القرارات الاقتصادية والدواء بالذي هو الداء

جاء في الأخبار أنّ بنك السودان المركزي قد أعلن في مساء الأحد 4/1/2018 عقب اجتماع ضمّ محافظ البنك المركزي مع مدراء المصارف العاملة بالسودان، عن حزمة من التدابير والاجراءات الهادفة في مرماها النهائي إلى التوظيف الأمثل لموارد النقد الاجنبي المتاحة للجهاز المصرفي

.

 

 

بقلم / الساري سليمان   

 

جاء في الأخبار أنّ بنك السودان المركزي قد أعلن في مساء الأحد 4/1/2018 عقب اجتماع ضمّ محافظ البنك المركزي مع مدراء المصارف العاملة بالسودان، عن حزمة من التدابير والاجراءات الهادفة في مرماها النهائي إلى التوظيف الأمثل لموارد النقد الاجنبي المتاحة للجهاز المصرفي لمقابلة احتياجات الاستيراد، ومحاصرة السوق السوداء ومن ثمّ الحدّ من الارتفاع الجامح لسعر صرف العملات الاجنبية في مقابل الجنيه السوداني وما ترتب عليه من ارتفاع غير مسبوق في اسعار السلع الأساسية للمستهلك. أهمّ وأخطر هذه التدابيروالقرارات زيادة سعر الصرف التأشيري من 18 إلى 31 جنيه للدولار الأمريكي، وحصر عمليات الاستيراد في موارد النقد الاجنبي المتاحة للجهاز المصرفي فقط، مع أخذ الموافقة المسبقة لكل عملية استيراد من البنك المركزي، بمعنى آخر، ابتداءاً من تاريخ سريان هذا القرار، يصبح من غير الممكن الاستفادة من أيّ عملات اجنبية تمّ شراؤها من السوق الأسود في عمليات الاستيراد، وبذك تكون قد تمّت محاصرة السوق الاسود في نطاق ضيّق جدا، كمّا تمّ تقييد سلطات المصارف في اصدار استمارات الاستيراد بموافقة السلطة النقدية في البلاد. 

حسناً، ما الذي سوف يترتب على هذه القرارات، هل تفلح هذه التدابير في تحقيق اهداف السياسة الاقتصادية الكليّة، هل تفلح في كبح جماح سعر الصرف، وهل تحدّ من تفلتات اسعار السلع، وإذا اصابت هذه السياسات شيئاً من مراميها، هل تنتج عنها آثار جانبيّة ربما تكون أشدّ وقعا على حياة الناس هذه الأورام التي هدفت هذه القرارات إلى استئصالها؟. هذه بعضٌ من الاسئلة التي تدور في ذهن كلّ واحد وواحدة منذ صدور هذه القارات. في هذه السطور محاولة لرسم سيناريوهات لما سوف يترتب على هذه القرارات على ضوء ما هو متوفر من بيانات وأرقام وشواهد لعلّها تساهم في فكّ الحيرة التي تلّف أذهان الجميع بما في ذلك متخذي القرار أنفسهم.

أولاً، لابدّ من التسليم أنّ تحجيم الاستيراد سوف يحدّ من الطلب الحقيقي على موارد النقد الاجنبي ومن المتوقع أن يقود هذا الاجراء إلى انخاض في سعر الصرف. ثانيا، حصر عمليات الاستيراد في حدود الموارد الموارد المتاحة للجهاز المصرفي سوف يحدّ من سطوة السوق الموازي وتكون حركة الأخير في حدود توفير احتياجات السفر والسياحة أوالادخّار إذا كانت توقعات النّاس باستمرار هبوط سعر الجنيه. ولكن، هل الأمر بهذه السلاسة؟ الأمر بالطبع ليس كذلك. يبدو أنّ تحدّي سعر الصرف والمخاوف التي اثارها على مستقبل الاستقرار السياسي والاقتصادي، جعل متخذي القرار يوجهون جهودهم كلها للسيطرة على سعر الصرف دون اكتراث للعواقب الوخيمة التي قد تنجم عن الخيارت التي اتبعت في معالجة هذه المشكلة الاقتصادية الناتجة عن تراكمات وأخطاء سياسيّة في المقام الأوّل. للوصول إلى خلاصات منطقية ولفهم القضية من أبعاد مختلفة، ومن اجل تقديم قراءة موضوعية، وحتى لا يكون الحديث مرسلاً كيفما اتفق، سوف نورد الأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة السودانيّة لتتحدّث عن نفسها. الأداة الرئيسة التي استخدمها البنك المركزي في انفاذ سياساته موضع التعليق، هي حصر عمليات الاستيراد في موارد البنوك. ربما سأل سائل، ماهي موارد النقد الاجنبي المتاحة للمصارف لمواجهة احتياجات الاستيراد؟ وما هو حجم هذه الموارد بالمقارنة مع الاحتياجات؟ وماهي أولويات استخدامها؟.

إنّ موارد النقد الاجنبي المتاحة للمصارف هي حصائل الصادرات حيث أنّ تحويلات المغتربين لا زالت تتم عبر السوق غير المنظّم. جملة حصائل الصادر في عام 2016 بلغت 3 مليار و94 مليون دولار في حين أنّ جملة الواردات لنفس الفترة قد تجاوزت 8 مليار و 323 مليون دولار بعجز بلغ حوالي 5 مليار و300 مليون دولار (الميزان التجاري)، وبنهاية سبتمبر 2017 – (9 أشهر، بيانات نهاية العام لم تصدر بعد) – بلغت اجمالي صادرات البلاد حوالي 3 مليار و24 مليون دولار وقيمة الاستيراد لنفس الفترة 6 مليار و117 مليون دولار بعجز 3 مليار و 93 مليون دولار، وباستخدام المتوسط الحسابي البسيط فإنّ صادرات 2017 تقدّر بحوالي 4 مليار و32 مليون دولار والواردات بحوالي 8 مليار و156 مليون دولار بعجز 4 مليار و124 مليون دولار.

ماذا تقول هذه الأرقام؟ وما هي طبيعة هذه الواردات؟ وما هو المهمّ منها وما هو الأهمّ وما هو الأقلّ أهميّة وما هو الهامشي الذي يمكن الاستغناء عنه؟. تقول هذه الإحصاءات أنّ صادرات السودان، حسب الأرقام المبيّنة أعلاه، لا تفي بأكثر من 37% وفي أحسن الأحوال 49% – (بمتوسط 43% للفترتين موضع التحليل) – من احتياجات البلاد للاستيراد، بينما يتمّ سدّ العجز من السوق الموازي. بمنع استخدام موارد السوق الموازي في عمليات الاستيراد، يعني عمليا أنً الحكومة قد قررت حظر حوالي 57% من الواردات التقليدية من دخول البلاد وهذا غير ممكن حتى في إطار ترتيب الأولويات لأنّ السلع الضرورية نفسها تتجاوز بكثير الموارد المتاحة للبنوك، وهذا سوف يقود للعاقبة الأكثر كارثية وهي أنّ احتياجات ضرورية للغاية سوف تتنافس على موارد شحيحة للغاية، وما يترتب على ذلك من مِحَن لا قِبل لأحد بها كما سوف نبيّن بالأرقام.

حتى لا نزحم القارئ بكثرة الأرقام، ولغرض هذا التحليل، نورد جملة الواردات من سلع معينة في نهاية العام 2016، نعتبر أنّ هذه السلع ذات ضرورة ملحة ولا تستطيع الحكومة ولا ترغب في الحد من استيرادها لاعتبارات الاقتصاد السياسي. قد بلغ اجمالي واردات 9 أصناف 4 مليار و533 مليون دولار، بالتحديد (القمح، البترول، خامات الصناعة، الأدوية، السكر، الكيماويات والاسمدة، وسائل النقل "غير شاملة الصوالين والبكاسي"، المعدّات الطبية والآليات الثقيلة) حيث تعجز جملة الصادرات عن الوفاء بهذه السلع بحوالي 1 مليار و439 مليون دولار. من بين هذه السلع هل هناك سلعة يمكن استثناؤها؟ إذا حذفنا القمح والبترول من جدول الأولويات فالعاقبة معروفة وهذا ما لا يمكن الاقتراب منه، وإذا حذفنا الآليات الزراعية ومعدّات التعدين وخامات الصناعة فإنّ العاقبة أسوأ من سابقتها. لغرض المقاربة، افترضنا أنّ جميع السلع المستوردة الأخرى سلع هامشية أو أقل أهميّة ويمكن الاستغناء عنها، بما في ذلك جميع المواد الغذائية (شاي، بن، أرز، عدس، لبن أطفال الخ)، الحديد وكلّ السلع المصنعة هامشية بما في ذلك الملبوسات والمنسوجات والأحذية والخيش ومواد البناء وكلّ المصنوعات البلاستيكية والمطاطية ومصنوعات الزجاج ومواد الطباعة وغيرها.

مما يترتب على ذلك أنّ صناعات كثيرة مرشحة للتراجع او الانهيار، وقطاعات اقتصادية بأكملها سوف تخرج عن دائرة الانتاج لأنّ احتياجاتها سوف توضع في أسفل سلّم الأولويات. فمثلا واردات الحديد التي تبلغ حوالي 697 مليون دولار يعتمد عليها عدد ضخم من المصانع الكبيرة والتي بطبيعتها تستخدم احجام كبيرة من آلاف العمالة، وتحرّك قطاعات كبيرة مثل قطاع البناء والنقل والقطاع الزراعي. سوف يتضرر أيضاً المتعاملون في القطاعات التي تعتبر نسبيا ليست ذات أولوية في توجيه الموارد مما يفقد الكثيرين مصادر رزقهم وفرص كسبهم. ومن اهمّ المترتبات المتوقعة على هذه القرارات، أنّ السلع التي لا تعطى أولوية في تخصيص الموارد وهي سلع مهمّة لحياة النّاس، سوف تحدث ندرة وشح في المعروض منها وترتفع اسعارها بصورة فلكية مما يشجّع على تهريبها عبر الحدود الممتدة وتخلق فرصة جديدة ليعاود السوق الموازي نشاطه.

في خاتمة الحديث، أنّ التدابير والقرارات الاقتصادية المتواترة التي تصدر تباعا في هذه الأيام، ليس من المتوقع أن تقود إلى تعافي الاقتصاد إن لم تنقلنا من أزمة معقدة إلى أزمة أكثر تعقيداً، ذلك لأنّ منشأ الأزمة كما سلفت الاشارة ليس اقتصادياً بل هي تجلٍّ وانعكاسٌ لأزمة سياسية لم يعد ينكرها حتى السياسيين أنفسهم. إنّ أيّ اجراءات اقتصادية ما لم تكن مصحوبة بقرارات سياسية تقضي بوقف الحرب الدائرة في مناطق الانتاج الغنيّة وتوجيه الطاقات البشرية والماديّة للانتاج، وإرادة مستعدّة لدفع فاتورة التوافق والاستقرار السياسي وخلق اجماع وطني يضع ابناء الشعب كلّهم امام مسئولياتهم التاريخية، وتمكين القضاء من اجتثاث الفساد ومعاقبة المفسدين، وتسريح جيوش الدستوريين الذين ليست لديهم اضافة، فإنّ المعبد سوف يسقط على رؤوس الجميع