معتصم أقرع : نقدنة العجوزات والركوب الغلط

أصبت بالقلق حين اطلعت على التصريحات الانتصارية للسيد محمد عثمان الركابي وزير المالية بان حكومته سوف تدفع بسعر الدولار من 30 جنيها الِى …

معتصم اقرع(وكالات)

معتصم أقرع

 

أصبت بالقلق حين اطلعت على التصريحات الانتصارية للسيد محمد عثمان الركابي وزير المالية بان حكومته  سوف تدفع بسعر الدولار من 30 جنيها الِى 18جنيها.  مصدر قلقي ان السيد الوزير يتحدث عن الاقتصاد بنفس المستوي العفوي الذي يتناول به رجل الشارع العادي قضايا الاقتصاد في الثرثرة اليومية . واذا كان رجل الشارع  معذورا في الحديث عن الاقتصاد من زاوية مشاغله  المعيشية الخاصة والعادية فان المثقف , ناهيك عن وزير  المالية – لا عذر له  في التعامل  الساذج مع قضايا  اكثر تعقيدا بما يبدو علي السطح . فما يبدو كشحم في السطح قد  يكون ورما سرطانيا في حقيقته , والعكس ايضا قد يحدث .

في تصريحه بان حكومته سوف تدفع بسعر الدولار من  30 جنيها الِيى 18 جنيها يبدو ان السيد الوزير لا يعي مخاطر تأجيج وتائر ارتفاع  القيمة الحقيقية للجنيه السوداني  المستمرمنذ عام 1989 وربما هو اصلا لا علم له بتصاعد القيمة الحقيقية للجنيه دعك عن اثارها العميقة على بنية الاقتصاد  السوداني واداءه.

لا عذر للسيد الوزير حتى لو تفاجأ القاريء العادي حين يعلم أن سعر الصرف الحقيقي للجنيه السوداني ظل في حالة ارتفاع متزايد في معظم سنوات الانقاذ الثلاثين الماضية رغم ان سعر الصرف الاسمي للجنيه انخفض من 12 جنيها للدولار في عام 1989 الِى اكثر من 30,000 جنيه في عام  2018 . كيف هذا؟

ببساطة، التغير في سعر الصرف الحقيقي – وليس الاسمي الذي هو سعر السوق الظاهر– يساوي الفرق بين معدل التضخم في البلد المعني ومعدل التضخم في دول شركائها في التجارة ناقص التغير في سعر الصرف الاسمي وهو سعر السوق  المعروف . على سبيل المثال، إذا كان معدل التضخم في البلد 50٪ ومتوسط ​​التضخم في بلدان  الشركاء التجاريين 10٪، أذا  فرق التضخم هو 40٪. فإذا انخفض سعر الصرف الاسمي للبلد بنسبة 10٪ فهذا يعني أن سعر الصرف الحقيقي قد ارتفع بنسبة 30٪ على الرغم من انخفاض  سعر الصرف الاسمي بنسبة 10٪.

في سبيل التبسيط ، تذكر فقط أنه إذا كان معدل التضخم في البلد المعني أعلى من معدل انخفاض سعر الصرف في السوق، فإن هذا يعني أن سعر الصرف الحقيقي قد ارتفع ، حتى لو انخفض سعر الصرف الاسمي. فاذا افترضنا ثبات  الاسعار في دول شركاء في التجارة فانه اذا كان معدل التضخم في السودان أعلى من معدل انخفاض قيمة الجنيه  امام العملات الاجنبية تكون القيمة الحقيقية للجنيه قد  ارتفعت مقارنة بالعملات الاجنبية .

وهذه المقدمة النظرية تعني أن سعر الصرف الحقيقي للجنيه السوداني قد ظل عموما في حالة ارتفاع خلال السنوات الثلاثين الماضية من حكم  الإنقاذ. وهذا الارتفاع في القيمة الحقيقية للجنيه السوداني هو أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الاقتصاد السوداني.

ببساطة سعر الصرف الحقيقي هو احد اهم المحددات  الرئيسية لمقدرة البلد التنافسية في الاقتصاد العالمي. ولذلك فإن سعر الصرف الحقيقي المرتفع , كما هو الحال في السودان , يعني ضعف المقدرة على المنافسة في السوق العالمي وضعف مقدرات المنتج المحلي علي منافسة   السلع المستوردة. وبـذلك فان ارتفاع سعر الصرف الحقيقي هو بمثابة ضريبة على الصادرات تعيق التوسع فيها كما انه دعم للواردات يجعلها اكثر جاذبية من المنتج المحلي . وهكذا فان ارتفاع القيمة الحقيقية للعملة الوطنية يضر بالمنتج المحلي الذي يفقد القدرة علي التصدير كما يفقد المقدرة علي المنافسة مع السلع المستوردة . نتيجة ارتفاع  سعر الصرف الحقيقي تعني أن صادرات البلد لا يمكن أن تنافس في الأسواق العالمية، و يعني أن السلع المستوردة  في سوق البلد المعني أرخص من بدائلها التي تنتج محليا. وهذا يعني أن منتجي الصادر ومنتجي السلع المنافسة للواردات سوف يتضررون بتناقص الربحية النسبية  وسوف يقللون من الانتاج  وربما يقومون بتصفية اعمالهم كاملا وكليا . وهذا يعني أن مجمل الإنتاج في البلد سوف يتدهور ، وسوف تنخفض العمالة، وتتفشي ويتفاقم الفقر. وهكذا فان ارتفاع سعر الصرف الحقيقي , كما هو الحال في السودان –  يقود الِي تدني تنافسية الاقتصاد الوطني في السوق العالمي علي مستوي السلع القابلة لتصدير وتلك القابلة للاستيراد الشيء الذي يترتب عليه تركز الاستثمار فقط في السلع التي لا تخضع  لمنافسة دولية أي التي لا تصدر ولا يمكن استيرادها من الخارج  . وفي المقابل سوف تنهار القطاعات الخاضعة  للمنافسة في الاسواق العالمية بما انها قابلة للتصدير والاستيراد مثل قطاعات الزراعة والصناعة.  والقطاعات التي تتضرر من ارتفاع القيمة الحقيقية للعملة الناتج من  تضخم الاسعار هي اس التنمية الحقيقية لانها القطاعات الموفرة للعمالة والقابلة  للتطور التكنولجي والتوسع غير المحدود لقدرتها على تسويق منتجاتها على مستوي العالم  .و هذا النمط من توزيع الموارد هو ما يحدث حاليا في السودان وينتج عنه  تركز الاستثمار في القطاع الخدمي مثل الأراضي والعقارات والمواصلات والمطاعم والكافتيريات وصالات  الأعراس والخدمات بشكل عام بما انه من الصعب استيرادها . وهذا النمط يفتك بقطاعات الزراعة والصناعة  ويقود الِي بنية انتاج شائه وهو أحد اكبر تحديات التنمية على المستوى الفني .

تتضح اهمية سعر الصرف الحقيقي علي المستوي المقارن  في جميع التجارب الحديثة في مجال التنمية، مثل نهضة النمور الآسيوية والصين، عن طريق المحافظة على  أسعار الصرف الحقيقية في مستويات متدنية لمساعدة المصدرين والمنتجين للسلع المحلية الصناعية والزراعية  التي تنافس الواردات. من المفيد ايضا ان نتذكر أنه عندما تختار الولايات المتحدة اثارة معركة تجارية مع الصين، فإنها تتهمها بـالحفاظ على أسعار صرف ضعيفة لعملتها  الشيء الذي يساعد المنتج الصيني على حساب منافسه  الأمريكي في السوق الأمريكي اذا ما كان المنتج الصيني مصدرا وفي داخل السوق الصيني في حالة كون المنتج الصيني يصنع سلع خاضعة للمنافسة مع سلع مستوردة . ويجب ان نتذكر أيضا أن أحد الأسباب الرئيسية لإنشاء صندوق النقد الدولي كان ايقاف الدول عن تخفيض قيمة عملاتها فيما يعرف بالتخفيضات التنافسية التي تهدف إلى زيادة القدرة التنافسية على حساب شركائها التجاريين.

كل هذا يقود إلى تفكيك التصريحات الأخيرة لوزير المالية بـإن حكومته سوف تدفع بـسعر صرف الدولار من 30 جنيها إلى 18جنيها على انهـا ركوب غلط  . لا أعتقد أن سعادة  الوزير سيكون قادرا على تحقيق هدف دفع سعر الدولار الِي حدود  18جنيها أو حتى المحافظة عليه في تخوم الثلاتين جنيها لفترة طويلة من الوقت، ولكن إذا فعل، فهذا سوف يشكل ضربة قاصمة على الإنتاج الزراعي والصناعي وعلي المصدرين ومنتجي السلع التي تنافس الواردات. . تعزيز سعر الصرف في السوق إلى 18 جنيه أو إلى أي مستوى آخر لا يمكن أن يكون مفيدا إلا إذا سبقه تقليل مستوى تضخم الاسعار والا فان مضاره سوف تكون كارثية. المشكلة الحقيقية هي تضخم الاسعار. انهيار سعر الصرف هو عرض من اعراض المشكلة كما هو استجابة  حميدة الِى درجة ما الِي هذا التضخم.

لا يهدف هذا المقال الِى الاحتفال بانهيار سعر العملة  الوطنية وانما يهدف الِى التذكير بان تدني السعر الاسمي للعملة هو ليس سببا وانما هو عرض من اعراض مشكلة اعمق , كما ان تدني السعر الاسمي للعملة لا يعني بالضرورة ان سعرها الحقيقي قد انخفض . المشكلة  الحقيقية التى تقود الِي انهيار سعر الصرف الاسمي-  وليس الحقيقي –  هي التضخم , وسبب التضخم هو ان الحكومة  تطبع  العملة بافراط  لتمويل أنشطتها التي تهدف الِي الحفاظ علي النظام واثراء زبانيته. فحسب ارقام بنك السودان , فقد قامت الحكومة في عام  2017 بطبع 64 تريليون جنيه – أي 64 ألف مليار جنيه. وهذا هو السبب الوحيد تقريبا في تضخم الاسعار وانهيار قيمة الجنيه الاسمية مقابل العملات الاجنبية وليس السبب هو جشع التجار أو تجار العملة كما تدعي الحكومة التي تجيد اسقاط عيوبها على الاخرين للتهرب من المسؤلية والبحث عن الحلول في الفضاء الأمني بما انه المجال الوحيد الذي تجيد الأداء فيه. هكذا فان النظام في عام 2017 فقط طبع كم من النقد يفوق نصف ما قامت كل الحكومات السابقة في التاريخ بطبعه منذ ان عرف السودان النقود.

سبق ان نبهنا الِي انه من المستحيل صناعة ثروة حقيقية بطباعة النقود السهلة. عليه فان طباعة 64 تريليون هي في حقيقتها تحويل للثروة من جيب المواطن الِي جيب الحكومة في ما يعرف بضريبة التضخم , أي ان ارتفاع الاسعار هو نوع من الضريبة التي تفرضها الحكومة على المواطن عن طريق طباعة العملة . بـطباعة العملة بافراط وباستمرار يمكن للحكومة أن تسرق وتصادر، سرا، دون رقابة، جزءا مهما من ثروة مواطنيها. مقدار المال الذي تسرقه السلطة يساوي ما يخسره المواطن/ة من القيمة الحقيقية لدخله/ا (تناقص القوة الشرائية) نتيجة لتضخم الاسعار وانهيار سعر الصرف الناتج عن الطباعة المفرطة للعملة. تضخم الاسعار وانهيار سعر الصرف هما بالظبط عبارة عن ضريبة خبيثة تفرضها الحكومة عن طريق طباعة العملة لتمويل نفقاتها. عليه فانه لو تضاعفت الاسعار على سبيل المثال , يفقد المواطن تقريبا نصف دخله الحقيقي , ويذهب هذا النصف الِى جيب الحكومة . عليه فانه بالاضافة الِى الضرائب والجبايات والرسوم المتعددة , فقد فرضت الحكومة في عام 2017 ضريبة اضافية على الشعب قيمتها 64 تريليون جنيه . أي قامت الحكومة بتحويل مبلغ 64 ألف مليار جنيه من جيب المواطن الِي جيبها .

عليه فان لب المشكلة يكمن في ركون الحكومة الِي طبع العملة لتمويل صرفها الذي يفوق دخلها الضريبي والقروض والمساعدات  الخارجية , فيما يعرف بنقدنة العجز المالي. ينتج عن هذه النقدنة تضخم الاسعار الذي يفقر المواطن باضعاف القدرة الشرائية لدخله كما انه يقود , في  الحالة السودانية , الِي انهيار السعر الاسمي  لسعر الصرف , وفي نفس الوقت يقود الي ارتفاع  سعر الصرف الحقيقي الذي يقود الِي تقزيم الانتاج الزراعي والصناعي  ويخلق اقتصادا تسوده كافتيريات ومطاعم  وصالات اعراس وخدمات مسدودة الأفق التنموي  .

قبل ان يعيد السيد وزير المالية سعر الدولار الِي 18 جنيها عليه الكف عن الركوب الغلط علي المستوى المفهومي  ومحاربة التضخم بترشيد صرف النظام والتوقف عن طبع العملة لتمويل صرف الحكومة ونقدنة عجوزاتها المالية