خيارات ثورة الجياع في السودان

تستخدم الحكومة السودانية العنف المفرط تجاه الإحتجاجات الجماهيرية السلمية في كل مدن السودان ضد سياسات الحكومة الإقتصادية المسببة لموت المواطن جوعا. والحكومة بإخمادها لهذه الإحتجاجات تعتقد واهمة أنها إنتصرت لقراراتها وأن المواطن إستسلم وقنع، ويزداد وهمها بأن إقتلاعها أصبح في باب المستحيلات، بينما الأوضاع المحتقنة تنبئ بمزيد من الإنفجارات الجماهيرية والتي قد تصل قريبا جدا حد ثورة الجياع.

جانب من مسيرة الخرطوم السلمية لقوى المعارضة ضد الجوع والغلاء وارتفاع الاسعار يوم 16 يناير الجاري - راديو دبنقا

 

 

بقلم / د. الشفيع خضر سعيد: 

 

تستخدم الحكومة السودانية العنف المفرط تجاه الإحتجاجات الجماهيرية السلمية في كل مدن السودان ضد سياسات الحكومة الإقتصادية المسببة لموت المواطن جوعا. والحكومة بإخمادها لهذه الإحتجاجات تعتقد واهمة أنها إنتصرت لقراراتها وأن المواطن إستسلم وقنع، ويزداد وهمها بأن إقتلاعها أصبح في باب المستحيلات، بينما الأوضاع المحتقنة تنبئ بمزيد من الإنفجارات الجماهيرية والتي قد تصل قريبا جدا حد ثورة الجياع.
فالشعب السوداني الصابر، ضاعت منه، في خلال الثمانية وعشرين عاما الماضية، أحلام العشة الصغيرة و»اللقمة» الهنية، فترك حطام البلدة أو القرية الأم، وإقترب من المدينة التي ينام فيها الرئيس، حتى يتفيأ ظل أي من العمارات السوامق المكتنزة أسمنتا كامل الدسم، والخالية من أي لمسة جمالية، إلى أن خرج عليهم الوالي صارخا ومعيّرا: «الماعندو قدرة للعيشة في الخرطوم ما يقعد فيها»!. نعم قالها ذاك الراعي المسؤول عن رعيته!، فهو يريد سكانا للعاصمة بمواصفات خاصة جدا، إذا لم تكن تمتلك واحدة منها، فإذهب إلى حيث تجوع مجهولا ولا تسبب أي «دوشة» لأي مسؤول يُقيم الليل أثناء ساعات العمل النهارية!. والوالي وغيره من المسؤولين معذورون، فهم ربما لم يستذكروا دروس التاريخ جيدا، فلم يسمعوا بثورات الجياع. لكن هؤلاء المسؤولين، يعرفون جيدا ان حكومتهم تخوض حربا أدمت هلالا مكتمل البهاء، ينسرب من جنباته، مع كل طعنة، أناس مكلومون، موجوعون، يأتون للخرطوم مكرهين. ويعرفون جيدا انهيارات المشاريع الكبيرة والصغيرة، حتى باتت القرى مقفرة حزينة تعافها الكلاب، وأن الكثيرين زحفوا من الريف إلى العاصمة طلبا لأبسط ما يسد الرمق، وما يبقي الإنسان حيا. أما سكان الخرطوم أنفسهم، فجمع كبير منهم آثروا المنافي وراء البحر. وإذا كنا في الماضي نتحدث عن الحكام والمسؤولين بإعتبارهم من حزب المؤتمر الوطني، فإننا اليوم نضم إليهم المستوزرين والبرلمانيين الجدد الذين كانوا في المعارضة وانضموا للحكومة بعد مؤتمر الحوار الوطني. وجاء إنتقالهم من المعارضة إلى الحكم على قاعدة قناعتهم بأن هذه هي رؤيتهم للتغيير، أو هكذا كانوا يجادلون. وشخصيا، لا زلت أرفض تماما رمي هولاء الركاب الجدد بإتهامات التخوين، أو السقوط في قاع الهاوية، أو أنهم متعجلون لإدراك ما تبقى من «الكيكة» المنهوشة و»تصليح الأوضاع الخاصة»، بل لا زلت أفترض أن هذه هي قناعتهم التي يؤمنون بها لكيفية خدمتهم للوطن والمواطن، وما علينا سوى الحكم عليهم بأعمالهم. ومن هنا كانت تساؤلاتي التالية لهم:
٭ هل شاركتم في رسم وإقرار الموازنة وسياسات الحكومة الإقتصادية الأخيرة، أم سمعتم بها، مثلنا، من أجهزة الإعلام؟!.
٭ ثمانية وعشرون عاما، وزملاؤكم الجدد يعبثون بكل شيئ في السودان الذي لم تسلم حتى خريطته. فعلوا في الناس ما لم يفعله الإنكشاريون في الماضي، وبالفعل «شلّعوا» البلد حتى صارت خرابا. بعد إنفصال الجنوب، ظن الناس أن زمن الكريهة قد ولّى ولن تعود، فإذا بدقات طبول الحرب تخترق آذانهم، وإذا بشبح الموت يحلق مرة أخرى فوقهم، غير بعيد، ليختار المهبط التالي. وبات الناس في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ينامون ويصحون على أصوات أزيز المدافع وحفيف أجنحة الموت ورائحة حريق الحياة، وأعدادهم، عسكريين ومدنيين، تتناقص كل صباح. أصبح الوطن كله في حالة من الذهول والقلق والدوران الحائر: خرج من حرب أهلية ليعيش فترة انتقالية يفترض أن تعبد طريق السلام المستدام، فإذا بها مجرد هدنة مؤقتة لم تمنع أسباب الاقتتال، بل هي تفضي إلى مستنقع الحروب الأهلية من جديد!! ماذا فعلتم لتغيير هذا الواقع؟
٭ في ظل سلطة من كنتم تعارضونهم بالأمس، تمددت الأفعال البغيضة من فساد وسياسات وممارسات تمزّق نسيجنا الإجتماعي، وتحقّر من معنى سيادتنا الوطنية، وتدحرجنا نحو الهاوية. مواطنون يتظاهرون ضد الغلاء والفساد، وحكومتكم ترد بالقمع والعنف المفرط حد إطلاق الرصاص. وقادة يتجشأون على مطالب الجوعى بلا أي خجل، وهم يأكلون من سنام الدولة المنخور بالفساد والسياسات الإقتصادية الخاطئة، لا تهزهم إنهيارات الخدمات، ولا يقلقهم عجزهم عن حل مشكلات البلاد الروتينية، بينما الأموال تخرج من بيوتهم، وليس البنوك، «بالشوالات»…، فهل ستتمسكون بذات «الشوالات»؟.
٭ كنتم ترددون، في المعارضة، أن قضايا مناطق السودان المختلفة لا يمكن حلها إلا في إطار الحل الشامل لقضية الوطن، والذي يبدأ بفك رقبة الوطن من قبضة هذا النظام الذي لم يعد فيه من يرتكن إلى العقل، أو يقرأ ما بين سطور أحداث المشهد السياسي.
وصحيح أنكم ارتضيتم الحوار مع النظام كمخرج من الأزمة ولفك رقبة الوطن، في حين تمنع البعض لأنهم يرون أن أجندة الحوار المطروحة على الطاولة تختلف عن تلك التي في الصدور، وأن النظام يراوغ، وجل هدفه التوصل إلى اتفاق يسهل الإلتفاف عليه، أو هو أصلا غير مقتنع بأبجديات أسس الحوار، ويراه مجرد مناورة لكسب مزيد من الوقت. فهل تلمستم أي المواقف هي الصحيحة؟
٭ صحيح أنكم في بداية الطريق، ولا زلتم في المربع الأول لتأسيس ما تعتقدونه مرحلة جديدة. ونحن أيضا لن نتسرع ونطلب منكم إنجازا بين ليلة وضحاها، ولكنا نتوقع أن تكونوا مهمومين، مثلما كنتم تؤكدون وأنتم في المعارضة، بضرورة التغيير العاجل حتى لا تتدهور الأوضاع إلى ما هو أسوأ من الراهن. فماذا فعلتم حتى الآن في العناوين الرئيسة للأزمة السودانية: وقف الحرب وبسط السلام، فك الضائقة المعيشية كأولوية قصوى ومنع إنهيار البلاد إقتصاديا، والمحاسبة لكل من ارتكب جرما في حق الوطن والمواطن، وتفكيك دولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن ومؤسساته القومية.
عموما، وغض النظر عن طبيعة الإجابات على هذه التساؤلات، وغيرها، فإن كل ما أملك أن أقوله وأكرره، هو «إن الخيارات التي نبحث عنها بين ثنايا القدر ونتبناها، هي التي تحدد من نحن!