الفصل السادس وأهميته للسودان

طلب السيد رئيس الوزراء لم يأت من فراغ. فقد ظل السودان في حالة نزاع منذ ثمانينات القرن الماضي

.,

 

 

 

بقلم السفير/ نور الدين ساتي

 

طلب السيد رئيس الوزراء لم يأت من فراغ. فقد ظل السودان في حالة نزاع منذ ثمانينات القرن الماضي، كما أنه شهد ثلاث بعثات للأمم المتحدة في آن واحد: اثنتان تحت البند السابع في دارفور (يوناميد) وأبيي (يونيسفا)، وواحدة تحت البند السادس ومقرها الخرطوم وجوبا لمتابعة تنفيذ اتفاقية نيفاشا. وما زالت (يونيسفا) موجودة وربما ستستمر الى أن يقيض الله لسودان الخرطوم وسودان جوبا الاتفاق على تسوية سلمية للنزاع حول أبيي. أما (يوناميد)، فإنها في طريقها الى الزوال، على أن تؤول بعض مهامها التي لم تستكمل الى البعثة المزمعة، تحت البند السادس هذه المرة، بدلا من السابع. ومبلغ علمنا، لم تؤد أي من هذه البعثات، حتى تلك التي تحت البند السابع، المصحوبة بآلاف الجنود، الى استعمار السودان، حتى وإن تسببت سياسات النظام السابق بوضعه في موضع الوصاية، وذلك عندما كان المجتمع الدولي في حالة عداء مفتوح مع السودان.
والسؤال الآن هو: هل خرج السودان تماما من (النفق المظلم) مضرب الأمثال؟ والتركيز هنا على كلمة (تماما). والإجابة الطبيعية والمنطقية هي (لا).
فنحن فجرنا ثورة ولكنها لم تبلغ غاياتها المرسومة لها بعد، وبدأنا فترة انتقال تواجهه العديد من الصعاب والعقبات والخلافات حتى بين الشركاء الذين فجروا الثورة ثم أضحوا يختلفون، كل يشد أطرافها اليه.
بدأنا إصلاحا دستوريا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا لم يكتمل، فإصلاح خراب ثلاثين عاما لا يتم في عام أو عامين.
وأوقفنا الحرب دون أن نحقق السلام، فالسلام ليس هو غياب الحرب، بل هو نزع جذورها ومسبباتها الراسخة في أعماق التاريخ والجغرافيا، وفي عقول الناس وأفئدتهم، كما تقول بذلك ديباجة ميثاق منظمة اليونيسكو. بدأنا عملية سلام لم تكتمل، وهي محاطة بالعديد من الصعوبات والتحديات. وما زالت رواسب الحرب ومخلفاتها ماثلة تحتاج لعلاج ناجع، من رتق للنسيج الاجتماعي، وعودة للنازحين واللاجئين الى موطنهم الأصلي، وتعويضهم على ما حاق بهم من دمار وتشريد، وإعادة تأهيل النفوس والبنيات الأساسية التي دمرتها الحرب وخربتها ثلاثين عاما من الاستفحال مع سبق الإصرار في طريق خاطئ.
كما أن عملية السلام التي بدأت في شهر سبتمبر الماضي لم تنته بعد، فالمطلوب إذن دعم عملية التفاوض لكي تكتمل في أقرب وقت ممكن، والمساعدة على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه حين يحين الوقت لذلك. وتنفيذ عملية السلام، أي سلام، تحتاج الى الكثير من الدعم السياسي والمالي والمادي والأمني واللوجستي. وقد دلت التجارب الماضية في مختلف أرجاء العالم أنه ما من بلد خرج من حرب أو نزاعات يستطيع أن يعالج عقابيلها المدمرة منفردا. خاصة إذا كان ذلك البلد، مثل بلادنا، في حالة إفلاس مالي واقتصادي.
وكأن كل ذلك لا يكفي، فقد جاءتنا جائحة كورونا ونحن في أضعف حال. فحالات الانتقال هي أكثر الحالات ضعفا وهشاشة. والنتيجة هي المزيد من الاستنزاف لمواردنا الشحيحة، والمزيد من الضرب الموجع على مفاصل المجتمع ومواطن تماسكه وتعافيه.
ولمثل تلك الأحوال تم تصميم ما يسمى في أضابير الأمم المتحدة وممارساتها بالفصل السادس. فقد توافق المجتمع الدولي على تقديم الدعم المطلوب للدول التي تخرج لتوها، أو هي في طريقها الى الخروج من أزمات وحروب انهكتها واستنزفت مواردها. فالفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة يعني بفض النزاعات سلميا وتعزيز السلام عبر آليات بناء السلام التي تتمثل في مفوضية بناء السلام وصندوق بناء السلام الذي أنشأته الأمم المتحدة خصيصا لتمويل عمليات الانتقال والإصلاحات التي يتطلبها ذلك في شتى المجالات. وقد كانت أولى الدول التي استفادت منه هي سيراليون، وبوروندي عندما كنت على رأس بعثة حفظ السلام فيها. ويتم تنفيذ كل ذلك بالتعاون والتناسق مع الدولة المعنية والشركاء المعنيين في تلك الدولة، بما في ذلك الحركات المسلحة التي توقع اتفاقا أو اتفاقيات مع الحكومة. وتتشعّب مجالات تفويض البند السادس فتشمل الاصلاح الدستوري والمؤسسي، ودعم الانتقال الديموقراطي، والأنظمة العدلية والعدالة الانتقالية، ونزع السلاح والتسريح والدمج وإصلاح المنظومة الأمنية، وعودة النازحين واللاجئين الى موطنهم الأصلي، وتقديم الدعم اللوجستي المطلوب لإجراء الانتخابات وغيرها من المجالات الحيوية.
ويختلف الفصل السادس عن الفصل السابع في أنه لا يفرض إرادة المجتمع الدولي على البلد المعني، بل يتعاون معه من أجل مساعدته لتجاوز أزماته. كما أن الفصل السادس لا يحتوي على مكون عسكري، كما يروج لذلك البعض، إلا في حالة الحاجة الى وجود رمزي للمساعدة في عمليات التسريح والدمج ونزع السلاح أو لحماية منشآت البعثة في بعض الأحيان. وهذا يخضع للتشاور وللإمكانات التي يمكن توفيرها من قبل البلد المضيف. ولا شك في أننا قادرون علي ذلك.
يتم كل ذلك مع الاحترام التام للخيارات الوطنية، أو الملكية الوطنية، (أو ما يسمى في لغة المجتمع الدولي بnational ownership). ولكن على الدولة المعنية أن تثبت جدارتها بامتلاك ما هو ملك لها من الناحية النظرية. وإلا فإن الملكية الوطنية تصبح مفرغة من أي محتوى. ومبلغ علمي أن حكومتنا مدركة لهذا الأمر، وأنها بدأت في إثبات جدارتها والقيام بالأعباء التي تتطلبها الملكية الوطنية. وأنها ستملك زمام المبادرة في مراحل الإعداد كافة للبعثة أو تنفيذ مهامها المتعددة.
وقد جاء خطاب السيد رئيس الوزراء، الدكتور عبد الله حمدوك الى الأمين العام للأمم المتحدة متمشياً مع هذا الشرط الأخير ألا هو احترام الخيارات الوطنية. فالدولة المضيفة هي التي تقوم بالتعبير عن احتياجاتها في هذه المرحلة الدقيقة من عملية الانتقال الديموقراطي نحو الحكم المدني. كما أن الخطاب جاء في ظروف مواتية رحب فيها المجتمع الدولي بثورة السودان وعبّر عن استعداده لدعم الانتقال الديموقراطي والحكم المدني بالوسائل كافة. وبذا فإن ذلك الطلب يأتي داعما للسيادة الوطنية وليس خصما عليها، وذلك لأن مجلس الأمن ملزم بأن يأخذ خيارات بلادنا ومتطلباتها مأخذ الجد وأن يستهدي بها عند صياغة (التفويض) الذي يحدد الصلاحيات التي سيعطيها المجلس للبعثة السياسية الخاصة لبناء السلام. بل أن تلك الصياغة لن تتم إلا بمشاركة السودان وموافقته على كل حرف فيها. كما أن البعثة لن تأتي لفرض إرادة المجتمع الدولي علي السودان، كما حدث في حالة (يوناميد) التي فرضت فرضا على السودان في ظروف العداء التي نعرفها، بل إنها ستأتي في إطار شراكة نافعة بين السودان والمجتمع الدولي. ومبلغ علمي أن الجهات السودانية المعنية في السودان وفي نيويورك تتحرك حركة دؤوبة لمساعدة مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك للتوصل الى صيغة التفويض التي تتماشى مع رغبة السودان واحتياجاته، وفي ذات الوقت تساعد على إيجاد الإجماع المطلوب داخل مجلس الأمن والذي يساعد على إجازة تفويض البعثة ونشرها وإنجاز مهامها وفقاً لخياراتنا الوطنية. ولا شك في أن العلاقات الطيبة التي تتمتع بها بلادنا مع أعضاء مجلس الأمن كافة، الدائمين وغير الدائمين، هي خير ضمانة بأن مشروع نشر بعثة بناء السلام ليس مشروعاً من مشروعات الاستعمار الجديد، كما يزعم البعض.
وقد أحسن الدكتور حمدوك، ووافقته على ذلك في مرحلة اتخاذ القرار، أن تغطي البعثة أرجاء الوطن كافة، على أن يتم تحديد احتياجات كل منطقة وكل إقليم وفقاً لمتطلبات كل منها. فكفانا تجزئة للوطن ومعاملة أجزائه الطرفية كما لو أنها وحدها التي تعاني من الداء مما يستدعي وضعها في العزل الإجباري. فالوطن جسم
واحد، والداء داء واحد لا ينحصر في إقليم دون الآخر، والأزمة فيه متكاملة وتحتاج الى منهج متكامل للحل في الإطار القومي، مع تحديد خصوصية كل منطقة واولوياتها واحتياجاتها. وقد خسرت البلاد كثيرا في الماضي من منهج تجزئة المشاكل وحصر محاولات الحلول في منطقة أو إقليم. وقد أدى ذلك المنهج الى فصل الجنوب، ولو أننا تمادينا فيه فإنه ربما يؤدي الى فصل أجزاء أخرى من الوطن. وأزمة الوطن منذ استقلاله في يناير من العام ١٩٥٦ والى الآن أزمة دستورية، يلعب فيها المركز دورا مفتاحيا، بهيمنته وانفراده باتخاذ القرار، ولذا فإنه من المنطقي أن يكون للبعثة المزمعة تفويض مركزي ويغطي التراب الوطني كافة حتى تتسق الحلول وتتكامل ما بين صلاحيات المركز وواجباته، وما بين صلاحيات الأقاليم وواجباتها. وكل ذلك سيتم تحديده في مؤتمر الحكم المحلي المزمع انعقاده في المستقبل القريب، والذي يُصب بدوره في المؤتمر الدستوري الذي سيمسك بجماع مشكلات البلاد ويقرر بشأنها. ومن المأمول أن تقوم بعثة بناء السلام بتقديم الدعم والمشورة لهذين المؤتمرين، ضمن مهامها الأخرى، وفقاً لأسبقيات الدولة والمجتمع وما تتمخض عنه عملية السلام التي تتم الآن في جوبا.
ولا شك في أننا نعلم دوافع الذين يشنون الحملة الإعلامية ضد نشر بعثة بناء السلام من منطلق العداء للثورة ولحكومتها، ولكننا ندعو الى توخي الحكمة والمنطق في تناول الشأن الوطني. فما يُعرِّض البلاد للمخاطر هو التشاكس والتناحر الذي لا يؤدي في نهاية الأمر إلا الى المزيد من التدخلات الأجنبية في شؤون بلادنا. ووضعها تحت الوصاية كما حدث بشأن مشكلتي جنوب السودان ودارفور. وهذا ما ينبغي علينا جميعاً أن نتجنبه، حكومة ومعارضة، بما في ذلك أنصار النظام السابق.
وتذكرني تلك الحملة بالوضع الذي وجدت عليه بوروندي عندما وصلت الى عاصمتها (بوجومبورا) في أكتوبر عام ٢٠٠٢ كنائب للمثل الخاص للأمم المتحدة ومدير المكتب السياسي للأمم المتحدة في بوروندي. فقد كانت (بوجومبورا) تمور بالاتهامات للمكتب السياسي للأمم المتحدة، وأنه جاء لاستعمار بوروندي وفرض الوصاية عليها. وكنت أقول لكل من يقول لي هذا الكلام، وكثير منهم صاروا أصدقاء أعزاء فيما بعد: “سنخرج عندما تتفقوا فيما بينكم”. وازدادت الحملة حدة عندما تبدل المكتب السياسي الى بعثة تحت الفصل السابع، وتوليت رئاستها في العام الأخير من عمرها. وقد استفادت بوروندي كثيرا من تلك البعثة التي ساعدت في بناء السلام والإصلاح الدستوري والسياسي والمساعدة على إجراء الانتخابات. وقد خرجنا من بوروندي دون أن نستعمرها، كما خرج زملاؤنا من قبلنا من ليبيريا وسيراليون وساحل العاج وغيرها من الدول التي تصالحت مع نفسها واستفادت من وجود بعثات الأمم المتحدة فيها لتبني مؤسساتها الدستورية والسياسية، ومنظوماتها الأمنية، وبنياتها الاقتصادية. أما تلك الدول التي لم تعِ الدرس وظلت طبقتها السياسية في حالة تشاكس وتخاصم مستمر، فإن بقاء البعثات الأممية فيها قد يطول. إذ أن أهلها يخربون بيوتهم بأيديهم، ويخوّنون من أراد بهم خيراً، ويلقون مسؤولية أخطائهم على الآخرين. وفي أنفسهم، ألا ينظرون؟
وختاماً… أقول، فلتوحدنا (كورونا) إذا لم توحدنا السياسة.. ففي مثل هذه اللحظات من عمر الشعوب تصبح مكافحة الجوائح، ما ظهر منها وما بطن، مقدّمَة على أي اعتبارات أخرى .