مسؤولة من المفوضية السامية للأمم المتحدة مع ممثلين للاجئين السودانيين خلال زيارة ميدانية لها إلى مخيم كيرياندونغو شمال أوغندا (ارشيف)

كمبالا: 8 ديسمبر 2025: راديو دبنقا
تقرير: عبد المنعم مادبو

تكابد حليمة داخل معسكر كرياندونغو في شمالي اوغندا من أجل توفير وجبة واحدة في اليوم لأبنائها الثلاثة الذين لا يتجاوز عمر اكبرهم العشرة سنوات. حليمة وابناؤها كانوا يعتمدون على المطابخ الجماعية في المعسكر في تلقي وجبة واحدة منتصف النهار. لكنها تقول لراديو دبنقا إنهم اليوم فقدوا تلك الوجبة بسبب توقف المطابخ الجماعية بالمعسكر منذ 31 اكتوبر 2025م نتيجة تقليص حصص الغذاء التي يتلقونها من برنامج الاغذية العالمي بجانب توقف المنظمات الخيرية عن توزيع السلال الغذئية للاجئين. وبذلك تمكن الجوع من طرق أبواب الخيام التي يقطنها آلآف اللاجئين السودانيين في المعسكر.

وجبة واحدة يومياً


كانت المطابخ، التي أنشئت في يوليو 2024، طوق نجاة لشرائح واسعة من اللاجئين (النساء، كبار السن، الأطفال، أصحاب الإعاقة، والشباب غير المتزوجين) وجبة واحدة يومياً عند الثانية ظهراً، لكنها كانت كافية لدرء خطر سوء التغذية الذي تفاقم بعد توقف برنامج الغذاء العالمي عن دعم فئات كاملة من اللاجئين.
وتُعد المطابخ الجماعية إرث سوداني عريق يقوم على التكافل الاجتماعي منذ عقود طويلة. ففي الأرياف والمدن، وفي معسكرات النزوح واللجوء ظلّ السودانيون يلجؤون إلى جمع الجهود والموارد لتخفيف الأعباء عن الفئات الضعيفة في لحظات الشدة، سواء في أوقات النزاعات أو الكوارث الطبيعية أو المواسم الصعبة اقتصادياً او كما هو الحال في معسكر كرياندونغو، حيث تظل المطابخ الجماعية شاهداً على أن جذوة التكافل لم تنطفئ، وأن الشعب السوداني مهما حاصرته المصائب، لا يزال قادراً على أن يقف مع بعضه بلقمة العيش والمشاركة.


آثار كارثية


بعد توقف هذه المطابخ وازدياد معاناة الأسر السودانية داخل المعسكر كلف المكتب القيادي للاجئين السودانيين لجنة لاستقطاب الدعم كي تستعيد المطابخ دورها في حماية الأسر من الجوع. ويقول سكرتير اللجنة العليا لدعم المطابخ معاوية الحسن لراديو دبنقا “عندما توقفت المطابخ، رجعنا لنفس النقطة الأولى، الأمراض، سوء التغذية، الملاريا، التيفويد. الفئات الضعيفة كانت تعتمد كلياً على الوجبة الوحيدة. وفجأة وجدوا أنفسهم بلا شيء.”

ويقول معاوية ان برنامج الاغذية العالمي قد صنف اللاجئين السودانيين في المعسكر الى ثلاث فئات، منها فئتان تحصلان على 60% فقط من حصتهما الشهرية؛ وهي كمية لا تكفي سوى عشرة أيام فقط، بينما الفئة الثالثة أوقف عنها المساعدات بالكامل منذ مارس 2024م. مشيرا الى ان الفئة الثالثة باتت هي الأكثر هشاشة الآن، والأكثر اعتماداً على المطابخ التي انهارت فجأة بسبب نفاد المخزون من المواد التموينية وغياب التمويل.

92,601 لاجئ سوداني بالمعسكر

ووفقا لاحصائيات المفوضية السامية لشئون اللاجئين حتى 30 نوفمبر 2025م، فان معسكر كرياندونغو يأوي 92,601 لاجئ سوداني، في حين يشهد المعسكر توافدا مستمراً للاجئين السودانيين. وذكر معاوية الحسن ان المطابخ الجماعية للسودانيين بالمعسكر يستفيد منها اكثر من 8500 شخص يومياً. ومع توقف الوجبات، بدأ يعلو صوت المعاناة.
ونبه عضو اللجنة عبد القادر محمد عبد الله، الى ان هناك فئة من اللاجئين من ذوي الاعاقة يواجهون صعوبات اكبر واضاف لراديو دبنقا “هؤلاء لا يجدون وسيلة للوصول للعلاج أصلاً، فكيف يصلون للمطبخ؟ توقف الخدمة خنقهم تماماً” مبينا ان مبادرتهم لاستقطاب الدعم للمطابخ الجماعية وجد تجاوباً من بعض الفنانين والمتبرعين، حيث أقاموا حفلاً خيرياً لدعم المطابخ، لكنه قال “الفجوة أكبر من كل مجهوداتنا.”


تدفق مستمر للاجئين


الواقع داخل معسكر كرياندونغو بعد توقف الوجبات لم يكن مجرد جوع يعانيه اللاجئين السودانيين، بل قصة مجتمع تطارده المعاناة اينما حل، ويروي عضو اللجنة الموسيقي الدومة عبد الله، لراديو دبنقا جانباً من هذا الواقع الذي يواجهه السودانيون في المعسكر بقوله “الناس لا زالت تأتي من دارفور وكردفان وبقية مدن السودان في حالات صعبة، فالمعسكر يستقبل اسبوعيا ما بين 10 الى 15 بصا يحمل سودانيين فارين من الاوضاع في السودان” مشيرا الى ان هؤلاء اللاجئين يصلون للمعسكر بلا أموال، بلا طعام، بلا قدرة على بناء مأوى كما كان يحدث في السابق. وحتى اللاجئون القدامى الذين كانوا يقتسمون معهم اللقمة، أصبحوا الآن عاجزين. مضيفاً “حتى المساعدات التي كانت تقدمها المفوضية للاجئين الجدد التي تبلغ قيمتها 100 دولار وكميات قليلة من المواد الغذاء والايواء توقفت تماماً، الأمر الذي رمى عبء استقبال اللاجئين الجدد على اللاجئين القدامى بالمعسكر وهو ما ضاعف معاناتهم جميعاً.
وذكر الدومة انه مع انسداد كل المنافذ، ظهرت وفيات وسط الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل، بجانب بروز تحديات وانفلات أمني حيث سجلت حالات اقتحام لبعض الخيام لاجل سرقة مواد غذائية، اضافة الى أن بعض الشباب غير المتزوجين هربوا من المعسكر بسبب انعدام الغذاء. ويضيف دريج بأسى: هناك أطفال خارج المدارس لأن أسرهم لا تستطيع دفع الرسوم او وجبة الفطور. الوضع معقد ومؤلم.”


حملات مناصرة


لكن وسط هذا الظلام والوضع المؤلم، بدأت شرارة أمل صغيرة. حملات مناصرة عبر وسائل التواصل، دعم من منظمات سودانية مثل (وعي، الناس للناس والعون المباشر الكويتي) اسفرت عن عودة جزئية للمطابخ بمواد غذائية محدودة. ثم جاءت خطوة مختلفة، فقد قررت الفنانة فدوى فريد، إقامة حفل خيري داخل المعسكر.
وقالت فدوى في تصريحات سابقة لراديو دبنقا إن خمسة أطفال في المعسكر توفوا بسبب سوء التغذية، وهناك مصابو أمراض مزمنة يحتاجون إلى غذاء خاص. لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي. واضافت “الحفل مجاني، لكننا نعتمد على تبرعات الناس من مال، طعام، ملابس، أغطية… أي شيء يمكن أن ينقذ الحياة بالمعسكر”
في الوقت الذي تستمر فيه ألسنة الحرب لتدمير مدن وقرى في السودان، يستمر اللاجئون هنا في معسكر كرياندونغو في معركتهم اليومية من أجل البقاء. معركة بدأت بخطوة: إعادة تشغيل المطابخ. لكنها لن تنتهي إلا عندما يجد هؤلاء الذين فقدوا كل شيء ما يعيد لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

Welcome

Install
×