ارشيف

امستردام : 20 فبراير 2024 : (راديو دبنقا )

الحرب نشاط عنيف بطبيعته ويتنج عنه موت ودمار ماحق وليس هنالك رأفة مع الحرب، لكنها تبقى امتداداً للصراع السياسي ووسيلة لتحقيق أهداف سياسية محددة إما بهزيمة العدو وفرض شروط عليه أو لتعديل ميزان القوى لصالح طرف حتى لو لم تؤدي الحرب لهزيمة كاملة للطرف الآخر، وهذا ما يحدث في غالب الحروب، ولم يحدث أن انتهت حرب في العصور الحديثة بإبادة أحد الطرفين تماما.

وللحرب في آخر الأمر قواعد وأخلاقيات تسمى قوانين الحروب وهي مجموعة القواعد الدولية التي تحدد ما يجوز وما لا يجوز أثناء النزاع المسلح، وتعتبر اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها والتي تهدف إلى حماية المدنيين والحفاظ على شيء من الإنسانية في النزاعات المسلحة، وإنقاذ الأرواح، والتخفيف من المعاناة، وعدم قتل الأسرى، وتعريضهم للتعذيب، أو قتل الأطفال، أو اغتصاب النساء، أو ارتكاب مجازر والإبادة الجماعية المنظمة.

انتهاكات مروعة

ذهل السودانيون بالمشاهد المروعة للقسوة البالغة الفظة الفالتة عن أي عقال لبعض مشاهد الحرب التي تدور في البلاد منذ ابريل الماضي، وبدأ الكثير منهم يتساءلون عن مصدر وسبب هذه القسوة المفرطة ولماذا يتم تداول مشاهدها بتلك السهولة، ولماذا تعمد بعض الأطراف والقوى والافراد المحسوبين على أي من طرفي الحرب على ترويج الإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والتمثيل بجثث القتلى واحراقها امام الكاميرات؟ ولماذا تطال قسوة الحرب عن قصد وإرادة، بفرد أو أفراد هم بالضرورة في موقع ضعف وعجز مقارنة بالجهة المؤذية؟

غياب التأهيل العسكري والمعنوي

تستهدف القسوة المفرطة والفظائع المنافية للحس الإنساني، ابتداء، ترويع الخصم الماثل امام القسوة، وتخويف البعيد عنه بمصير مماثل حتى يكف عن القتال والمواجهة والحط من روحه المعنوية وفرض الهزيمة عليه وتجريده من كرامته الإنسانية. لكن الأهداف والأسباب والنتائج في مثل هذه الحروب تختلط ببعضها اختلاطا مشوشا وتتبادل المواقع بحيث تصير النتيجة سببا او العكس بحسب السياق الذي تنطلق فيه القسوة المفرطة.

غني عن القول ان القسوة المفرطة في الحرب تعبر ابتداءً وبأوضح ما يمكن عن غياب التأهيل العسكري والمعنوي لمقاتلي الطرفين و افتقار الجنود المتحاربين الذين يرتكبون مثل هذه الفظائع للتدريب العسكري الاحترافي القائم على عقيدة قتالية مؤسسية واحترافية تمكن الجندي المقاتل من يعي اسباب الحرب وأهدافها والنتائج المرجوة والمحتملة لها. لا شك ان الجندي المحترف الذي يقاتل ضمن منظومة قتالية مهنية منظمة وبتراتبية واضحة تحدد الواجبات والمهام يكون اقل ميلا للتورط في مثل هذه الفظائع.

شرارة القسوة       

 ربما تكمن شرارة القسوة المفرطة في التحشيد القبلي والاثني الذي يصاحب الحرب الجارية في السودان الذي يحول، بآليات مخادعة وخطابات مزدوجة، الحرب التي نشبت بين قادة عسكريين متنازعين على السلطة، لحرب للدفاع عن قبيلة او أثنية محددة ضد جماعات أخرى على نفس الأسس القبلية والاثنية وبالتالي تجعل تلك الحرب “العبثية” على حد وصف احد قادتها، إلى مشروع دفاع عن مصالح جماعات متباينة من المواطنين.

إن تجنيد المواطنين وحشدهم على الحرب على أسس عرقية وقبلية للحرب يستدعى معها إرث وتواريخ العلاقات والنزاعات بين هذه الجماعات قبل نشوء الدولة وبعدها ونزاعاتها وثاراتها القديمة والحسابات التي لم تسوى في صدامات سابقة واطماعها المستترة والمعلنة في موارد بعضها البعض ويطلق العنان للعنف المنفلت كما يحدث الان في السودان.

كما أن التحشيد العرقي والقبلي والمناطقي تؤدي تلقائيا إلى تعدد الجماعات المتقاتلة وتكاثرها وانقساماتها المتتالية وتعدد اجندات ومرامي الحرب وتعذر القيادة المركزية الموحدة لها واخضاعها للنظم والقواعد العسكرية وبالتالي انفلات المتحاربين وارتكاب الفظائع.

خطاب الكراهية    

تستصحب مثل هذه الحروب بداهة إشاعة خطاب الكراهية والاذراء بالخصم وتجريده من الإنسانية والاستهانة به والتحريض عليه بناء بلغة ازدراءيه أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، أو الانتماء الإثني أو الجنسية أو الانتماء الجغرافي. ويمكن لخطاب الكراهية أن يكون سببا للحرب او نتيجة لها تجعل ايقافها اكثر صعوبة إن لم يكن مستحيلا، كما هو الحال في حرب السودان الحالية، إذا لم يعرف عن طرفا الحرب شيطنة بعضهما علنا إلا بعد نشوب الحرب.

باستمرار الحرب وتطاول امده يتصاعد الاستقطاب الحاد وتبادل الاتهامات بالخيانة التشهير بالخصم والكذب عنه وشيطنة الاخر لحدود فاحشة وتجييش كل غرائز البطش بالخصم، إلى حد يجعل القسوة الفجَّة المتوحَّشة ضد الاخر، لو كان مدنيا اعزلا، امرا عاديا وليست جريمة ورذيلة ممقوتة. 

الاجتثاث والاستئصال

ومن الخطابات السامة التي تقود للانتهاكات الفظة في تاريخ الحروب اعلان احد طرفي الحرب أو كلاهما عن نيته وقدرته على استئصال شأفة الطرف الاخر واستبعاده من المسرح المتنازع عليه كليا وتمسكه الاخرق بهذا الهدف، مما يضعف فرص التوصل لحل سلمي متفاوض عليه يحد من العنف ويحقن الدماء ويحفظ الكرامة الإنسانية للمواطنين، ويطلق يد المحاربين على الأرض في سحق من يظنون انه من الطرف الاخر أو يميل اليه بكل اشكال القسوة التي يبتدعونها.

ويقابلها من الجهة الأخرى خطاب المظلومية والاستبعاد الذي يصور جماعته ضحية تاريخية للجماعة الخصيمة بحيث لا يمكن الانتصاف للجماعة الأولى إلا بانتزاع كل امتيازات خصومها الحقيقية والمتوهمة وعقابها على ماضيها، بما يجعل التناقضات الاجتماعية التي تعرفها كل المجتمعات البشرية، غير قابلة للحل بالاعتراف المتبادل بمصالح الطرفين والتفاوض والمساومة والتنازلات المتبادلة ولا يترك مخرجا إلا باجتثاث الخصوم ماديا ورمزيا، ومن الطبيعي ان تتفشي القسوة والفظاظة في مناخ مثل هذا.

تصدر القسوة في بعض الأحيان أيضا عن الخوف مما يدفع الافراد والجماعات للبحث عن الأمان بطريقة تجعلهم عاجزين عن منحه للأخرين المختلفين والعمل على حرمانهم منه ومدافعة الخوف بالمزيد من العنف والقسوة والانغلاق الذي يحجب الاخر كشريك محتمل يمكن التعايش معه ولا سبيل إلا القضاء عليه. 

وتفسح مثل هذه الأجواء المحتقنة أيضا لجماعات صغيرة جدا وهامشية من المتطرفين الدينيين وغيرهم ممن لا تحرم لا تستبشع معتقداتهم الايدلوجية العنف والقسوة ضد الاخرين ليمارسوا انشطتهم الإرهابية تحت حماية اطراف الصراع.