طفل ففر مع اسرته من الفاشر الى طويلة تبدو على جسمه اثار الضرب والاصابات : مصدر الصورة :موقع للجنة الدولية للصليب الاحمر

منتدى الإعلام السوداني

تقرير: فتح الرحمن حمودة

طويلة، 22 ديسمبر 2025، (التغيير)- (سليمة) هو اسم مستعار لنازحة كانت تمشي وسط أزقة مدينة الفاشر كأنها تسير فوق ذاكرة لمدينة ماتت، حيث كانت تسمع في الصباحات الباكرة وقع خطواتها ووقع القذائف والمسيرات! وفي ذات الوقت، بين منازل هجرها أهلها خوفا من الموت، وأخرى تهدمت بسبب الأسلحة الثقيلة، كانت سليمة بجوار ابنتها التي تحاول أن تقنعها بأن الحال سيتحسن قريبا وسينجوا من ذلك.

تروى سليمة قصتها لـ (التغيير) عقب خروجها من المدينة التي كانت مسرحا للحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث كانت لا تحكي عن مأساة فردية بالنسبة لها، بل كانت تفتح نافذة واسعة على آلاف القصص الإنسانية المشابهة للناجين الذين حملوا معهم مشاهد لا تنسى عن مدينتهم التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع.

وكانت مدينة الفاشر قد عاشت أسوأ أيامها في فترة حصار مكثف فرضته قوات الدعم السريع على المدينة، وفي الوقت ذاته، ظل الجيش السوداني والقوات التي تقاتل معه متمسكين بسيطرتهم على المنطقة، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية للمدنيين بشكل كبير.

شهدت مدينة الفاشر حصارا ومعارك ضارية بين الجيش حلفائه، وعلى رأسهم القوات المشتركة التابعة لحركتي مني أركو مناوي، قائد حركة تحرير السودان، وجبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة، من جهة، وقوات الدعم السريع. وكان القتال من أجل السيطرة على المدينة شرسا لعدة أسباب، منها الأهمية الاستراتيجية لها بالنسبة لإقليم دارفور، وكذلك التنافس المحموم بين حركتي مناوي وجبريل مع الدعم السريع على أسس اثنية من اجل فرض النفوذ في دارفور.

يذكر أن الفاشر تضم معسكرات للنازحين يسكنها مئات الآلاف من ضحايا الحرب الطاحنة في الإقليم التي اشتعلت في العام 2003.

وهناك انتقادات لاذعة يوجهها مراقبون للجيش السوداني لرفضه مقترح الهدنة الإنسانية الذي طرحته “الرباعية” ولاختياره الاستمرار في القتال رغم أن المؤشرات العسكرية ترجح أن الفاشر ستسقط، ولذلك كان يمكن ان ينسحب الجيش وحلفاؤه انسحابا منظما يحافظ على حياة الجنود والمواطنين.

وفق منظمات حقوقية، شهدت مدينة الفاشر انتهاكات واسعة النطاق، قبل وبعد سيطرة قوات الدعم السريع عليها، وبينما كان العالم يتابع عن بعد، عاش المدنيون حصارا قاسيا وصلت فيه أسعار السلع الاستهلاكية إلى مستويات غير مسبوقة، بل وانعدمت الخدمات الأساسية، بما فيها الصحية، مع اشتداد العمليات العسكرية يوميا لساعات طويلة.

وتحكي سليمة أن الموت أو القتل كانا قد باتا عادييين بالنسبة لهمن فبين الساعة السادسة صباحا وحتى السادسة مساء كانت المواجهات العسكرية العنيفة لا تتوقف. وتقول بحسب شهادتها كان يموت يوميا بين «200 إلى 300» شخص على الأقل، “حتى أصبح الأمر عاديا لكل الناس”، على حد قولها.

وتضيف أن الجثث المجهولة للمدنيين كانت تدفن بسرعة بينما كانت أشلاء أخرى منها تجمع من الشوارع والأزقة. وحتى من فوق الأشجار وعلى الجدران. وتشير إلى أن هناك حادثة لا تزال مطبوعة في ذاكرتها، حين سقطت قذيفة على رجل فتقطع جسده. وتمضى في الحديث قائلة: “وجدنا يده اليمنى واليسرى ورأسه، في اتجاه، بينما الكبد والأحشاء في اتجاه آخر، ولم نجد بقية جسده”.

وتقول إنه مع مرور الوقت واستمرار المواجهات العسكرية واشتداد وتيرتها لم يعد القتل وحده يهددنا، بل كان الجوع أيضا، حيث وصلت أسعار المواد الغذائية آنذاك إلى مستويات عالية فكان كيلو الدقيق «60» ألف جنيه وكوب الأرز «70» ألف ونصف رطل السكر «10» آلاف، بل وحتى صابونة الغسيل وصل سعرها إلى «70» ألف جنيه سوداني (يعادل الدولار نحو 3550 جنيه).

وتمضى المرأة قائلة إن قرار مغادرتها للمدينة جاء حين أصبح البقاء مستحيلا بسبب سوء الأوضاع بمجملها يوما بعد يوم، حيث لا طعام ولا دواء ولا أمان، وتضيف: في يوم كان من المفترض أن يكون عاديا بالنسبة لهم، اندلعت اشتباكات عنيفة أثناء خروجهم من المنطقة حتى اضطروا للانبطاح على الأرض لساعة كاملة قبل أن يتمكنوا من السير.

وبعد توقف الاشتباكات بدأوا بالخروج من المدينة، ولكن قالت إن الطريق على طوله كان مليئا بالجثث، وليس هناك من شخص في مقدوره أن يواريها، ومن يحاول يمكن أن يقتل، لأن التدوين بالمدفعية الثقيلة كان ما زال مستمرا.

وتشير إلى أنهم أثناء سيرهم على طريق الفرار كان العطش والجوع يهددان حياتهم، لا سيما أن المسافة كانت طويلة، فلا ظل للاستلقاء، ولا حتى وسيلة نقل تحملهم، وتضيف: أنه مع استمرار سيرهم كانت قد توقفت عربة يقودها جندي من جنود قوات الدعم السريع، فحمل الأطفال والنساء إلى جانب العاجزين، وأصر عليهم أن يتركوا أمتعتهم.

وتقول إنها واصلت السير على الطريق ومعها عدد من الفارين لمدة 4 ساعات دون توقف حتى وصلوا إلى منطقة (قرني) ومنها تحركوا إلى مناطق أخرى، مشيرة إلى أنها كانت رحلة محفوفة بالمخاطر والمصير المجهول.

وتواصل سليمة في روايتها بأن مجموعة كانت تتكون من (75) شابا تم اعتقالهم أمام أعينهم وبشكل جماعي، وقالت وجهت إليهم اتهامات بأنهم يتبعون للجيش السوداني أو القوات الأخرى التي تقاتل في صفوفه، وتقول: رغم أنهم كانوا مرهقين من الجوع والعطش ولا يقوون حتى على الجلوس وبعد ساعات من الانتظار وصلت 3 سيارات عسكرية نقلتهم إلى جهة غير معلومة.

وتضيف: حتى صباح اليوم التالي، لم يعد الشباب الذين أعتقلتهم قوات الدعم السريع، فيما قال لها أحدهم إنه من الغالب أن تقوم القوات بتجنيدهم ليقاتلوا في صفوفها إذا لم تقم بتصفيتهم.

وتمضي (سليمة) في سردها عن الطريق الممتد بين مناطق “أبوجا، حدة، طربا، وأم شجيرة” وصولا إلى الطريق المؤدي إلى (زمزم) ثم منطقة (طويلة) التي فر إليها مئات الآلاف من النازحين. وتقول: كانت في الشارع أعدادا مهولة من الجثث المنتفخة، وأخرى متحللة، حتى أن الحيوانات، بما فيها الكلاب، كانت تأكل منها.

وتشير إلى أن أشد المشاهد قسوة كان العثور على ما يقارب 12 جثة، على الأقل، لفتيات. وتقول: كان يبدو أن قتلهن لم يمر عليه أكثر من يومين.

وتضيف: عندما وصلوا إلى منطقة طويلة كان السكان المحليين استقبلوهم بحفاوة وقدموا لهم وجبة في الفترة الصباحية وأخرى في النهارية، ولكن معاناتهم لم تنته هنا، حيث أضافت أن الاحتياجات الأساسية ما زالت مفقودة، وأبرزها عدم وجود المراحيض، فيضطروا، هم وأطفالهم، لقضاء حاجتهم في العراء.

ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء فيه هذه المادة من إعداد صحيفة (التغيير). توثق المادة على لسان الشهود جانبا من جوانب المأساة التي حلت بالمدنيين في مدينة الفاشر، وذلك إبان احتدام الصراع عليها بين الجيش وقوات الدعم السريع. وشهدت المدينة انتهاكات واسعة النطاق، قبل وبعد سيطرة قوات الدعم السريع عليها، وعاش المدنيون حصارا قاسيا وصلت فيه أسعار السلع الاستهلاكية إلى مستويات غير مسبوقة، وانعدمت الخدمات الأساسية مع اشتداد العمليات العسكرية يوميا. وهناك، قتل من قتل ومات من مات ونزح من نزح.

Welcome

Install
×