الخبير الاقتصادي د.التجاني الطيب: الوضع الاقتصادي الراهن (2-2)

محاربة (القطط السمان) في ظل الأوضاع الراهنة شبه مستحيلة
استرجاع جزء من قنوات الأموال المنهوبة، يشجع على الفساد، وليس محاربته
يمكن للحكومة أن تحارب (القطط السمان) بطريقة منهجية …

الدكتور التجاني الطيب ابراهيم(ارشيف)

الدكتور التجاني الطيب ابراهيم

 

محاربة (القطط السمان) في ظل الأوضاع الراهنة شبه مستحيلة

استرجاع جزء من قنوات الأموال المنهوبة، يشجع على الفساد، وليس محاربته

يمكن للحكومة أن تحارب (القطط السمان) بطريقة منهجية

الخروج من الوضع الاقتصادي المتأزم يتطلب إستراتيجية نمو شامل ومستدام

يمكن للسودان تخفيض ديونه عبر مبادرة الهيبيك

الحكومة لم تنجح في اجتذاب الكوادر الاقتصادية المؤهلة

صُنّاع القرار يضخِّمون الإيرادات كذريعة للتوسع في الصرف

الساحة امتلأت بما يسمى بالخبراء الاقتصاديين غير المؤهلين

حوار: إمام محمد إمام

يواجه الاقتصاد السوداني في الوقت الراهن مضاعفات عديدة، تمثلت في الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الضرورية، والعملات الأجنبية، خاصةً الدولار، رغم كل الإجراءات التي وضعت من أجل احتواء ارتفاعه المستمر، إضافة إلى بعض المضاعفات المستجدة، كأزمة الوقود والخبز، مما أثر سلباً على شرائح مجتمعية واسعة.. فبدأ يتساءل الكثيرون هل مشكلة الاقتصاد السوداني مشكلة بنيوية أم مشكلة إدارة اقتصادية؟

ذهب بعض الخبراء الاقتصاديين إلى أن الوضع الاقتصادي الراهن، هو وضع معقد وصعب نتيجة للاستمرار في التشخيص الخطأ للمشكل الاقتصادي، واتباع السياسات الخاطئة على ضوء هذا التشخيص الخاطئ، اعتقاد أن الدولار هو المشكلة، أدى إلى اتخاذ سياسات حدّت كثيراً جداً من الواردات، ومكلف في الصادرات في الوقت نفسه، نتيجة لعدم توفر المدخلات الإنتاجية، نتج عن ذلك اختناقات في الأسواق، مما أدى إلى ارتفاع الصدمات التضخمية، حيث أرتفع معدل التضخم من 25% في نهاية ديسمبر 2017، إلى 55.6% في نهاية مارس 2018، مما يعني أن الأسعار ارتفعت بنسبة 121% في الربع الأول من عام 2018. هذا يعني أن معدل النمو الحقيقي المقدَّر رسمياً بحوالى 4% قد لا يخرج من دائرة الصفر في الربع الأول من عام 2018، على ضوء التقدير الرسمي لمعدل التضخم في حدود 19.5% لعام 2018. حرصتُ في هذا الحوار الصحفي سبر غور جوانب مهمة في المشكل الاقتصادي السوداني مع د. التجاني الطيب إبراهيم، الخبير الاقتصادي السابق بصندوق النقد والبنك الدوليين، وزير الدولة للمالية والتخطيط الاقتصادي إبان فترة الديمقراطية الثالثة، والأستاذ المشارك والمحاضر السابق في الاقتصاد الكلي بجامعة الخرطوم وجامعات ومعاهد عليا في ألمانيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية، والمستشار المالي والاقتصادي لعدة مؤسسات إقليمية ودولية، فإلى مضابط الجزء الثاني والأخير من الحوار:

*ما حقيقة اتهام النظام القائم بأنه يفتقد للكادر الاقتصادي المؤهل؟

في السودان، كل الأنظمة العقائدية والتقليدية لم تهتم ببناء قاعدة ثابتة من الاقتصاديين ذوي الكفاءة. فالمشكلة عامة، وليست مشكلة نظام بعينه. فهذا، قد يكون السبب بأننا منذ الاستقلال نتعامل مع الاقتصاد، كقضية جانبية، ما نتج عنه عدم وجود الرؤية الاقتصادية للارتقاء بالبلاد من مرحلة النمو إلى مرحلة النشوء، كما ذكرنا آنفاً. لكن ما يؤخذ على هذا النظام أنه في سُدة الحكم لثلاثة عقود، ولم ينجح في اجتذاب كوادر اقتصادية مؤهلة علمياً، بعيداً عن المحاصصات والترضيات العقائدية السياسية. وقد يكون هذا سبباً في أن امتلأت الساحة الاقتصادية، بما يُسمى خبراء اقتصاديين دون أي تأهيل في مجال الاقتصاد كمهنة، مما جعل من الاقتصاد مهنة من لا مهنة له، أو من هو غير راضٍ عن مهنته.

*لماذا الخبراء الاقتصاديون ذوو الخبرات في التعامل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والصناديق الإقليمية يحجمون عن تقديم تلكم الخبرات في التعامل مع تلكم الصناديق لمعالجة المشكل الاقتصادي السوداني المتفاقم؟

لا أعتقد أن أي سوداني يطلب منه المساهمة في بناء وطنه سيتردد في تلبية النداء، إذا صدقت النيات، وتوفرت الإرادة السياسية الداعمة لإصلاح الحال الاقتصادي بصورة جذرية. لكن كما ذكرت بأن الأنظمة العقائدية، لا تنظر خارج صندوق العقائدية. لهذا السبب ليس مستغرباً أن ظللنا نكرر استنساخ نفس الوجوه والأفكار التي تُختار بناءً على العقيدة والولاء، لا الكفاءة والخبرة. فمثلاً، عندما طلب مني في الديمقراطية الثالثة، ترك منصبي في البنك الدولي، والعودة إلى السودان لتنفيذ برنامج الإنقاذ الاقتصادي الذي طرحته وقتها، فلم أتردد في ذلك. وعندما وجدت أن تنفيذ البرنامج شبه مستحيل في ظل الظروف السياسية السائدة وقتها، لم أتردد أيضاً في الاستقالة. رغم أني قد كنت فقدت وظيفتي في البنك الدولي. فالمشكلة ليست في الخبراء الاقتصاديين، وإنما في أصحاب القرار السياسي وعدم توفر الرؤية الاقتصادية والسياسية طويلة المدى.

*مشكلة الديون الخارجية وكيف يُعالج السودان هذه المشكلة؟

بلغت ديون السودان الخارجية حوالى 54 مليار دولار بنهاية عام 2017م، ومن المتوقع أن تصل إلى 57 مليار دولار بنهاية عام 2018م، ما يعني أن الدين الخارجي يرتفع بثلاثة إلى أربعة مليار دولار كل عام. مما تجدر الإشارة إليه، هو أن 85% من الدين الخارجي متأخرات، وأن السواد الأعظم من الدين لدائنين ثنائيين (دول) مقسماً بالتساوي بين أعضاء نادي باريس (اقتصادات الدول الغربية الكبرى) وغير أعضاء نادي باريس كالدول العربية.

الدين الخارجي يمثل تحدياً كبيراً بالنسبة للسودان، خاصة في إمكانية التعامل مع المنظمات المالية والتنموية العالمية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى عدم تشجيع للمستثمرين الأجانب في التعامل مع السودان، في واقع الأمر، تعاملت الأنظمة السودانية بصورة غير جادة مع موضوع الديون الخارجية على أساس أن مشكلة هذه الديون ليست ذات أهمية في الأجندة السياسية، رغم أنها ظلت تمثل إحدى العوائق الرئيسية في تعامل السودان الاقتصادي مع بقية العالم.

هنالك عدة مبادرات لحلحلة مشكلة الديون الخارجية للدول النامية، أهمها برنامج الحقوق المتراكمة الذي يسمى بالراب RAP، ومبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون المعروفة باسم الهيبيك (HIPC). في إطار البرنامج الأول تحصل الدول المشاركة في البرنامج على نقاط حسب نجاحها في تطبيق برامج إصلاحية مع صندوق النقد الدولي. وتظل تجمع تلك النقاط حتى تساوي إجمالي الدين للصندوق. وهنا تبحث الدولة المدينة عن دائن من الدول ذات الإمكانات المالية والاقتصادية المقدرة في الحصول منها على قرض معبري. وبموجب هذا القرض يستطيع صندوق النقد الدولي، إعادة جدولة الدين وإرجاع قيمة العرض إلى الدولة الدائنة في خلال 48 ساعة. وهذا ما فعلته دولة زامبيا، حيث نجحت في تجميع النقاط المطلوبة، والحصول بعد ذلك على قرض معبري من بريطانيا، سددت بموجبه ما عليها من دين. فقام صندوق النقد بعد ذلك، بإعادة جدولة الدين وإرجاع القرض للدولة الدائنة (بريطانيا)، مما ساعد زامبيا في معالجة ديونها مع بقية الدائنين.

للأسف الشديد، السودان لم يستفد من هذه المبادرة، رغم أن أجلها قد مُد إلى عام 2019م، لكي يستفيد منه السودان والصومال وزيمبابوي، علماً بأن زيمبابوي أوفت بديونها للصندوق ، وعلى وشك أن تساوي ديونها مع البنك الدولي. أما الصومال فقد بدأ هو الآخر في تطبيق برامج للحصول على النقاط المطلوبة، لحلحلة ديونه للصندوق، وقد قطع شوطاً بعيداً في هذا الاتجاه. مما يعني أن السودان هو الدولة الوحيدة التي لن تستفيد من هذا البرنامج من جملة 19 دولة نجحت كلها في التخرج من هذا البرنامج، أي حلحلة ديونها خلال هذا البرنامج الذي سينتهي قريباً، لكن تظل فكرة القرض المعبري قائمة، بالنسبة للسودان إذا وجد السودان من يقرضه المبلغ الكافي لديونه مع الصندوق والبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، حيث تبلغ ديون هذه المؤسسات على السودان حوالى ثلاثة مليارات دولار، وحلحلة هذه الديون السيادية التي لا تُخفض ولا تعفى ستكون هي المدخل الرئيسي لحلحلة بقية الديون، في إطار نادي باريس وغير نادي باريس.

أما بخصوص مبادرة الهيبيك، فالسودان أصبح مستحقاً لتخفيض ديونه في إطار هذه المبادرة، لكن أيضاً أن السودان قد طبق أكثر من 14 برنامجاً إصلاحياً تحت مراقبة موظفي الصندوق، لكن أداءه الإجمالي، لم يكن كافياً لإعطائه شهادة التخرج. بالتالي هنالك ثلاثة متطلبات لا بد من استيفائها لكي يستطيع السودان الاستفادة من مبادرة الهيبيك.

(1) سجل أداء قوي يستوجب وضع وتنفيذ سياسات اقتصادية ومالية فعالة، في إطار برنامج مراقبة موظفي الصندوق يرقى إلى مستوى متطلبات قروض الصندوق التقليدية.

(2) حصول السودان على موافقة الغالبية العظمى من الدائنين (70%). لمساعدته في الاستفادة من المبادرة.

(3) دفع متأخرات الصندوق (حوالى 1,3 مليار دولار)، ووضع خطة تمويل مفصلة لحلحلة متأخرات البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي.

كل ذلك يعني أن السودان ما زال أمامه طريق طويل لمعالجة مشكلة ديونه الخارجية، مما يتطلب عملاً سياسياً واقتصادياً مكثفاً في الفترة المقبلة لمعالجة مشكلة الدين الخارجي.

*كيف يستفيد الاقتصاد الكلي من حصول الدولة على جزء من أموال القطط السمان؟

ج (11) أولاً: القطط السمان هي سمة من سمات الأنظمة الشمولية في العالم، حيث تُغيب الرقابة والشفافية في إدارة المال العام، وللأسف القطط السمان أصبحت فوقية ووسطية وتحتية،مما يجعل محاربتها شبه مستحيلة في ظل الأوضاع الراهنة.

ثانياً: استرجاع جزء من قنوات الأموال المنهوبة، يشجع في الواقع على الفساد، وليس محاربته، عليه يجب استرداد المال المنهوب كله، ومعاقبة الفاسدين حتى يكونوا عظةً وعبرةً لغيرهم، وذلك بتفعيل اللوائح والقوانين الموجودة التي تعاقب على الاستيلاء على المال العام دون وجه حق.

ثالثاً: الفساد المالي والإداري في القطاع العام، يُعد من أكبر الجرائم ومن أصعبها للكشف في الدول النامية، لذلك لا بد من الاستفادة من خبرات وتجارب المحققين التحليليين الدوليين والمحكمين، مثل خبراء التنمية العالميين، صُنَّاع القرار وضباط البرامج المالية والاقتصادية على وجه الأرض، وخبراء البلدان والباحثين. لذلك لا بد من فهم وتقييم الفساد، ثم وضع إستراتيجية وخطة لإزالة أسبابه، كالتجنيب والحروب وحب السلطة وضعف الدولة مثلاً، وليس معالجة علله فقط. وأول خطوة لوضع إستراتيجية عملية، هو خلق قاعدة للتغيير، تتمثل في بناء الإرادة السياسية، وتقييم تحليلي للفساد في شكل دراسات لكشف وتقييم الفساد، كما حدث مثلاً في دول، مثل السنغال وأوكرانيا وهندوراس وتيمور الشرقية.

*ما هو البرنامج الاقتصادي والمالي الذي تقترحه لتعافي الاقتصاد السوداني والخروج به نهائياً من دائرة الأزمات المزمنة والارتقاء به إلى مستوى الاقتصادات الناشئة؟

المخرج/ الحلول

الخروج من الوضع الاقتصادي المتأزم المتمثل في عدم التوازن في الاقتصاد الكلي يتطلب إستراتيجية نمو اقتصادي شامل ومستدام ذات شقين يمكن اختصارهما بشدة كما يلي: –

الشق الأول:

يشمل إجراءات تكييف إسعافية في المدى القصير لامتصاص تدهور الأوضاع الاقتصادية تحتوي على خليط من السياسات يتكون من: –

1- خفض الإنفاق الجاري بمقدار خمسة مليارات جنيه في عام 2019م.

2- مرونة سعر الصرف بعدم ترك اتساع الفجوة بين السعر الرسمي والموازي.

3- تشديد السياسة النقدية عن طريق تحجيم الإقراض للحكومة، الابتعاد عن إقراض الاقتصاد واستعادة ودائع البنك المركزي من البنوك التجارية بالإضافة إلى استعمال احتياطي النقد بدلاً من سعر الصرف كركيزة لإبقاء التضخم تحت السيطرة.

4- الاحتراز في زيادة أجور القطاع العام.

5- الابتعاد عن الإجراءات الإدارية.

6- إلغاء الرسوم والجبايات والعبثية المفروضة على الواردات.

• الهدف (1-5) تحجيم التضخم وتخفيف الضغط على ميزان المدفوعات واحتياطي النقد الأجنبي.

الشق الثاني:

يتضمن برنامج إصلاح مالي واقتصادي للمديين المتوسط والطويل لإعادة تركيز الاقتصاد على قطاعاته الحقيقية، خاصة الزراعة والصناعة، بهدف معالجة اختناقات العرض المحلي يحتوي على:

1- الاستمرار في خفض الإنفاق التشغيلي ليصل العجز الجاري إلى صفر بنهاية عام 2020م والبدء في بناء فائض في الرصيد الجاري في عام 2021م.

2- تقوية فعالية السياسة النقدية (الابتعاد عن إدارة سعر الصرف).

3- التأكيد الفعلي على استقلالية البنك المركزي بتركه للقيام بواجباته الأساسية المتمثلة في وضع وتنفيذ السياسات النقدية والمصرفية للمحافظة على استقرار الأسعار، وانسحابه التدريجي من الأنشطة التي لا صلة لها بعمل البنوك المركزية مثل شراء وبيع الذهب والتمويل الأصغر.

4- إعادة هيكلة قطاع البنوك وتشجيع تنمية سوق المال المحلي للتقليل من الدولرة وتحفيز المنافسة.

5- تقوية استجابات العرض عن طريق إصلاحات جذرية، خاصة في قطاع الزراعة، من أجل تحسين التنافس، مرونة سوق العمل، والإنتاجية.

6- برنامج خصخصة مدروس وذو أهداف محددة توظف عائداته في التمنية.

7- برنامج إصلا ح شامل لإعادة هيكلة وبناء الخدمة المدنية.

8- برنامج إصلاح متكامل لإعادة هيكلة وبناء الحكم المحلي.

9- محاربة الفساد المالي والإداري والسياسي.

الهدف من إستراتيجية النمو الشامل المقترحة هو الوصول إلى نمو حقيقي بمعدل 7-8% في العام (أكثر من ضعف النمو السكاني) لمدة خمسة عشر عاماً يمكن أن يصل فيها الاقتصاد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي والتحول من مستورد إلى مصدر للغذاء.

الموارد المطلوبة سنوياً لتحقيق هذا الهدف تم تقديرها بما يعادل حوالى 3,2 مليارات دولار يتم توزيعها على للقطاعات المستهدفة على النحو التالي:

1 مليار دولار للزراعة.

600 مليون دولار للصناعة.

500 مليون دولار للتعليم.

500 مليون دولار للصحة.

400 مليون دولار للبنى التحتية.

هذه الموارد يمكن الحصول عليها من المصادر الآتية: –

1,5 مليون دولار (وقف الحروب والصراعات المسلحة الدائرة الآن في ربوع البلاد).

1,0 مليار دولار (إلغاء 60% من الإعفاءات الجمركية والضريبية ومنح خارجية).

1,0 مليار دولار (وقف التجنيب وتحويل موارده إلى الخزينة العامة).

فرص العمل المتوقعة مباشرة من تنفيذ إستراتيجية النمو الشامل قد تصل إلى أكثر من 400 ألف وظيفة في العام ما سيساعد كثيراً في الحد من مشكلتي البطالة والفقر.

السياسات الاقتصادية والمالية المقترحة تتطلب توفر الإرادة السياسية والتنفيذ بالتزامن. فتنفيذ أي سياسة بمعزل عن بقية السياسات سيزيد من تعقيد المشكل الاقتصادي وتصعيب الحل في المستقبل.

 

Welcome

Install
×