المناهج بين سطوة الأدلجة ونداء المستقبل.. وثيقة 2013 .. هل أعادت الحرب إلى الفصل الدراسي؟

طلاب لاجؤن سودانيون يدرسون بالمرحلة الثانوية في مخيم فرشنا شرق تشاد يجلسون على الأرض وهم يأدون إمتحانات الفترة الأولى للعام الدراسي 25/26 مطلع الاسبوع الماضي .مصدر الصورة : راديو دبنقا

تقرير : ابتسام حسن

الخرطوم 23 ديسمبر :2025 – أفق جديد – لم يكن الإعلان عن تكوين لجنة لـ«مراجعة المناهج الدراسية» واعتماد وثيقة 2013 حدثًا إداريًا عابرًا، بل كان بمثابة حجر أُلقي في مياه راكدة، سرعان ما كشفت دوائره المتسعة عن واحدة من أعمق أزمات السودان: أزمة العقل المُشكَّل بالتعليم.
في بلدٍ تحترق أطرافه، وتتفتت دولته، ويُدفن طلابه تحت أنقاض المدارس، يعود سؤال المناهج لا بوصفه شأنًا فنيًا، بل كسؤال سلطة، وهوية، ومسؤولية تاريخية:
هل كانت المناهج بريئة؟ أم شريكة؟ وهل ما يُسمّى تطويرًا اليوم، ليس سوى إعادة تدويرٍ لأفكار قادت – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – إلى ما يشبه الانسداد التاريخي الذي انفجر حربًا؟

لجنة مثيرة

منذ لحظة الإعلان عن تكوين اللجنة، سبق الشك التفاصيل. فبينما قُدِّمت بوصفها لجنة «مهنية»، سرعان ما تسرّبت أسماء أعضائها، لتفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول الحياد والاستقلال.
معلمون وتربويون قالوا إن تكوين اللجنة أعاد إلى الواجهة وجوهًا ارتبطت مباشرة بإعداد وثيقة 2013 نفسها، وبعضهم شغل مواقع قيادية في المركز القومي للمناهج خلال سنوات حكم المؤتمر الوطني، وهو ما جعل السؤال مشروعًا:
كيف يُراجع النص من كتبه؟ وكيف يُحاكم المشروع من صمّمه؟
ويرى تربويون أن الإشكال لا يكمن في الأسماء وحدها، بل في اللحظة السياسية التي جرى فيها التكوين: حرب شاملة، دولة منقسمة، غياب تفويض شعبي، وانعدام أي توافق وطني، وهي شروط تجعل أي حديث عن «تطوير» أقرب إلى فرض رؤية أحادية بقوة الأمر الواقع.


وثيقة قديمة


وُلدت وثيقة 2013 في سياق سياسي مختلف تمامًا.
فبحسب ما هو منشور في موقع المركز القومي للمناهج وأوراق المؤتمر القومي للتعليم 2012، جاءت الوثيقة امتدادًا مباشرًا لسياسات تعليمية أُقرت في ظل دولة الحزب الواحد، حيث كانت المناهج تُعرّف صراحة بأنها أداة لـ«بناء الإنسان الرسالي»، وهو تعبير تكرر في أكثر من وثيقة رسمية خلال عقد الإنقاذ الأخير.
وتُظهر النسخة المنشورة من الوثيقة أن أهداف التعليم لم تُبنَ على مفهوم المواطنة المتساوية، بل على ما سمّته الوثيقة «المرجعية الحضارية للأمة»، دون تعريف إجرائي جامع، الأمر الذي فتح الباب واسعًا أمام التأويل الأيديولوجي.

لغة موجِّهة

بالعودة إلى تحليل محتوى الكتب التي أُنتجت على أساس وثيقة 2013 – والمتاحة في أرشيف وزارة التربية والتعليم – يلاحظ باحثون تربويون هيمنة اللغة التوجيهية على حساب اللغة التحليلية.
في كتب التاريخ والتربية الوطنية، تتكرر مفردات مثل: التمكين، المشروع الحضاري، الثوابت، المرجعية، الهوية الواحدة، بينما يغيب النقاش النقدي، والسرد التعددي، وتقديم الوقائع من زوايا متعددة.
وتشير دراسات منشورة في مجلات تربوية سودانية (2016–2019) إلى أن أسئلة التقويم تركز بنسبة عالية على الاستدعاء والتذكر، لا على التحليل والمقارنة، وهو ما يندرج ضمن ما يسميه خبراء التربية بـ«التعليم الموجَّه أيديولوجيًا».

عقل معطّل

في الفصول الدراسية، لم يكن أثر هذه الفلسفة نظريًا فقط.
فمعلمون يؤكدون أن المنهج – بصيغته الحالية – يُحوّل المعلم إلى ملقِّن، والطالب إلى متلقٍّ سلبي، ويقيس النجاح بقدرة الطالب على الحفظ لا على الفهم أو النقد.
وتشير تقارير دولية، من بينها تقرير اليونسكو عن التعليم في السودان 2021، إلى تراجع مهارات التفكير العليا لدى الطلاب السودانيين مقارنة بدول الإقليم، وارتفاع معدلات التسرب وضعف القدرة على حل المشكلات، وهي مؤشرات تربطها التقارير بطبيعة المنهج وطرق التدريس.

تعدد مُقصى

أحد أخطر ما في وثيقة 2013، كما يرى منتقدوها، هو تعاملها الانتقائي مع التعدد الثقافي واللغوي.
فرغم إقرارها النظري بتنوع السودان، لا ينعكس هذا الإقرار فعليًا في المحتوى، حيث تكاد تغيب اللغات المحلية، والتاريخ الاجتماعي لمناطق الهامش، والسرديات غير المركزية.
وتكشف مراجعة كتب الجغرافيا والتاريخ للمرحلة المتوسطة – المنشورة بعد 2013 – عن تركيز مكثف على المركز النيلي، مقابل حضور هامشي لأقاليم دارفور، الشرق، جبال النوبة، والنيل الأزرق، وغالبًا ما تُقدَّم هذه المناطق في سياق أمني أو أزمات، لا كفضاءات ثقافية وإنسانية متكاملة.

إقصاء ناعم

هذا الإقصاء، بحسب تربويين، ليس صريحًا، بل «ناعم وخطير».
فهو لا يقول للتلميذ إن ثقافته غير معترف بها، لكنه يتجاهلها بالكامل، ما يُنتج شعورًا بالاغتراب داخل المدرسة، ويُراكم الإحساس بالغبن، وهو ما ربطته دراسات اجتماعية منشورة بجامعة الخرطوم بارتفاع النزعات الاحتجاجية والعنف وسط الشباب.

شرعية غائبة

في هذا السياق، يبرز سؤال الشرعية:
من يملك حق إعادة صياغة عقل أمة في لحظة انهيار؟

ترى أصوات مهنية أن أي عملية تطوير للمناهج دون مؤتمر قومي شامل تشارك فيه القوى التربوية والمجتمعية، تفتقر إلى الحد الأدنى من المشروعية الأخلاقية والسياسية. ويذهب هؤلاء إلى أن العودة لوثيقة 2013 اليوم لا يمكن فصلها عن محاولات إعادة إنتاج النظام القديم عبر بوابة التعليم، خاصة مع غياب أي إعلان عن فتح الوثيقة للنقد العام أو المراجعة المجتمعية.

ضجة واسعة

في هذا المناخ المشحون، أثار تكوين لجنة ما سُمّي بـ«مراجعة المناهج الدراسية» واعتماد وثيقة 2013 جدلًا واسعًا في الأوساط التربوية. وكالت لجنة المعلمين السودانيين الاتهامات للجهات التربوية، وقالت إن اللجنة تتكوّن في معظمها من عناصر تنتمي للمؤتمر الوطني وحركته الإسلامية، ومن بينهم من كان على رأس المركز القومي للمناهج عند إعداد وثيقة 2013، معتبرة أنهم لا يملكون الحياد المطلوب لمهمة تتعلق بمستقبل التعليم وأجياله.

ضعف القدرات

ويرى تربويون أن وثيقة 2013 ليست أساسًا صالحًا للتطوير، وأن وصفها بأنها «شاملة ومتطورة» يتناقض مع التجربة والممارسة المهنية. فهي – بحسبهم – مناهج تقوم على الحفظ والترديد لا على التفكير والتحليل، ولا تراعي التعدد الثقافي واللغوي المكوِّن لهوية السودان، وتضعف قدرات الطالب الذهنية والبحثية، وتُثقل كاهل المعلم بأعباء تتجاوز دوره التربوي الحديث.

عدم شرعية

وأكدت لجنة المعلمين في بيان تلقت (أفق جديد) نسخة منه أن بيئة التطوير غير متوفرة، وأن النظام القائم غير مؤهل، وأن الظروف الحالية لا تسمح بإجراء عملية التطوير المزعومة. كما شددت على أن النظام لا يمتلك الشرعية ولا التوافق الوطني اللازمين لإنجاز مهمة بحجم تطوير المناهج، معتبرة أن التطوير عملية وطنية كبرى لا تقوم بها لجان منبتّة تفتقر إلى التفويض والثقة.

كارثة تعليمية

وقالت اللجنة إن السودان يمر بأكبر كارثة تعليمية وإنسانية في تاريخه المعاصر، ولا تملك أي سلطة انتقالية أو سلطة أمر واقع شرعية تُمكّنها من إجراء تغييرات جذرية في المناهج دون مشاورات وطنية واسعة وشفافة. واستنكرت عودة وثيقة صيغت قبل أكثر من عقد في ظرف سياسي مختلف، واعتبرتها خطوة متعجلة بلا رؤية، ومنحازة لمشروع أيديولوجي رُفض شعبيًا ومهنيًا.

مواكبة العصر

ودعت لجنة المعلمين إلى تبنّي مشروع وطني شامل لبناء منهج حديث يواكب العصر ويحترم التنوع، ويقوم على احترام عقل الطالب وقدرته الابتكارية، وإعلاء التفكير النقدي، ودعم التنوع الثقافي واللغوي، وترسيخ حقوق الإنسان والمواطنة، وربط المعرفة بحياة الطالب والتنمية المستدامة.

مناهج الإقصاء

ورفضت اللجنة السماح بإعادة إنتاج ما سمّته «مناهج الإقصاء»، وأكدت عدم العودة إلى مناهج المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية مهما تغيّر شكلها أو عنوانها، معتبرة أن وثيقة 2013 جزء من الأزمة لا جزء من الحل.

ثقافة الأمة

في المقابل، قال مدير مكتب تعليم سابق الإمام عبد الباقي الإمام في تصريح لـ(أفق جديد) إن كل أمة تضع مناهجها وفق توجهات شعبها وثقافتها وهويتها وموروثها الحضاري، مشيرًا إلى أن الدين الإسلامي واللغة العربية عنصران أساسيان في هذا الموروث، مع ضرورة مراعاة مكونات المجتمع المتباين وتضمين ثقافات غير إسلامية وغير عربية، تفاديًا للهيمنة الثقافية التي تثير الغبن وتقود للنزاعات.

مناهج مؤدلجة

من جهتها، اعتبرت الخبيرة التربوية قمرية عمر أن المناهج «مؤدلجة»، ولا تراعي الدرجات العليا من المهمات الذهنية، وتعتمد على التلقين والحفظ، وتُخرج طلابًا سطحيين، مؤكدة أن تدهور التعليم بدأ مع حقبة الإنقاذ حين جرى التخلي عن التكوين العلمي للمناهج كما كان معمولًا به منذ بخت الرضا.

المنهج والمقرر

وتوضح قمرية أن هناك خلطًا بين المنهج والمقرر، فالمنهج يُبنى على سياسات الدولة وأهدافها، ثم تُشتق منه المقررات، لكن ما حدث هو العكس، ما زاد من أعباء المعلم وألغى أدوات التفكير والتحليل، معتبرة أن إهمال التعليم كأولوية وطنية ساهم مباشرة في نشوب الحرب، لأن الجهل وضعف الوعي كانا من أسبابها الجوهرية.

الدفاع الرسمي

في المقابل، يقول مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي د. معاوية السر قشي إن الوثيقة منشورة ومعتمدة، والمناهج الحالية قائمة عليها، وهي نتاج توصيات المؤتمر القومي للتعليم 2012، ولن تُغيّر إلا بمؤتمر قومي مماثل، مؤكدًا أنها عمل علمي مهني لا علاقة له بالسياسة، وقد اشترك في وضعها وتحكيمها أفضل علماء التربية، وتعتمد مدخل المعايير والتعلم النشط، وترد على كل ما أُثير من اتهامات.

Welcome

Install
×