه أفضل للولايات أن تتعامل مع حكومة إقليم يقوم على رأسها أبناء الإقليم وقريبة منهم يتفهمون طبيعة قضاياها وأولوياتها ويستجيبون لها مباشرة، بدلاً من أن يكونوا تحت رحمة الحكومة الإتحادية في الخرطوم. أحد الولاة السابقين في إحدى ولايات دارفور ذكر أنه وطوال عام كامل لم يتمكن من الحصول على 20% من السيولة المفترض صرفها من وزارة المالية لولايته من ميزانية الولاية التي اعتمدت، بينما ولايات بعينها كان يصرف لها 140%، أي ما يزيد على موازنتها 40%. قامت الحركات الثورية في أبوجا بإجراء مسح لمعرفة السلطات التي يجب أن تُخوّل للحكومات الولائية في ظل أي نظام فيدرالي حقيقي، ووجدت أنها تقريباً في حدود 50 سلطة أساسية، حالياً لا تملك حكومات ولايات دارفور سوى 7 سلطات حقيقية و5 جزئية والباقي تملك الحكومة الإتحادية السيطرة عليها تماماً. وتم حصر السلطات التي يجب أن تذهب لحكومة الإقليم من الحكومة الإتحادية، ووجدت أنها في حدود 32 سلطة، هذه ليست ضمن السلطات التي ذكرنا بأنها للولايات. السلطة الإنتقالية التي نشأت بموجب اتفاقية أبوجا لم تكن تتمتع بشكل كامل بالقدرة على ممارسة سوى 3 منها، وجزئياً 5 سلطات أخرى، لا أرى الآن سلطة واحدة حقيقية تمارسها الآن السلطة الإقليمية التي نشأت بموجب وثيقة الدوحة، فقد تماهت تماماً مع النظام. تم أيضاً حصر 17 سلطة يجب أن تكون مشتركة بين حكومة الإقليم والحكومة الإتحادية. ربما تسنح الفرصة في مقال آخر لتناول كل تلك السلطات بالتفصيل. إذن مما ذهبت إليه أقول بأن مستويات الحكم التي سعت الحركات الثورية إلى إقرارها في أبوجا، وفي مقدمتها حكومة الإقليم بالسلطات الحقيقية، وحكومات ولائية بسلطات حقيقية، هو النظام القادر على التعامل مع متطلبات السلام والتنمية في دارفور، ذلك لم يتحقق لا في أبوجا ولا الدوحة، والنظام بما يملك من إعلام محتكر يذر الرماد في العيون ويحاول تصوير واقع آخر ليس أكثر من ترسيخ للقتل والدمار والإفقار والتشريد. وجود بعض الإنحرافات والأخطاء وبعض الذين آثروا المصالح الذاتية على المصلحة العامة وسط الحركات الثورية المسلّحة، ليس مبرراً لهضم الإقليم حقّه الطبيعي .

مثل هذا الظلم لن يدوم إذا ما كانت هنالك حكومة إقليم بسلطات حقيقية يقوم عليها أبناء الإقليم. الفيدرالية الحقيقية تكمن في حجم السلطات والصلاحيات التي تتمتع بها الحكومة الإقليمية المعنية، وحجم تواجد أبناء ذلك الإقليم في المستويات الإدارية والتفيذية الوسيطة والعليا في الخدمة المدنية. ولأنه على سبيل المثال، لا يوجد 1% من أبناء دارفور في وزارة المالية الإتحادية، ولأن نظام البشير نسف الحيادية النسبية التي كان يتمتع بها العاملون في الخدمة المدنية سابقاً وحولتهم الآن إلى كنتونات قبلية وجهوية غائرة في الإنحياز، لذلك يعاني والي مثل إبراهيم يحى أو غيره من ولاة دارفور في استخراج اموال موازنات ولاياتهم من وزارة المالية. معلوم أن نضال الحركات الثورية المسلّحة هو الذي أجبر النظام على وضع أحد أبناء دارفور كنائب للرئيس، ووضع البعض الآخر في وزارات سيادية، إلا أنه خفف من تأثيرهم على سياساته بأن ركّز على المُنَظَمِين في المؤتمر الوطني وقيّدهم بما يسمّيه الولاء للتنظيم أولاً، والواقع أنهم هم أيضاً قد استكانوا لذلك النهج طواعية. أوردت هذا المثال فقط لأوضح جزءً من سلسلة المظالم وهي كثيرة ومتنوعة. من أراد تفاصيل أكثر يمكنه الإطّلاع على كتابي (دارفور وأزمة الدولة في السودان: الناشر مكتبة جزيرة الورد، القاهرة ). إذن جاءت مطالبة الحركات الثورية بالإقليم وسحب السلطات الضرورية من الحكومة الإتحادية وتمليكها لحكومة الإقليم بالإضافة إلى التواجد الحقيقي في المستويات الدستورية إتحادياً، واستكمال نسبة أبناء دارفور في الخدمة المدنية في مختلف مستوياتها الإدارية لتتويج وتجسيد تقصير الظل الإداري بمضمونه الحقيقي وليس صورياً كما هو الحال الآن. كما أبقت المطالبة على الولايات بصلاحيات حقيقية وليس صورية، حتى يصبح تعاملها أسهل وأقرب مع حكومة في الإقليم قادرة على التصدي لتحديات دارفور المتمثلة في تحقيق السلام والتنمية ولا نريد أن نسترسل في تلك التحديات وهي كثيرة .

لذلك وقف النظام معارضاً بكل ما يملك ضد استعادة الإقليم والتنفيذ المباشر لنسبة أبناء دارفور في الخدمة المدنية، ولأن طبيعة النظام تحكمه القبلية الموغرة، والجهوية المتأصلة، والمنظومة الإيدلوجية المؤطّرة لكل ذلك، فقد كان وما زال يُدرك أن استعادة دارفور الإقليم بحكومة إقليمية قوية وبداخلها ولايات بصلاحيات كاملة يعني أن مشروعها في تدمير دارفور سيتعثر، وربما يُعجّل بنهاية أحاديتها بالسلطة الإتحادية. تحت فقدان النظام لمنطق يدعم موقفه التفاوضي، وافق على مبدأ الإستفتاء، وبالسلطة الإنتقالية الإقليمية سواء في أبوجا أو الدوحة، فقط لأنه يُدرك بأنه ما زال يُمسك بخيوط اللعبة السلطوية وراهن على قدرته في تسويف كل ذلك أثناء مرحلة التطبيق، وهو محق في رهانه لأن الحركات الموقّعة على تلك الإتفاقيات أغفلت أو استهونت، أو أساءت تقدير قوة الضمانات المفترضة. وبعيداً عن الرؤى الفردية، بالتأكيد لا أعفي الحركات الثورية من نتائج أخطائها، ولا سيما تلك التي دخلت في اتفاقيات مع النظام دون ضمانات قوية، وأيضاً تلك التي لم تدخل في اتفاقيات لضياع بوصلتها وبلوغها الحد الذي بلغته من الضعف الآن. دارفور التي كانت سلة غذاء السودان، هي الآن إناء استجداء للسودان .

في العام 1998م عندما تعرضت القرى حول الجنينة إلى النهب والسلب والحرق والقتل والتشريد من مليشيات الجنجويد المدعومة من النظام، واحتج الوالي حينها المرحوم إبراهيم يحي على ما يحدث، ومعلوم أنه من أبناء الجنينة، حاول ممارسة سلطاته كوالي لاتخاذ القرارات والتدابير اللازمة لوقف تلك الممارسات، فإذا بالحقيقة تتبين أمامه بأنه لا يملك أي سلطات ولا صلاحيات، وأن خيط السلطات في يد الحكومة في الخرطوم في دلالة حية على خواء ما سمّاه النظام تقصير الظل الإداري، ووقف الرجل مكتوف الأيدي. حينها لم تكن هناك أي حركات ثورية مسلّحة، بالمقابل وتأكيداً على أن سلطات الولايات مجرّد صورة، أرسل النظام من الخرطوم الفريق محمد الدابي إلى الولاية بصلاحيات استثنائية ليتصرف فوق إرادة الوالي، مما قاد الوالي إبراهيم يحي إلى تقديم استقالته، ثم انضم لاحقاً إلى حركة العدل والمساواة. مثل تلك الصلاحيات التي تُعطَى للفريق الدابي ولا تُعطى للوالي إبراهيم يحي هي واحدة من صلب السلطات التي طالب المفاوضون في أبوجا بأن تكون ضمن سلطات حكومة الإقليم. في العام 2003م وإدراكاً من النظام بأن مناصب الولاة مجردة من السلطات والصلاحيات الحقيقية، فقد أنشأ ما أسمتها هيئة لإعادة الأمن وهيبة الدولة في دارفور، وكلّفت الفريق إبراهيم سليمان برئاستها. النظام نفسه مقتنع بأن قضايا إقليم دارفور فوق مقدرات الولايات حتى وإن امتلكت السلطات والصلاحيات الحقيقية التي طالبت بها الحركات الثورية في أبوجا، فما بالك بولايات يتم إدارتها الآن من الحكومة الإتحادية في الخرطوم. خذ مثالاً موضوع الحواكير التي تتقاطع في عدة ولايات، والحدود الغير محددة للولايات الجديدة، واستعادة المشاريع التي تم تصفيتها وقد كانت تتمدد في أكثر من ولاية مما تم تقسيمه الآن، وهذه مجرد أمثلة من كثير يمكن الحديث عنه بتفصيل في مناسبات أخرى .

لقد أشرت عابراً إلى حجم المظالم، ولعله من المفيد أن أذكّر بأن دارفور ظل الإقليم الوحيد الذي لا يرتبط بباقي السودان بأي طريق مسفلت حتى خضع النظام تحت ضغط نضال أهل دارفور وفي مقدمتهم الحركات الثورية المسلّحة إلى إكمال طريق الإنقاذ في العام 2014م، بما يقال عليه بالدراجة المصرية (طريق أي كلام)، أي طريق بلا مواصفات. وإقليم دارفور الذي كان احد أهم ركائز الإقتصاد السوداني إلى جانب مشروع الجزيرة، يعاني الآن الجوع وعدم الإستقرار الأمني في ظل ولايات فاقدة للسلطات والصلاحيات. فقد صفّى النظام كل مظاهر التنمية القائمة سابقاً في الإقليم على قلّتها، (مشروع جبل مرة، مشروع غزاله جاوزت، مشروع غرب السافنا، مشروع ساق النعام، مشروع أم بياضة، مشروع هبيلة الزراعي، مشروع حفرة النحاس، المحطة الجمركية الحية في مليط، وضم كرب التوم ملتقى الشاحنات القادمة من ليبيا إلى الولاية الشمالية، ورفض تشييد طريق الكُفرة الفاشر الذي كانت ليبيا تنوي تشييده ليكون رابطاً تجارياً لدارفور والبحر الأبيض المتوسط مع باقي أفريقيا، لا يستطيع أحد أن يذكر أي مشروع تنموي في دارفور الآن، بناء مباني رئاسة جهاز الأمن والمخابرات في الضعين، أو بناء سور ومدرجات في ميدان النقعة، هذه ليست أمثلة للتنمية. إقليم دارفور المجزأ الآن في شكل ولايات معزولة ليس لها رابط إقليمي يؤطّر وحدتها الإجتماعية ويعرف كيف يتعامل مع تحدياتها، أصبح مرتعاً لدسائس النظام بين القبائل وخلق الفتن وعدم الإستقرار، ولعله من السهل المقارنة بين دارفور سابقاً وفي ظل نظام البشير، تماماً كما هو المقارنة بين حال السودان كله قبل 1989 واليوم .

عندما كنا في أبوجا، وأثناء التفاوض وحتى تؤسس الحركات الثورية مطالبتها بتقاسم عادل للثروة، أجرت دراسة لتحديد وضعية إقليم دارفور من حيث التنمية مقارنة بأقاليم السودان الخمس الأخرى وهي كردفان والأوسط والشرقي والخرطوم والشمالي، ووضعت 10 معايير شملت الكثافة السكانية، المساحة، البعد من المركز، البنيات التحتية، الفقر، الأمّية، الحدود الخارجية، المساهمة في الصادر، الكثافة القبلية، التعرّض المباشر للحرب. نحن ندرك أن التنمية في السودان في ظل نظام البشير في أدنى حالاتها بدليل الإنعكاس السلبي على معاش المواطن كمقياس مبدئي، وبالتالي فإن كل الأقاليم سيئة ولكن نقول أن هناك السيئ والأقل سوءً والأكثر سوءً. جاء إقليم دارفور كأقل الأقاليم الست تنمية، أي أكثرها سوءً وفق تلك الدراسة. في وقت لاحق وبعد اتفاقية أبوجا وإنشاء صندوق دارفور للإعمار والتنمية، أكمل الصندوق الخطة الإستراتيجية للإعمار والتنمية في دارفور والتي كانت تشتمل على التمييز الإيجابي متمثلاً في سرعة للحاق محددة بمدة قدرها سبع سنوات. إكتملت المشروعات بدراساتها وتصميماتها في كل المجالات وراجع خبراء البنك الدولي تلك المشروعات في العام 2007م بعد أن بعث الصندوق بوفد متخصصين إلى مقر الصندوق في أمريكا، ناقشوا تلك المشروعات مع 13 خبير من البنك الدولي، والذين أجازوا تلك المشروعات وأكدوا بأنها مطابقة للمواصفات الدولية ويمكن تقديمها لمؤتمرات المانحين الجماعية، والمانحين على المستوى الثنائي، ولأن النظام كان يراهن على اعتقاده بعدم قدرة الصندوق في أن يتمكن من إعداد الدراسات والمشروعات، لكنه فوجئ بخطأ اعتقاده ولم يجد سوى ممارساته المعلومة لدى الجميع بأن أمتنع عن الإيفاء بدفع المبالغ المنصوص عليها في الإتفاقية وقدرها 700 مليون دولار، ولم يدفع سوى واحد من مائة من المبلغ المطلوب بعد ما يقارب سنتين من إنشاء الصندوق، أي سبع مليون دولار فقط، الأمر الذي قادني شخصياً إلى الإستقالة عن رئاسة الصندوق وعن عضوية مجلس السلطة الإنتقالية لأن المنصب لم يكن ضمن دوافعي لتولّيه، وإنما دافعي كان السعي لتحقيق إعادة الإعمار والتنمية في الإقليم ما أمكن ذلك. هذا المثال أيضاً لتأكيد لماذا كانت الدعوة للإقليم بصلاحيات وسلطات حقيقية ضرورة قصوى. والسؤال أيضاً يطرح نفسه، لماذا لم يُجر النظام الإستفتاء في العام 2010م، حسبما نصّت عليه إتفاقية أبوجاء أصلاً، والإجابة بسيطة، النظام ينفذ ما يريد كيفما يريد ومتى ما يريد، فهو يدرك أن مستوى الضمانات في كل الإتفاقيات التي تمت سابقاً، لم تكن تهدده إذا أخلّ بأي التزام فيها، وبعد انفصال الجنوب إنتفت الضمانة التي كانت تخيفه فتنكر لما تبقى من إتفاقية نيفاشا وعلى رأسها المشورة الشعبية، هذا النظام يخاف فقط .

وبعد،،،

في ظل القتل والتشريد المستمر في دارفور، والفقر المنتشر في أوساط الناس في كل السودان، وأحادية السلطة التي يزداد بها النظام ابتعاداً عن المواطن، والكبت المتواصل للحريات، يصبح الإستفتاء بلا معنى ولا مضمون، ولن يخدم النظام في قربانه الذي يريد أن يقدّمه لأمريكا وحلفاؤها، لأنه قربان يجسّد طغيان نظام ومعاناة شعب. أما ما الذي يجب على المواطنين في دارفور أن يفعلوه هو ببساطة تجاهل الإستفتاء وعدم الذهاب إلى مراكز التصويت، لأن أصواتكم لا تشكّل لدى النظام أي أهمية، ولا تغير النتيجة التي حددها وأعلنت عنها قياداته في أكثر من مناسبة، وهي أنه لا إقليم ولاسلطة حقيقية لأهل دارفور. ربما يريد البعض أن يتأسى بالمقولة الشائعة (أكلوا توركم وأدو زولكم) لكن تلك مقولة برغم مجافاتها لنزاهة الإظهار وإن استكمنته إلا أن المناخ الديموقراطي لا يوجد الآن لممارسوها. قصدت بهذا المقال أن أوضّح ما يَخفَى على البعض، وأن كُنت على قناعة بأن الكثيرين من مواطني دارفور يدركون قدراً كبيراً من الحقيقة. الخيار الذي يجب أن يتمسك به الشعب السوداني كله ويعمل له، هو إسقاط هذا النظام واستعادة عافية الوطن، كيف؟ كلٌ تنظيم يضع هذا الخيار أولويته القصوى ويفعّل وسائله وفقاً لذلك وخاصة العصيان المدني، ويُحكم التنسيق وتكامل الجهود.

Welcome

Install
×