البرهان (ارشيف)

كشفت شبكة «سي إن إن» الامريكية ومركز «لايت هاوس ريبورتس» في تحقيق استقصائي نشر يوم الثلاثاء ، أن الجيش السوداني مع الميليشيات المتحالفة معه، استغل العملية التي شنها لاستعادة مدينة ود مدني والمناطق المحيطة بها في ولاية الجزيرة في بداية العام الجاري، كذريعة لشن حملة إبادة عرقية للمدنيين، بدأت في أكتوبر 2024، واستمرت لعدة أشهر.

600 مادة بصرية

ويحتوي التحقيق على ما يقارب 600 مادة بصرية، مع ربط الأدلة المرئية بالمواقع الجغرافية وشهادات الشهود، ويشمل ذلك مراجع إضافية مثل صور الأقمار الصناعية، وبيانات الحرائق، وتحليل الظلال، بالإضافة إلى وسائل الإعلام المحلية، وتقارير المجتمع المدني، وبيانات النزاعات من مراكز حقوقية.

وأفاد التحقيق بوقوع 59 هجوماً موثقاً على أكواخ المدنيين بين أكتوبر 2024 ومايو 2025. كما تم الإبلاغ عن 87 هجوماً إضافياً من إفادات شهود عيان، إضافة إلى التحقق من العشرات من مقاطع الفيديو، بما في ذلك مجزرة جسر الشرطة، والهجمات على المدنيين والحرق المتعمد والمقابر الجماعية.

ورغم ذلك أفاد التحقيق بأنه لم يتم توثيق العديد من المجازر، ولا يزال الكثيرون يتساءلون عما إذا كان أحباؤهم أمواتاً أم أحياء.

وأضافت شبكة “سي إن إن” الأميركية أن تحقيقها، المنشور الثلاثاء، يكشف عن “الفظائع ذات الدوافع العرقية التي يرتكبها الجيش السوداني وحلفاؤه”، مشيرة إلى أن هناك أيضا “فظائع ترتكبها قوات الدعم السريع، والتي بلغت مستويات غير مسبوقة في الأسابيع الأخيرة”.

فريق تحقيق مشترك

وفيما يخص الجيش السوداني، أوضح المصدر: “أجرى فريق تحقيق مشترك، بالتعاون بين شبكة CNN ومؤسسة Lighthouse Reports الإخبارية الاستقصائية، دراسة معمقة استمرت عدة أشهر لعمليات القوات المسلحة السودانية، وتتبع ما جرى خلال استعادة قواتها لمدينة ود مدني الاستراتيجية والمناطق المحيطة بها في ولاية الجزيرة مطلع العام الجاري”.

وأبرزت أنه من “من خلال مراجعة مئات مقاطع الفيديو، وتحليل صور الأقمار الاصطناعية، وتتبع المبلغين عن المخالفات، ومقابلة الناجين على أرض الواقع في السودان، كشفنا أدلة على أن العملية التي نفذتها القوات المسلحة السودانية والجماعات شبه العسكرية التابعة لها اتسمت بالعنف العرقي، والقتل الجماعي للمدنيين، وإلقاء الجثث في القنوات والمقابر الجماعية”.

كما تواصلت “CNN” و”Lighthouse Reports” مع مصادر متعددة زعمت أن “أوامر هذه الحملة صدرت عن قيادة القوات المسلحة السودانية”.

إبادة جماعية ممنهجة

وأكدت الشبكة الأميركية أنها تواصلت مع الجيش السوداني للتعليق على هذه الادعاءات، لكنها لم تتلقَّ ردا.

هذا ووصف أحد أعضاء بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان أعمال القوات المسلحة السودانية في هذه المنطقة بأنها “إبادة جماعية ممنهجة”، قد ترقى إلى “تطهير عرقي”، وهي جريمة حرب محتملة.

وفي يناير الماضي، أدان الجيش السوداني ما وصفها بـ”الانتهاكات الفردية” بعد استعادة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وأعلن عن فتح تحقيق في الهجمات.

وفي مقاطع فيديو لعمليات الجيش السوداني هناك، يصف الجنود مرارا وتكرارا من يستهدفونهم بأنهم “متعاونون” مع قوات الدعم السريع. ووصفت جوي نغوزي إيزيلو، عضوة بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان، هذا المصطلح بأنه “اتهام لا أساس له من الصحة” يُستخدم لتبرير الهجمات ذات الدوافع العرقية على المدنيين.

عشرات الجثث ملقاة في المياه

في منطقة بيكة مثلا، قتل المقاتلون أشخاصا اتهموهم بالتعاون مع “الدعم السريع”، وألقوا بجثثهم في الماء، بينما أُلقي آخرون أحياء، وفقا لضابط من جهاز المخابرات العامة السوداني كان متواجدا في المنطقة آنذاك. وأكد ضابط آخر من الجهاز نفسه، كان يقود قوات في المنطقة خلال الفترة ذاتها، هذه الممارسة.

وبعد أيام قليلة، تضيف “سي إن إن”، أن قائد القوات المسلحة السودانية، عبد الفتاح البرهان، ألقى خطابا “النصر” أمام مجموعة من الجنود الذين كانوا يهتفون تحت جسر بجوار الممر المائي في بيكة.

ففي خطابه بتاريخ 16 يناير، تفاخر البرهان بأن جيشه شنّ هجوما على مقاتلي قوات الدعم السريع في الموقع نفسه؛ وهو هجوم تم توثيقه في مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي في اليوم نفسه.

وفي الأيام والأسابيع التي تلت تقدم القوات السودانية نحو ود مدني، بدأت الجثث تطفو على سطح الماء في نظام القنوات نفسه. وتُظهر مقاطع فيديو نُشرت على الإنترنت في 18 يناير، والتي حددت شبكة “CNN” موقعها الجغرافي على جسر يقع على بُعد أقل من 80 كيلومترا شمالي بيكة، ما لا يقل عن ثماني جثث عالقة في الماء، جميعهم إما عراة أو يرتدون ملابس مدنية، وأحدهم على الأقل مقيد اليدين خلف ظهره.

وفي أحد الفيديوهات، يدّعي مقاتلو قوات الدعم السريع أن الضحايا أُطلق عليهم النار في الرأس وأُلقوا في القناة أثناء سيطرة الجيش.

صور الاقمار الصناعية

وقال لورانس أوينز، عالم الأنثروبولوجيا الشرعية الذي راجع اللقطات لصالح “سي إن إن”، إن الضحايا يبدو أنهم توفوا منذ حوالي أسبوع، وهي فترة زمنية تتوافق مع حملة القوات المسلحة السودانية للسيطرة على المنطقة.

هذا وكشفت صور الأقمار الاصطناعية التي التقطت في مايو، عما يبدو أنها عشرات الجثث الأخرى التي تم التخلص منها في القناة في منطقة بيكة، على بعد أقدام قليلة من المكان الذي ألقى فيه البرهان خطاب النصر.

وأظهرت الصور التي حللها مختبر الأبحاث الإنسانية التابع لكلية الصحة العامة بجامعة ييل وشبكة “CNN”، وجود العديد من الأجسام البيضاء في قاع القناة، تتطابق أبعادها ومظهرها مع جثث ملفوفة.

“عنف ذو دوافع عرقية”

خلال حملة القوات السودانية لاستعادة ود مدني، اتضحت طبيعة العنف ذي الدوافع العرقية، وفقا لتحقيق “سي إن إن” ومركز “Lighthouse Reports”.

وأفاد خبراء بأن “الهجمات استهدفت في معظمها أشخاصا من أصول غير عربية، بمن فيهم سكان منطقة دارفور الغربية، وما يُعرف اليوم بدولة جنوب السودان.

وتوضح الشبكة الأميركية: “في السودان، قد يعكس مصطلحا “عربي” و”غير عربي” اختلافات في نمط الحياة والقبيلة، فضلا عن الانتماء العرقي.. وقد غذّت انقسامات مماثلة الإبادة الجماعية في دارفور مطلع الألفية الثانية”.

وقال ضابط في الجيش السوداني، طلب عدم الكشف عن هويته: “أُطلق النار فورا على كل من بدا أنه من النوبة (سكان جنوب السودان الأصليين)، أو من غرب السودان، أو من جنوبه”.

كما كشف قائد استخباراتي رفيع المستوى، كان يشرف على القوات على الأرض، أن الجنود أطلقوا النار على مئات الأشخاص الذين خرجوا للاحتفال بوصولهم، واصفا الضحايا بأنهم من جنوب السودان.

جسر الشرطة

في فجر يوم 12 يناير، اندلع قتال عنيف عند جسر الشرطة، وخلاله بدا أن الجنود قد ألقوا القبض على أعضاء قوات الدعم السريع الفارين.

وأظهرت مقاطع الفيديو التي تم تصويرها بعد الاشتباكات جثثا متناثرة، يرتدي أفرادها مزيجا من الزي العسكري الخفيف الذي ترتديه قوات الدعم السريع والملابس المدنية، محاطة بمركبات محترقة ومقلوبة.

ورصدت مقاطع فيديو أخرى من جسر الشرطة عمليات إعدام واضحة لرجال عُزّل يرتدون ملابس مدنية، حسب “سي إن إن”.

وتضيف: “في اليوم التالي، أي 13 يناير، تم إخلاء الطريق من المركبات المحترقة والجثث. ويُظهر مقطع فيديو، يُرجح أنه صُوّر في ذلك الصباح استنادا إلى الظلال المُلقاة على الأرض، جنودا يستريحون في ساحة خالية بجوار نقطة تفتيش تابعة للشرطة”.

وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أظهرت مقاطع فيديو من نفس الموقع، جثث ما لا يقل عن 50 شابا، جميعهم يرتدون ملابس عادية، وكثير منهم حفاة، دون وجود أي أسلحة ظاهرة. يبدو أن العديد منهم قُتلوا حديثا، حيث توجد برك دماء حديثة تحتهم، وآثار طلقات نارية واضحة في الرأس. كما يمكن رؤية عكازين على إحدى الجثث.

ونقلت “سي إن إن” عن ضابط كبير كان حاضرا عند جسر الشرطة إن بعض الضحايا دُفنوا في مقبرة جماعية في الموقع، إلى جانب مقاتلي قوات الدعم السريع القتلى.

استهداف الكنابي

وتقول الشبكة الأميركية: “يبدو أن ما حدث على طول الطريق المؤدي إلى ود مدني جزءٌ من نمط تكتيكي أوسع تستخدمه القوات المسلحة السودانية وقواتها التابعة لها.. ففي الأشهر التي أعقبت استعادة المدينة، شنّ الجنود أيضا هجمات واسعة النطاق على شعب الكنابي، وهم مجتمع غير عربي مهمّش يعاني من محدودية فرص السكن والتعليم، وينحدر معظم أفراده من عمال مهاجرين من جنوب السودان ومنطقة دارفور.. يُعتقد أن الكنابي يشكّلون نحو نصف سكان ولاية الجزيرة”.

وتضيف: “وفي قرية طيبة، في 10 يناير، أطلقت قوات درع السودان، وهي ميليشيا موالية للقوات المسلحة السودانية يقودها أبو عاقلة كيكيل، الذي فرض عليه الاتحاد الأوروبي لاحقا عقوبات في يوليو بتهمة -استهداف الكنابي-، النار على المدنيين وأضرمت النيران في المنازل، وفقا لمصدر مطلع وسكان محليين”.

وأفاد ضابط من القوات المسلحة السودانية، كان متواجدا في الموقع وقت الهجوم، لشبكة “CNN”، بأنه شاهد مقاتلي قوات درع السودان يطلقون النار على مدنيين، بينهم كبار السن والنساء والأطفال.

كما أفاد تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أن الهجوم على طيبة أسفر عن مقتل 26 شخصا على الأقل.

شهود عيان يكشفون فظائع

تروي امرأة أطلق عليها التحقيق اسم مريم (وهو اسم مستعار حفاظاً على سلامتها)، تفاصيل اليوم الذي اجتاحت فيه قوات الجيش السوداني شوارع مسقط رأسها في ولاية الجزيرة بوسط السودان. حيث أفادت بأن أربعة جنود اقتحموا منزلها وطالبوا أبناءها الأربعة بالذهاب معهم، حيث تم اقتياد أبنائها وشقيقها على دراجة نارية. واستمر إطلاق النار طوال اليوم، وأضرم الجيش النار في المنازل. لاحقاً، علمت أن بعض تلك الطلقات على الأقل قد أودت بحياة أبنائها وشقيقها. لكنها تمكنت من الفرار مع شقيقها الآخر، سليمان.

كما روى سبعة ناجين آخرين على الأقل من ولاية الجزيرة قصصاً مماثلة عن استهداف المدنيين بلا رحمة على أساس انتمائهم العرقي.

واستذكر أحد زعماء المجتمع المحلي في ولاية الجزيرة مشاهدته لجنود الجيش السوداني وهم يلقون بثلاث جثث في القناة، ثم سافر لاحقاً في جميع أنحاء ولاية الجزيرة، متفقداً القرى المدمرة. وقال: «ما يحدث الآن في الجزيرة هو أنهم يريدون تدمير المناطق التي تعيش فيها أغلبية إفريقية».

اعترافات ضابط في الجيش السوداني

ويستطرد التحقيق قائلاً إنه خلال حملة الجيش السوداني لاستعادة ود مدني، اتضحت طبيعة العنف ذي الدوافع العرقية، حيث استهدفت الهجمات في معظمها أشخاصاً من أصول غير عربية، بمن فيهم سكان منطقة دارفور الغربية، ودولة جنوب السودان.

وقال ضابط في الجيش السوداني إن التعليمات كانت تقضي بإطلاق النار فوراً على كل من بدا أنه من النوبة، أو من غرب السودان، أو من جنوبه، وأكد قائد استخباراتي رفيع المستوى أن الجنود أطلقوا النار على مئات الأشخاص الذين خرجوا للاحتفال بوصولهم، واصفاً الضحايا بأنهم من جنوب السودان.

وفي فجر يوم 12 يناير، اندلع قتال عنيف عند جسر الشرطة، وخلاله بدا أن الجنود قد ألقوا القبض على مسلحين فارين، في حين أظهرت مقاطع الفيديو جثثاً متناثرة.

ورصدت مقاطع فيديو عمليات إعدام واضحة لرجال عُزّل يرتدون ملابس مدنية، وفي اليوم التالي، تم إخلاء الطريق من المركبات المحترقة والجثث.

كما أظهرت مقاطع فيديو من نفس الموقع جثث ما لا يقل عن 50 شاباً، جميعهم يرتدون ملابس عادية، وكثير منهم حفاة، دون وجود أي أسلحة ظاهرة، ويبدو أن العديد منهم قُتلوا حديثاً، حيث توجد آثار طلقات نارية واضحة في الرأس.

هل كانت ممارسات فردية؟

في يناير الماضي، دان الجيش السوداني ما وصفه بـ «الانتهاكات الفردية» بعد استعادة ود مدني، وأعلن عن فتح تحقيق في الهجمات، وسط اتهامات واسعة النطاق باستهداف المدنيين.

وفي مقاطع فيديو لعمليات الجيش السوداني، يصف الجنود من يستهدفونهم بأنهم «متعاونون» مع قوات الدعم السريع، وهو ما اعتبرته جوي نغوزي إيزيلو، عضوة بعثة الأمم المتحدة، اتهاماً لا أساس له من الصحة يُستخدم لتبرير الهجمات ذات الدوافع العرقية.

أوامر صادرة عن قيادة الجيش السوداني

وأكدت مصادر متعددة في التحقيق أن أوامر هذه الحملة صدرت عن قيادة الجيش السوداني، الذي امتنع بدوره عن التعليق على هذه الاتهامات.

ووصف أحد أعضاء بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق في السودان أعمال الجيش بأنها «إبادة جماعية ممنهجة»، قد ترقى إلى«تطهير عرقي».

وبحسب التحقيق فإن العملية العسكرية التي قام بها الجيش السوداني اتسمت بالعنف العرقي، والقتل الجماعي للمدنيين، وإلقاء الجثث في القنوات والمقابر الجماعية، إضافة إلى إلقاء البعض أحياء في المياه.

وأدت الحرب في السودان المستمرة منذ أكثر من عامين إلى مقتل أكثر من 150 ألف شخص.

Welcome

Install
×