حروبُ الرسائلِ والمبادرات بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق 3 – 3
د. سلمان محمد أحمد سلمان
1
بدأنا في المقال الثاني السابق من هذه السلسلة من المقالات الثلاثة مناقشة ما أسميناه "حرب الرسائل" بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق. وقد أوضحنا أن تلك الحرب بدأت بخطاب الدكتور جون قرنق الذي ألقاه في لقاء التجمع الوطني الديمقراطي في كمبالا في 7 ديسمبر عام 1999. وقد شنَّ الدكتور قرنق في خطابه في ذلك اللقاء هجوماً عنيفاً على اتفاق جيبوتي الذي كان حزب الأمة قد وقّعه مع حكومة الإنقاذ في 25 نوفمبر عام 1999، وأنهى فيه حزبُ الأمة استراتيجيةَ العمل العسكري لإسقاط نظام الإنقاذ، واستبدالها بالعمل السلمي لحلِّ مشاكل السودان.
وقد قام السيد الصادق المهدي في خطابه المؤرّخ 22 ديسمبر عام 1999 بالردِّ على خطاب الدكتور قرنق الذي ألقاه في لقاء كمبالا. وأرسل السيد الصادق المهدي خطابه مباشرةً إلى الدكتور جون قرنق.
ثم قام الدكتور جون قرنق في 31 يناير عام 2000 بالردِّ مباشرةً على رسالة السيد الصادق المهدي الموجّهة له.
وتواصلت حربُ الرسائل بردِّ السيد الصادق المهدي في الفاتح من مارس عام 2000 على رسالة الدكتور جون قرنق. وقد كانت رسالة السيد الصادق المهدي تلك هي الرسالة الأخيرة في حرب الرسائل. غير أن حرب الرسائل تلك حلّت مكانها حرب المبادرات.
سوف نناقش في هذا المقال حرب المبادرات التي اندلعت بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق. وقد تمحورتْ حربُ المبادرات في المبادرة الليبية المصرية التي تبنّاها السيد الصادق المهدي، ومبادرة الإيقاد التي كانت مُرتكزَ استراتيجية الدكتور جون قرنق.
2
بعد أسبوعين من رسالة السيد الصادق المهدي الثانية للدكتور قرنق في أول مارس عام 2000، أعلن حزب الأمة في 16 مارس عام 2000 انسحابه رسمياً من التجمّع الوطني الديمقراطي. عدّد الحزبُ مجموعةً من الأسباب لانسحابه، شملت ضعف مساهمة فصائل التجمّع الفكرية والسياسية والمالية، واحتكار رئيس التجمّع العمل التنفيذي وتجاوزه مؤسسات التجمّع. شملت الأسباب أيضاً فشل التجمّع في الإيفاء بتعهداته تجاه المبادرة الليبية المصرية.
كان السيد الصادق المهدي قد ذكر في رسالته الثانية للدكتور جون قرنق أن حزب الأمة لم يحكم السودان خلال فترات الحكم المدني منفرداً، بل كان دائماً يحكم مؤتلفاً مع حزبٍ آخر، وعليه لا يمكن إلقاء كل الأخطاء في حكم السودان عليه.
اختفى هذا المنطق عند حديث حزب الأمة عن فشل التجمّع وضعف مساهمة فصائله، علماً بأن السيد مبارك الفاضل المهدي، ممثل حزب الأمة، كان الأمين العام للتجمع منذ انتخابه لهذا المنصب في مؤتمر أسمرا في يونيو عام 1995.
3
برزت المبادرة الليبية المصرية في منتصف عام 1999. فبدعوةٍ من الحكومة الليبية، عقدتْ قياداتُ التجمّع الوطني الديمقراطي اجتماعاً في طرابلس في يوليو عام 1999. كان ذلك قبل أربعة أشهر من لقاء واتفاق جيبوتي بين حزب الأمة وحكومة الإنقاذ.
عرضت الحكومة الليبية خلال ذلك الاجتماع مبادرةً لحل المشكلة السودانية، تمثّلت في وقفٍ كاملٍ لكل الأعمال العسكرية، وبدء حوارٍ مباشرٍ بين الحكومة والمعارضة مُمثّلةً في التجمّع الوطني الديمقراطي، يهدف لحلِّ كل المشاكل العالقة.
في أغسطس من ذاك العام تبنّت مصر الأفكار الليبية، وأصبح الاسم الرسمي للمبادرة هو "المبادرة الليبية المصرية"، ويُشار إليها أيضاً بــ "المبادرة المشتركة." وقد واصلت المبادرة الليبية المصرية ارتكازها التام على عقد مؤتمرٍ دستوريٍ شامل لكل الأطراف السودانية لمناقشة كافة القضايا السودانية، والاتفاق على حلولٍ لها.
4
كان واضحاً أن هذه المبادرة، إن تمّ لها النجاح، ستلغي بجرّةِ قلمٍ كل الإنجازات التي حقّقتها الحركة الشعبية خلال الثماني أعوام الماضية من خلال مبادرة الإيقاد (يوليو 1994) التي نادتْ بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان وعلمانية الدولة السودانية. وقد انبنتْ الاتفاقيات التي عقدتها الحركة الشعبية مع أحزاب التجمّع، وكذلك اتفاقيات الفصائل المنشقّة من الحركة الشعبية مع حكومة الإنقاذ، على مبادرة الإيقاد. لهذه الأسباب فقد قامت الحركة بالتحفّظ على المبادرة الليبية المصرية بحجّةِ ازدواج المبادرات.
من الجانب الآخر فقد قبلتْ حكومةُ الإنقاذ المبادرةَ الليبية المصرية حال إعلانها لأنها رأت فيها مخرجاً من مأزق مبادرة الإيقاد واتفاقية الخرطوم للسلام وحق تقرير المصير وعلمانية الدولة السودانية.
وقد رحّب التجمّع الوطني الديمقراطي بالمبادرة لأنها كانت ستعطيه مقعداً حول طاولة التفاوض، والذي حرمته منها مبادرة الإيقاد.
وقد تبنّى حزب الأمة المبادرة الليبية المصرية تبنّياً كاملاً لنفس هذا السبب، ولأنه وجد فيها أيضاً مدخلاً لموقفه الجديد الداعي للحوار مع نظام الانقاذ، ولعقد المؤتمر القومي (أو الدستوري) الذي ظلّ ينادي به السيد الصادق المهدي منذ لقائه الدكتور حسن الترابي في جنيف في مايو عام 1999.
وقد أصبحت المبادرة الليبية المصرية مُكوّناً ومنطلقاً أساسياً للخلاف بين حزب الأمة والحركة الشعبية، وتحوّلت حرب الرسائل بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق إلى حرب المبادرات – المبادرة الليبية المصرية التي تبنّاها حزب الأمة، ومبادرة الإيقاد التي تبنّتها الحركة الشعبية.
5
ولا بد أن المراقبين للنزاع السوداني قد لاحظوا العنصر والتمحور العربي في المبادرة الليبية المصرية، وتمسّك السيد الصادق المهدي بها من جانب، والعنصر والتمحور الأفريقي في مبادرة الإيقاد التي تمسّك بها الدكتور جون قرنق من الجانب الآخر. فالسيد الصادق المهدي لم يكن يثق في الموقف الأفريقي بسبب قربه الثقافي والعرقي من جنوب السودان، ودعوته إلى علمانية الدولة السودانية، بينما كان الدكتور قرنق في ارتيابٍ تامٍ بالمحاولات الليبية المصرية، وفي دوافعها وتوقيتها، ومكونات مبادرتها.
6
مما لاشك فيه أن المبادرة الليبية المصرية كانت أيضاً محاولةً أخيرة، ويائسة، لتقفزَ مصرُ من خلالها على سفينة المبادرات لمحاولة حلِّ مشاكل السودان، ولوقف مدَّ حق تقرير المصير، ومبادرة الإيقاد التي كانت الحياة الكاملة قد عادت إليها. ومن المؤكّد أيضاً أن مياه النيل، واحتمال بروز دولة نيلية حادية عشر، وآمال مصر في إكمال بناء قناة جونقلي، كانت الأسباب الرئيسية لدخول مصر حلبة المبادرات حول السودان، مثلما كانت السبب الأساسي لمبادرة السلام السودانية (اتفاق الميرغني – قرنق) عام 1988.
ويُلاحظ في هذه المبادرة ميلاد التحالف الجديد بين حزب الأمة ومصر، ونهاية العلاقات التاريخية المضطربة – إن لم نقل العدائية – بين هذين الطرفين.
7
تواصلتْ الاجتماعات والنقاش حول المبادرة الليبية المصرية، وواصلت الدولتان محاولة بلورة بنودها. وفي 30 يونيو عام 2001 سلّم مندوبا الدولتين مذكّرةً حول المبادرة تحمل إسم "مبادئ وأسس الوفاق الوطني السوداني" للحكومة السودانية، والحركة الشعبية، وقيادة التجمّع الوطني الديمقراطي.
تكوّنت وثيقة المبادرة من ديباجة وتسع نقاط. أشادت الديباجة بالترابط الاستراتيجي بين جمهورية مصر العربية والجماهيرية الليبية العظمى وجمهورية السودان، وأكّدت المسئولية التاريخية للدولتين بالحفاظ على وحدة السودان وأمنه واستقراره، وضرورة سرعة وتفعيل الاتفاق على خطواتٍ محدّدة للتمهيد لبدء الحوار بين أطراف النزاع السودانية المختلفة وإنجاح المفاوضات. وأعلنت المبادرة تعهّد الأطراف بالعمل من أجل تحقيق السلام والوفاق الوطني الشامل في السودان وفقاً للمبادئ التالية:
1. وحدة السودان أرضاً وشعباً.
2. المواطنة في السودان هي الأساس في ممارسة الحقوق وأداء الواجبات.
3. الاعتراف بالتعدّد العرقي والديني والثقافي للشعب السوداني.
4. ضمان مبدأ الديمقراطية التعدّدية، استقلال القضاء، الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكفالة حرية التعبير والتنظيم وفقاً للقانون.
5. كفالة الحريات الأساسية، وضمان حقوق ممارستها، والالتزام برعاية حقوق الإنسان كافةً، وفقاً للمواثيق الدولية المعتمدة والقيم السائدة في المجتمع.
6. إقامة نظام حكم لامركزي في إطار وحدة السودان، وبما يكفل تحقيق التنمية المتوازنة، والتوزيع العادل للسلطة والثروة، وقومية القوات المسلحة وأمن المجتمع والمواطنين.
7. انتهاج سياسة خارجية تراعي تحقيق المصالح القومية للبلاد، وتؤكّد على استقلال القرار الوطني، وتحترم المبادئ والأسس الواردة في المواثيق والعهود الدولية، بما في ذلك مبدأ حسن الجوار.
8. كفالة الدستور والقانون للتعدّدية، والحريات المدنية والسياسية وحقوق الإنسان، ولوحدة السودان أرضاً وشعباً، وتشكيل حكومة انتقالية تُمثّل فيها كافة القوى السياسية، وتتولى تنفيذ كافة بنود الاتفاق السياسي، وتنظيم انعقاد مؤتمر قومي لمراجعة الدستور، وتحديد موعد وترتيبات الانتخابات العامة القادمة، وفقاً لما يتم الاتفاق عليه في المؤتمر الدستوري.
9. تعهد الأطراف جميعاً بالوقف الفوري والشامل للحرب، ونبذ الاقتتال بكافة أشكاله وذلك في حالة الاتفاق على المبادئ المذكورة عاليه (البنود 1 – 8).
8
وهكذا وببساطةٍ تصل حدَّ السذاجة السياسية، وتعكس عدم الإلمام بخلفية وتطورات التفاوض بين الأطراف السودانية، حاولت المبادرة الليبية المصرية وأد الإنجازات التي حقّقتها الحركة الشعبية وذلك بطي ملفّي حق تقرير المصير والدين والدولة، والعودة بالمفاوضات إلى وضعٍ شبيهٍ بمبادرة السلام السودانية لعام 1988 (اتفاق الميرغني – قرنق). فقد نادت تلك المبادرة بعقد مؤتمرٍ دستوري، وكذلك نادت المبادرة الليبية المصرية بتنظيم انعقاد مؤتمرٍ قومي. لكن لم تتطرّق المبادرة الليبية المصرية من قريبٍ أو بعيد لمسألة قوانين سبتمبر، ولم تثر حتى مسألة تجميدها، كما اقترحت مبادرة السلام السودانية قبل أكثر من عشرة أعوام.
لكن الأخطر والأهم للحركة الشعبية هو عدم تطرّق المبادرة الليبية المصرية لحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، والاستعاضة عن ذلك بلغةٍ فضفاضة عن إقامة نظام حكمٍ لامركزي في إطار وحدة السودان.
9
قبلت الحكومة السودانية المبادرة فور إعلانها. وقبلها أيضاً حزب الأمة الذي وصفها بالواقعية لأنها تعطي كلَّ طرفٍ من أطراف النزاع مقعداً حول طاولة التفاوض، وتعيد إلى الواجهة مقترح المؤتمر الدستوري الذي أصبح في اعتقاد السيد الصادق المهدي المرهمَ السحري الذي سيحلُّ كلَّ مشاكل وهموم السودان. وكما ذكرنا من قبل، فقد تضمّن اتفاق جيبوتي بين حكومة الإنقاذ وحزب الأمة فقراتٍ ترحّب بالمبادرة الليبية المصرية، وتدعو أيضاً للمؤتمر الدستوري، وتطالب بالتنسيق بينها وبين مبادرة الإيقاد.
رحّب التجمّع الوطني الديمقراطي أيضاً بالمبادرة الليبية المصرية كما برز في بيان كمبالا، فالمبادرة ستعطي التجمع مقعداً حول طاولة التفاوض. وبرز الحديث في أوساط قيادات التجمّع عن ضرورة التنسيق بين المبادرتين.
في أغسطس عام 2001 رحّبتْ الحركة الشعبية بالمبادرة الليبية المصرية، ولكنها طالبتْ إضافة حق تقرير المصير، وفصل الدين عن الدولة. دون شكٍ فقد مثّل ترحيب الحركة بالمبادرة، مع إضافة هذين المطلبين الكبيرين، سُخريةً تامةً بالمبادرة. فكيف يمكن إضافة طابقين جديدين كاملين لمنزلٍ يقوم أساسُه على طابقٍ واحد؟
10
غير أن ترسّبات الخلافات بين حزب الأمة وبقية القيادات في التجمّع ساهمتْ بصورةٍ فاعلة في أفول نجم المبادرة الليبية المصرية. فقد ارتبطتْ المبادرة ارتباطاً وثيقاً بالسيد الصادق المهدي واتفاق جيبوتي، وصارت محوراً للصراع بينه وبين الدكتور جون قرنق. أصبح كلٌ منهما يحمل مبادرته (السيد الصادق المهدي المبادرة الليبية المصرية، والدكتور جون قرنق مبادرة الإيقاد)، ويصارع الآخر صراعاً محموماً من أجلها. وأصبح الحديث داخل فئات التجمّع عن المبادرة الليبية المصرية يعني الوقوف في جانب اتفاق جيبوتي والسيد الصادق المهدي، وحتى مع حكومة الانقاذ.
وقد أشارت أطرافٌ في التجمّع إلى التشابه في القضايا العمومية واللغة بين المبادرة الليبية المصرية واتفاق جيبوتي، مما أوحى بدورٍ كبيرٍ من وراء الكواليس للسيد الصادق المهدي في صياغة المبادرة ودفعها.
كان غريباً أن يضمّن السيد الصادق المهدي حقَّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان بوضوحٍ في اتفاق جيبوتي، ويفشل في تضمين حق تقرير المصير في المبادرة الليبية المصرية التي تبناها تبنيّاً كاملاً.
11
واصل السيد الصادق المهدي هجومه على الدكتور قرنق لرفضه المبادرة الليبية المصرية، ذاكراً: "ود. جون قرنق لديه أسباب أخرى للتخلي عن المبادرة المشتركة (الليبية المصرية) لأن المبادرة تقيم منبراً يشاركه فيه المعارضون الآخرون ويجردونه من احتكار الموقف التفاوضي. لقد اتضح من شواهد كثيرة أن د. جون قرنق يتطلع لوضعٍ سودانيٍ لا يمر عبر إجراء ديمقراطي ولا يمر عبر إجراء تفاوضي، وضع لا يمكن تحقيقه إلا عبر الانتصار العسكري."
لم يشر السيد الصادق المهدي في حديثه هذا إلى الفرقين الجوهريين بين المبادرتين – حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعلمانية الدولة السودانية. وهاتان هما السمتان الرئيسيتان لمبادرة الإيقاد، واللتان لم تتعرّض لهما المبادرة الليبية المصرية إطلاقاً، كما ذكرنا أعلاه.
وكان السيد الصادق المهدي قد حذّر يوم مغادرته القاهرة في طريقه إلى جيبوتي للقاء الرئيس عمر البشير، وتوقيع اتفاقية جيبوتي في نوفمبر عام 1999، من أن "مبادرة الإيقاد لم تحقق طوال السنوات الست الماضية أيّ تقدمٍ إيجابي، وأن كل ما فعلته هو التمهيد لعقد اجتماعاتٍ فاشلة."
(السيد الصادق المهدي المبادرة الليبية المصرية، والدكتور جون قرنق مبادرة الإيقاد)، ويصارع الآخر صراعاً محموماً من أجلها. وأصبح الحديث داخل فئات التجمّع عن المبادرة الليبية المصرية يعني الوقوف في جانب اتفاق جيبوتي والسيد الصادق المهدي، وحتى مع حكومة الانقاذ.
وقد أشارت أطرافٌ في التجمّع إلى التشابه في القضايا العمومية واللغة بين المبادرة الليبية المصرية واتفاق جيبوتي، مما أوحى بدورٍ كبيرٍ من وراء الكواليس للسيد الصادق المهدي في صياغة المبادرة ودفعها.
كان غريباً أن يضمّن السيد الصادق المهدي حقَّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان بوضوحٍ في اتفاق جيبوتي، ويفشل في تضمين حق تقرير المصير في المبادرة الليبية المصرية التي تبناها تبنيّاً كاملاً.
11
واصل السيد الصادق المهدي هجومه على الدكتور قرنق لرفضه المبادرة الليبية المصرية، ذاكراً: "ود. جون قرنق لديه أسباب أخرى للتخلي عن المبادرة المشتركة (الليبية المصرية) لأن المبادرة تقيم منبراً يشاركه فيه المعارضون الآخرون ويجردونه من احتكار الموقف التفاوضي. لقد اتضح من شواهد كثيرة أن د. جون قرنق يتطلع لوضعٍ سودانيٍ لا يمر عبر إجراء ديمقراطي ولا يمر عبر إجراء تفاوضي، وضع لا يمكن تحقيقه إلا عبر الانتصار العسكري."
لم يشر السيد الصادق المهدي في حديثه هذا إلى الفرقين الجوهريين بين المبادرتين – حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وعلمانية الدولة السودانية. وهاتان هما السمتان الرئيسيتان لمبادرة الإيقاد، واللتان لم تتعرّض لهما المبادرة الليبية المصرية إطلاقاً، كما ذكرنا أعلاه.
وكان السيد الصادق المهدي قد حذّر يوم مغادرته القاهرة في طريقه إلى جيبوتي للقاء الرئيس عمر البشير، وتوقيع اتفاقية جيبوتي في نوفمبر عام 1999، من أن "مبادرة الإيقاد لم تحقق طوال السنوات الست الماضية أيّ تقدمٍ إيجابي، وأن كل ما فعلته هو التمهيد لعقد اجتماعاتٍ فاشلة."
(السيد الصادق المهدي المبادرة الليبية المصرية، والدكتور جون قرنق مبادرة الإيقاد)، ويصارع الآخر صراعاً محموماً من أجلها. وأصبح الحديث داخل فئات التجمّع عن المبادرة الليبية المصرية يعني الوقوف في جانب اتفاق جيبوتي والسيد الصادق المهدي، وحتى مع حكومة الانقاذ.
وقد أشارت أطرافٌ في التجمّع إلى التشابه في القضايا العمومية واللغة بين المبادرة الليبية المصرية واتفاق جيبوتي، مما أوحى بدورٍ كبيرٍ من وراء الكواليس للسيد الصادق المهدي في صياغة المبادرة ودفعها.
كان غريباً أن يضمّن السيد الصادق المهدي حقَّ تقرير المصير لشعب جنوب السودان بوضوحٍ في اتفاق جيبوتي، ويفشل في تضمين حق تقرير المصير في المبادرة الليبية المصرية التي تبناها تبنيّاً كاملاً.
12
من الجانب الآخر تواصلتْ تصريحاتُ الدكتور قرنق حول المبادرتين، وتواصل ارتكاز تصريحاته على مبدأين، أولهما ضرورة تجنّب المبادرات المتوازية لأنها تقود إلى الانقسام، وثانيهما الإبقاء على مبادرة الإيقاد، مع ضمِّ ليبيا ومصر إليها.
غير أن تصريحات الدكتور قرنق حول المبادرتين كانت أقلَّ خشونةً وأكثرَ حذراً من تصريحات السيد الصادق المهدي. فالدكتور قرنق الذي كتب رسالة الدكتوراه عن قناة جونقلي كان يعي جيداً محورية مياه النيل لمصر، ودور ذلك في تبنّي مصر المبادرة الليبية، وإضافة اسم مصر للمبادرة.
13
بالإضافة لرفض الحركة الشعبية للمبادرة الليبية المصرية، وتراجع أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي عن تأييدها للمبادرة، فقد بات واضحاً عدم وجود أيِّ حماسٍ للمبادرة الليبية المصرية من الولايات المتحدة الأمريكية، أو الدول الأوروبية التي عُرِفت بأصدقاء أو شركاء الإيقاد، أو دول الإيقاد. فالمبادرة الليبية المصرية سوف تعيد التفاوض إلى المربع الأول، وتضيف أطرافاً جديدة، مما يهدّد بتعقيد عملية التفاوض، ونسفِ كل الإنجازات التي تمّ التوصل إليها.
وبات واضحاً أن مصر نفسها (سواءٌ كان ذلك بضغوطٍ أمريكية وأوروبية أم لأسبابٍ داخلية) لم تعد متحمّسةً تماماً لمبادرتها. وربما كان من بين أسباب عدم حماس مصر ترسّبات محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك وتورّط نظام الإنقاذ فيها، ومضمون المبادرة نفسها.
ويبدو عدم الجدّية في المبادرة نفسها واضحاً عندما يصل القارئ للفقرات التي يطالب فيها نظاما حسني مبارك والعقيد القذافي الشموليان بضمان مبدأ الديمقراطية التعدّدية والحريات العامة واستقلال القضاء والفصل بين السلطات في السودان. كيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟
14
مع بداية عام 2002 كانت المبادرة الليبية المصرية تلفظ أنفاسَها الأخيرة وهي لم تبلغ من العمر الرسمي عاماً واحداً. كان واضحاً انها جاءت متأخرةً عشرة أعوام على الأقل، وحاولت في سذاجةٍ بالغة القفزَ عبر أكبر إنجازٍ للحركة الشعبية – حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. وهو إنجازٌ تمّ الوصول إليه عبر طريقٍ طويلٍ شائكٍ ووعر، وبحنكةٍ وذكاءٍ كبيرين، ووصل طوراً متقدّماً في التفاوض.
وفي ذلك العام أيضاً كانت مبادرة الإيقاد تشقُّ طريقها إلى واجهة منتديات التفاوض بعد أن بعث فيها شركاءُ الإيقاد الروحَ من خلال الضغوط السياسية والدبلوماسية، والتمويل المالي اللازم.
15
لا بُدَّ من التذكير هنا أن الدكتور قرنق كان يحمل مبادرة الإيقاد بيدٍ، والبندقية باليد الأخرى. وكان يملك من الجيش والعتاد الحربي والمدن والأراضي التي تحت سيطرته في جنوب السودان (وحتى في شماله)، والعلاقات الدولية، ما يستطيع أن ينتزع به تنازلاتٍ من الأطراف الأخرى، بما في ذلك الوسطاء.
كان هذا ما ينقص كل أحزاب وفصائل التجمّع الوطني الديمقراطي الشمالية، وكذلك حزب الأمة. فقد كان قادتها يحملون المبادرة الليبية المصرية بيدٍ، بينما كانت اليد الأخرى خاويةً على عروشها. وقد وعتْ أحزابُ التجمّع الوطني لهذا الخلل والضعف في المعادلة السياسية، الناتج عن العجز العسكري، وقنِعتْ من الغنيمة بالإياب.
لكن السيد الصادق المهدي أصرّ على المبادرة الليبية المصرية دون أن يكون لديه ما يفرضه بها، أو حتى ما يفاوض به من أجلها، فكان الخاسرَ الأكبرَ في نهاية حرب المبادرات تلك.
16
بدأت الحلقة الثالثة من المفاوضات تحت رعاية منظمة الإيقاد بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان في شهر مايو عام 2002 في كينيا. كانت مبادرة الإيقاد ومضمونها هما الخطوط العريضة والمبادئ الأساسية للمفاوضات بين الطرفين.
وكانت حقائبُ وسطاء وشركاء الإيقاد مكتظّةً بالاتفاقيات التي وقّعتها حكومة الإنقاذ مع الحركات المنشقّة عن الحركة الشعبية تعترف فيها الحكومة بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. كما كانت الحقائب مكتظّةً أيضاً بالاتفاقيات التي وقّعتها الحركة الشعبية مع أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي وحزب الأمة تعترف فيها هذه الأحزاب بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان.
17
لم تشمل تلك الوثائق المتعدّدة المبادرة الليبية المصرية، بل ولم يشمل النقاش خلال المفاوضات حتى الإشارة إلى المبادرة الليبية المصرية. فقد اختفت المبادرة الليبية المصرية من طاولات التفاوض مع عودة الحياة لعملية التفاوض بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية في مايو عام 2002 تحت مظلة مبادرة الإيقاد.
وعادت مصرُ نفسُها ووقّعتْ في 9 يناير عام 2005 مع عددٍ من الدول والمنظمات كشاهدٍ على اتفاقية السلام الشامل التي رعتها منظمة الإيقاد. وكان وزير خارجيتها السيد أحمد أبو الغيط، الذي وقّع على الاتفاقية كأحدِ الشهود الكثر، يكرّر بمناسبةٍ وبلا مناسبة، أن مصر مع حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان "شريطة أن يؤدّي الاستفتاء إلى الوحدة"!
تأكد في 9 يناير عام 2005 للسودان وللعالم أن ما نتجتْ عنه مبادرة الإيقاد كان أكبرَ بكثيرٍ من "التمهيد لعقد اجتماعاتٍ فاشلة."
[email protected]
www.salmanmasalman.org
|