دراما جوهانسبرج.. العدالة الجنائية الدولية وسيادة الدولة القُطْرية

انشغل العالم بأسره الأسبوع الماضي بتداعيات الأحداث في مدينة جوهانسبرج؛ حيث حاولت منظمة حقوقية أن تحمل حكومة جنوب إفريقيا على الالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بتوقيف رئيس جمهورية السودان فيما كانت حكومة جنوب إفريقيا -رغم عضويتها في تلك المحكمة- تتمسك بحصانة رؤساء الدول وبالتزامها القانوني تجاه الاتحاد الإفريقي والذي أمر الدول الأعضاء فيه بعدم تنفيذ تلك القرارات، فلم تنفذ الحكومة الحكم الأول بمنع المغادرة

 

بقلم محجوب محمد صالح

 

 

انشغل العالم بأسره الأسبوع الماضي بتداعيات الأحداث في مدينة جوهانسبرج؛ حيث حاولت منظمة حقوقية أن تحمل حكومة جنوب إفريقيا على الالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بتوقيف رئيس جمهورية السودان فيما كانت حكومة جنوب إفريقيا -رغم عضويتها في تلك المحكمة- تتمسك بحصانة رؤساء الدول وبالتزامها القانوني تجاه الاتحاد الإفريقي والذي أمر الدول الأعضاء فيه بعدم تنفيذ تلك القرارات، فلم تنفذ الحكومة الحكم الأول بمنع المغادرة وبالتالي لا سبيل لتنفيذ الحكم الثاني الذي يأمرها بتنفيذ التوقيف، وقد احتل هذا الصراع المكان الأول في أجهزة الإعلام والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي على مدى ثلاثة أيام وكان مثار جدل وتعليقات وتخمينات كثيرة لا نريد أن نخوض في تفاصيلها، ثم بدأت موجة الاهتمام بالحدث تتراجع غير أن الإشكالية التي فجرتها تلك الدراما ما زالت مطروحة وسيظل موضوع العدالة الجنائية الدولية مكان مناقشات متصلة في العديد من المنابر الدولية والإقليمية ومواقع الجدل السياسي والقانوني بصرف النظر عن تداعيات أحداث مدينة جوهانسبرج ومآلاتها داخل جنوب إفريقيا وفي أروقة الاتحاد الإفريقي.

مفهوم العدالة الجنائية الدولية الذي انبثق منه مبدأ «التدخل من أجل الحماية»، مفهوم مستحدث تحيط به مشاكل عديدة لأنه يقوم على افتراضين لم تثبت صحة أي منهما:

الافتراض الأول أن هناك مجتمعاً دولياً متجانساً ومنسجماً وموحد الرؤى حول كافة القضايا وأنه قادر على أن يجمع على قرار ما وأن ينفذه بالتزام شامل، هذا افتراض يكذبه الواقع وإذا كانت الأمم المتحدة تجسد ذلك المجتمع الدولي المفترض فهي أبعد ما تكون عن وحدة الرؤى ووحدة الإرادة وهي أصلا نشأت كتحالف للمنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية واستبعد منها المهزومون ونال قادة التحالف المنتصر حق الانفراد بالقيادة عبر حق (الفيتو) للخمسة الكبار، ثم اختلف الخمسة الكبار فكانت الحرب الباردة، وما زال الخمسة الكبار يحظون بسلطة الفيتو حتى بعد أن استقلت المستعمرات وأصبحت دولاً كاملة السيادة وكاملة العضوية في الأمم المتحدة وحتى بعد أن خرج (المنهزمون) -ألمانيا واليابان- من القمقم وتجاوزتا اقتصادياً كل الدول المنتصرة، ولكنهما ما زالتا مهمشتين في نظام الأمم المتحدة الذي استحال عليه عملياً توحيد الرؤى بين الدول ذات المصالح المتعارضة.

أما الافتراض الثاني الذي يقوم على أساس تحجيم سيادة الدولة القومية وفق منظور مثالي يفترض أن السيادة للشعوب وأن الحكومات التي تنتهك حقوق شعوبها يتولى أمر محاسبتها المجتمع الدولي، فإن الكبار هم أول من يتنكرون لهذه القاعدة فالولايات المتحدة هي التي رفضت أن يحاكم مواطنوها العاملون في قوات حفظ السلام في أي بلد على الجرائم التي يرتكبونها في ذلك البلد أمام أي محكمة دولية أو أي محكمة أجنبية بل ورفضت أن تنضم لمحكمة الجنايات الدولية لهذا السبب، وفرضت أن يحاكم جنودها في أراضيها ووفق قوانينها وبالتالي هي -وبمنطق القوة- منحتهم حصانة ضد العدالة الدولية.

ولذلك فإذا كانت محكمة الجنايات الدولية هي تجسيد لمفهوم التدخل من أجل الحماية فهي تعاني من الضعف الذي يكتنف مفهوم العدالة الجنائية فهي مؤسسة ضعيفة لا تملك قدرات تنفيذية لقراراتها ولا تجد دعماً حتى من الدول الأعضاء فيها، علماً بأن أكثر من ثلث دول العالم لم تنضم لها أصلاً وليست معنية بأمرها وأول الذين رفضوا الانضمام إليها كانت الولايات المتحدة الدولة الأعلى صوتاً في مساندة المحكمة الدولية، وحجة الولايات المتحدة في عدم الانضمام هو أنها لا تريد لمواطنيها أن يتعرضوا لمحاكمات خارج بلادهم وبقوانين غير قوانين وطنهم وهذا يعني أنها الدولة الأكثر تمسكاً بالمفهوم التقليدي لسيادة الدولة القٌطْرية، بينما تريد من الآخرين أن يتخلوا عن ذلك. وهي بذلك تجسد ازدواج المعايير في أسوأ صوره!

كل الحكومات القُطْرية التي تنتهك حقوق مواطنيها بسلطاتها وحتى التي تنضم للمحكمة الدولية لا تنوي أن تتخلى عن تلك السلطة وستظل حماية الشعوب هي مسؤولية الشعوب التي تعاني من الانتهاكات من جانب حكوماتهم وهذا هو السبب في انتشار حالات تمرد المجتمعات على الحكومات وسيادة ثقافة العنف في مواجهة السلطة.

  •