الازمة السودانية. لماذا و كيف يصبح الحوار القومي هو الاستراتيجية المثلي للمعالجة ؟

من الماسي المثيرة للدهشه ان الحديث “الايجابي” عن “الحوار القومي” في المناقشات السياسية في السودان غالبًا ما يثير الريبة و الشكوك و محفوف بالمخاطر . الحديث عنه يرفع “حواجب العين” بل احيانا يتخطى اللياقة إلى الحد الذي يمكن ان يتعرض المدافع او المؤيد للفكرة بالخيانة (او بالتامر في احسن الاحوال) من قبل المعارضين للفكرة. كل هذا نتيجة “السمعة السيئة” و “الصورة الشائهة” التي اكتسبته مفهوم الحوار بسبب الممارسات الخادعة و المراوغات البهلوانية السابقة فضلا الي طغيان سوس “انعدام الثقة” التي خلفتها تقاليد “خيانة العهود” و سيادة ثقافة “اللاعقلانية السياسية” التي تشرئبت بها منظومة التفكير السياسي السوداني التي اصبحت تقلل من شأن الحوار كقيمة حضارية و ارقي مرتبة للممارسة للسياسة. و لكن مع كامل الاعتراف بالخشية و الخوف عند “القطة التي عضها الثعبان من حبل” إلا ان الحوار (باعتباره الممارسة الأكثر واقعية وفعالية للخطاب السياسي السلمي و الخالية من المخاطر و القادرة علي حشد التوافق و الاجماع في إدارة الصراع و إحداث التغيير) يظل ضروري أكثر من أي وقت مضى في معالجة المعضلةالسياسة السودانية المأزومة.

على ترايو

 

 

بقلم : على ترايو

 

● مقدمة

من الماسي المثيرة للدهشه ان الحديث “الايجابي” عن “الحوار القومي” في المناقشات السياسية في السودان غالبًا ما يثير الريبة و الشكوك و محفوف بالمخاطر . الحديث عنه يرفع “حواجب العين” بل احيانا يتخطى اللياقة إلى الحد الذي يمكن ان يتعرض المدافع او المؤيد للفكرة بالخيانة (او بالتامر في احسن الاحوال) من قبل المعارضين للفكرة. كل هذا نتيجة “السمعة السيئة” و “الصورة الشائهة” التي اكتسبته مفهوم الحوار بسبب الممارسات الخادعة و المراوغات البهلوانية السابقة فضلا الي طغيان سوس “انعدام الثقة” التي خلفتها تقاليد “خيانة العهود” و سيادة ثقافة “اللاعقلانية السياسية” التي تشرئبت بها منظومة التفكير السياسي السوداني التي اصبحت تقلل من شأن الحوار كقيمة حضارية و ارقي مرتبة للممارسة للسياسة. و لكن مع كامل الاعتراف بالخشية و الخوف عند “القطة التي عضها الثعبان من حبل” إلا ان الحوار (باعتباره الممارسة الأكثر واقعية وفعالية للخطاب السياسي السلمي و الخالية من المخاطر و القادرة علي حشد التوافق و الاجماع في إدارة الصراع و إحداث التغيير) يظل ضروري أكثر من أي وقت مضى في معالجة المعضلةالسياسة السودانية المأزومة.

حتمية الحوار في ظل الظروف السائدة تمليها الحقائق الواقعية القاسية على الأرض في مقدمتها الحاجة الملحة لوجود أوسع قاعدة جماهيرية داعمة تكون قادرة على ترجمة الآمال و التطلعات المتجسدة في ثالوث شعار الثورة “حرية – سلام – عدالة” على ارض الواقع و كذلك الحاجة إلى تقليل المخاطر المحدقة المتصاعدة التي تهدد وحدة البلاد في وجه الاخفاق و الفشل المريع لاساليب الخداع والالاعيب السياسية الماكرة التي مارستها القوى السياسية (المدنية والعسكرية) التي فشلت في كل نواحي الحكم الراشد بما فيها تحقيق الاستقرار منذ الاستقلال (1956) ، أو في إقامة نظام حكم متفق عليه أو في تحقيق السلام و الأمن الاجتماعي أو التنمية و كذلك في الفشل الزريع في تحويل المعطيات التي وفرتها الثورات الشعبية (أكتوبر 1964 أو أبريل 1985) إلى فرص

لذلك سيكون من الخطأ الفادح ترك مبادرة “الحوار القومي” على النحو الذي اقترحته منظومة الترويكا الاممية من بعثة الأمم المتحدة (اليونيتامس) ومنظمة الاتحاد الأفريقي و منظمة الهيئة الحكومية للتنمية (ايقاد). في تقديرنا انه من الممكن انتهاز هذه الفرصة و تحويل هذه المبادرة المشتركة إلى منصة قوية يمكن بها تجميع فسيفساء السياسة السودانية ، بما فيها الشباب النشط الزاخر بالحيوية و الهمة (سواء أولئك الذين صمدوا و تصدروا الاحتجاجات الشعبية الشجاعة الطويلة الامد و أولئك الذين تصدوا في الاحراش و الصحاري لسنوات في مقاومة الإبادة الجماعية) و ادارة حوار قومي حقيقي عميق و شفاف للاجابة علي سؤال الدهر عن “كيف يُحكم السودان” في اطار مبادئ “الحرية والسلام والعدالة” و فتح الافق المسدودة و كسر المعضلة السودانية.

بغض النظر عن اي تصورات متباينة أو اراء متضاربة أو مشاعر منفعلة، فإن الواجب و المسؤولية التاريخية تملي علي النخب والسياسيين السودانيين بالزامية مواجهة لحظة الحقيقة ، والانخراط في شرح وتوضيح ونشر الحكمة الكامنة من وراء الحوار القومي كأفضل خيار استراتيجي.
يجب أن يكون للجمهور السوداني خيارات ليقرر ما يريد (ليس عن طريق التخويف) بل عن طريق الوعي لان الجمهور المطلع هو الذي يمكن ان يتخذ القرارات العقلانية.

إن مهمة القضاء على شأفة الكابوس الدائم الناجم عن الحلقة الشريرة من “الانقلابات العسكرية وحروب الإبادة الجماعية والقتل والفقر والانفصال) ليست هي مهمة شاقة. لذلك هي تتطلب الي جبهة شعبية أوسع تقوم على أساس اتفاق جماعي. ما يقلق في الامر هو ان آراء القوى السياسية بشأن المبادرة منقسمة كما ان الاستقطاب تزيد حدة (بين أولئك الذين يرون أنها فرصة ترقي إلى مصاف “التدخل الإلهي” رسو “لقارب إنقاذ اللحظة الأخيرة” في مقابل وجهات النظر المتحفظة ، أو اللامبالية أو الفاترة أو حتى تلك المعارضة للفكرة من حيث المبدأ علي اعتبار انها مجرد خدعة ماكرة كسابقاتها تستخدمها القوى الحاكمة “لإعادة تعبئة النبيذ القديم في زجاجة جديدة” للحفاظ على الوضع الراهن.

لدحرجة كرة المناقشة حول الموضوع ، من الضروري ان نبدأ بجملة من ملاحظات اساسية التي تساعدنا على التقرب من المشهد السياسي و ذلك قبل ان نطرح بعض الأسئلة ذات الصلة ، فضلا الي تقديم بعض الاقتراحات على أمل أن تساعد كل ذلك في تنبيه القوى السياسية في تقديرها للموقف و تساعد الوسطاء و المسهلين في مساعيهم في هيكلة أنسب خارطة طريق للحوار علي نحو قابل للتطبيق.

● الملاحظات

الملاحظة الاولي:

الانقسام الاميبي في الاراء و الاستقطاب الحاد للقوي.

مع اننا لم ننتهج ترتيبا لهذه الملاحظات علي حسب الاولوية و لكننا نري ان نبدأ بما نراها اكثر اهمية في داخل هذا “الجيومتريك السياسي” ، و نقصد بها حالة “الكل ضد الكل”: الجيش ضد السياسيين المدنيين ، جماعات المجتمع المدني ضد الأحزاب السياسية ، معسكر السلام ضد دعاة الحرب، الأجيال الشابة ضد الأجيال الشايخة، قوي المؤسسة القديمة ضد اللعيبة الناشئة حديثا ، العناصر المؤيدة للشراكة ضد الإقصائيين، الجهويات ضد الجهويات ، الجماعات العرقية ضد بعضها البعض، الراديكاليين ضد المعتدلين، الإسلاميين ضد العلمانيين ، اليسار ضد اليمين ، “القوميون العرب” ضد “دعاة الأفريقانية” ، القوى “المناهضة للإمبريالية” ضد “المؤيدين لسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي”. حتى انصار التطبيع مع إسرائيل ضد المناهضين التطبيع !
 
الملاحظة الثانية:

تبادل الاتهامات علي نمط عشوائي:

إلقاء اللوم ، ردود الفعل البغيضة ، النقد التحريضي الهدام ، التشهير و التسفيه، التجريم والشيطنة ، اغتيال الشخصيات … الخ كلها جزء من منظومة الخطاب السياسي المتفشي. هذا النمط من الخطاب السياسي المتشنج المشاكس تدعمه تصريحات المسؤولين ومداخلات النشطاء و مقالات الرأي والخطابات السياسية.
هذا النهج السلوكي القائم علي منطق “الاتفاق علي عدم الاتفاق” قد جعل الاطراف تختلف في كل شيء بما في ذلك تفسير الشعار الأساسي للثورة “حرية ، سلام و عدالة”.

الملاحظة الثالثة:

ديمومة الحالة الانتقالية. كانت و ما زالت السودان (منذ الاستقلال في 1956) و لأكثر من سبعة عقود في دوامة انتقالية هشة. لم يتم تأسيس أو تسوية أي من القضايا الجوهرية. لا دستور دائم و لا سلام مستدام ولا رؤية قومية حول اي من القضايا المركزية و عليه من الخطأ القاتل إعتبار حالة الانتقال الحالية (رغم اضطرابها غير المسبوق) علي انها “مرحلة انتقالية معزولة” في حد ذاتها. الصحيح في الامر إنها استمرار لا يتجزأ من فترة “الانتقال الطويل” التي لازمت البلاد منذ البداية و تميزت بمراحل من شمولية الديكتاتورية العسكرية و انتهاكات لحقوق الإنسان و عنف ضد المدنيين و حروب ابادة جماعية و انفصال للبلاد و ثورات شعبية عارمة و حكومات مدنية هشة.
ما يميز انفجار ديسمبر 2018 هو فتحه “لعلبة ديدان السياسة” بصورة اوسع و قلبها “لداخل الأمور” الي خارجها و وضعها للقضايا الأساسية على السطح بشكل مكشوف و وضعها لمستقبل البلاد علي حافة الهاوية.

الملاحظة الرابعة:

“سطوة العقلية القديمة و استمراءها لحالة نكران الواقع و دفن الرؤوس في الرمال”.
بالرغم من كل المتغيرات الهيكلية التي طرأت علي الواقع السياسي و الاجتماعي و الطبقي و الديمغرافي و العمري و الجندري و الحضري و العسكري و في ادوات التواصل المعلوماتية و في الخبرات المتراكمة و في التجارب المكتسبة و ما احدثتها كل ذلك من رفع لمستوي الوعي الشعبي سواء في مطالبها او في تطلعاتها او في طموحاتها التي تلخصت في ثالوث شعار الثورة المركزي الا ان القوي التقليدية ظلت تراوح مكانها (تفكيرا او رؤية) و لكنها فضلت العادة “النعامية” في دفن الرؤوس في الرمال و في تسلية الاشواق و التصورات الذاتية و الاستسلام الي نوستالجيا الماضي و الدوران حول الوتد القديم.

جملة هذه الاختلافات ما بين الوقائع الظرفية و المعطيات الموضوعية المحيطة باكتوبر و ابريل و ديسمبر و التي تحاول القوي السياسية تجاهلها رؤيتها و تتحاشي مواجهتها تتمثل في المشاركة الفاعلة لقوى الهامش في صناعة الاحداث السياسية أو في حضورها العسكري على الأرض، التغيرات الموجودة في واقع الجيش و في كل الاجهزة الامنية (سواء من حيث التوجه الأيديولوجي و العقائدي لهذه المؤسسات أو من حيث ولائها الحزبي او في ازدواجية قيادتها) و في التكوين الديموغرافي لسكان الحضر (خاصة في العاصمة الوطنية) نتيجة الهجرة و الوجود الكثيف لسكان مناطق الهامش و في الفرق الهائل ما بين تماسك قوي التغيير الاكتوبرية و الابريلية و بين هشاشة و انشطارات القوي الديسمبرية فضلا الي درجة مقاومة قوى الثورة المضادة من عناصر الدولة العميقة ضد ثورة ديسمبر و هي حالة لم تكن لها وجود في الظروف التي احيطت بالثورات السابقة لديسمبر.

• في حين ان كل هذه الحقائق الصعبة تشكل تحديات حقيقية تتجاوز القدرات الذاتية لأية قوة سياسية بمفردها و تحتاج إلى رؤية و نهج جماعي متماسك و لكنها تفتقر الي رابط موضوعي و لا نعتقد ان يتأتي ذلك الا عبر الحوار.

الملاحظة الخامسة:

متلازمة “انعدام الثقة” و مفعولها في نخر الجسد السياسي السوداني

ان متلازمة “انعدام الثقة” تعتبر الظاهرة الرئيسية التي ظلت تنخر الجسد السياسي السوداني و الدافع المركزي في تفسير معضلة “الكل ضد الكل” و قد ظلت تؤثر تمنع القوى السياسية من أي تفاعل ذي مغزى و لعبت دورا فاعلا في تشتيت تماسك و و تشليع راكوبة تحالف القوس قزح السياسي “قوى الحرية والتغيير”
فالعلاقات المتوترة بين دعاة “اللاءات الثلاثة” (التي تتصدرها لجان المقاومة) و بين القوى السياسية هي شهادة واضحة لهذا التشرزم التي وصلت مداها الي درجة تصنيف قوي الثورة ما بين أنها “قوي الردة” و اخري “قوي هبوط ناعم” متواطئة، و اخري “قوي خائنة” و اخري قوي “ثورية طاهرة” من اي دنس سياسي. من المؤكد ان هذا الموقف المتشدد في توزيع “الصكوك الثورية” يضيق و يقلص من القاعدة الجماهيرية للثورة ، ويقوض النهج المشترك في تفسير اساسيات الثورة و شعارها في “الحرية ، السلام ، العدالة”. حالة التشرزم هذه لا يمكن تجاوزها الا عبر الحوار و هو ما يجعل عملية الحوار “شر” تبيح امامها المحظورات.

الملاحظة السادسة:

“صراع الاجيال كظاهرة مسكوت عنها”.
ينعكس الاختلافات البينية الحادة في الفجوة التي أحدثتها ظاهرة “صراع الأجيال” بين الجيل الجديد و بين “الجيل التسعيني” المترهل و هو خلاف يسد فرص التفاعل البناء مع شباب “لجان المقاومة” و بين الأحزاب السياسية. قطعا لا سبيل لتضييق هذه الفجوة الا بالحوار.

الملاحظة السابعة:

“الخلل المفاهيمي لطبيعة الفترة الانتقالية و في ترتيب تسلسل برنامجها و وضع العربة امام الحصان”.
لا يستطيع أي سوداني أن ينكر حقيقة أن اي من القضايا الجوهرية تفتقر الي رؤية قومية مشتركة (سواء حول تلك القضايا ذات السمة الاستراتيجية (الهوية ، نظام الحكم ، وتقاسم السلطة ، وتوزيع الثروة … إلخ أو تلك ذات الصبغة المرحلية مثل تحقيق العدالة ، الترتيبات الأمنية ، والتعداد السكاني ، الانتخابات ، وشمولية الإدارة الانتقالية .. إلخ). هذه القضايا كلها مجمدة و تنتظر الفحص الدقيق بالارادة الجمعية من قبل جميع القوى السياسية و هذا يتطلب الي الحوار.

هذه الاختلافات هي التي ادت الي فشل الاطراف في القدرة علي تصميم خارطة طريق جيدة التنظيم للعملية الانتقالية و قد فشلت القوي السياسية في وضع الحصان أمام العربة و قد تجلي ذلك بشكل اوضح في فشل الاطراف علي تكوين البرلمان الانتقالي (حجر اساس المرحلة الانتقالية).

الملاحظة الثامنة:

الفشل في التعريف الدقيق للقضايا الجوهرية و انعدام الرؤية القومية حولها.
دعنا ننظر الي حجم الخلل و الاهمال المطبق و درجة اللامبالاة التي تعاني منها القوي السياسية من خلال القضايا الجوهرية الاتية.

ما زال الجدل يدور حول قضية الهوية و تتباين الآراء حتى داخل التنظيم الواحد او تتعارض داخل الجبهة الواحدة ناهيك عن الرؤية القومية و كذا الامر فيما يلي موضوع نظام الحكم. هل ما يريده السودانيون هو النظام الامركزي الفيدرالي أم الحكم الذاتي أم الكونفدرالية ؟ هل الانسب هو النظام الرئاسي أو البرلماني.

خذ ايضا قضية حساسة كموضوع الترتيبات الأمنية لتري العجب في الاختلاف و كيف انها تفتقر الي رؤية أو فهم مشترك. تختلف وجهات النظر التي تتبناها.

بينما ان القوى السياسية (أحزابا أو تنظيمات مجتمع مدني) لم تبدي اي اهتمام او رغبة في شان الموضوع (و كانها لا تعنيهم) ، ظلت آراء “القوي المسلحة ” (الجيش و الحركات) حول الموضوع هي الأخرى تتباين و تتناقض. بالنسبة للحركات المسلحة فان قضية دمج القوات هي مسألة “وجودية” مربوطة مع مسألة “منع الإبادة الجماعية” بينما المسالة عند “الجيش” هي مجرد “استيعاب صوري” لمقاتلي الحركات في صفوف الجيش!

كذا ايضا تتجلي درجة اللامبالاة و غياب المنهجية أو رؤية قومية متماسكة حول قضية محورية اخري “العدالة” سواء ما يتعلق بجرائم الحرب او الجرائم ضد الإنسانية أو في مسالة العدالة الانتقالية).

حتي في قضية الانتخابات التي تشكل حجر أساس الانتقال و التغيير الحقيقي لا يوجد حولها سوى حديث تشوبه الفضفاضية (أو حتى التهور). الحديث عن موضوع “الانتخابات” من دون ربطها بمتطلباتها الاساسية (مثل الاستقرار ، والأمن ، والتعداد السكاني، وعودة اللاجئين والنازحين ، وتجديد تسجيل الناخبين ، وترسيم الدوائر الانتخابية، صياغة و اجازة قانون الانتخابات ، دعوة المراقبين الموثوق بهم … إلخ) ، الحديث عنه من دون ربطها بهذه القضايا هو حديث سابق لأوانه وقضية و حالة من “وضع العربة أمام الحصان”.

الاخفاق في الاتفاق حول القضايا ايضا ينسحب علي حالة السياسة الخارجية. الاستهتار في التعامل مع امر السياسة الخارجية لا يقل خطورة من اية معضلة اخري صياغة و اتباع سياسة خارجية فعالة للتعامل مع المجتمع الدولي تعني التماس دعمه أو الاستجابة لتحدياته في السلام والأمن الامن الدولي. بما أن المجتمع الدولي ليس “جماعة خيرية او اصحاب صدقة جارية” فهم يحتاج إلى شريك موثوق به وجدير بالثقة وقادر على تبادل المصالح. لا يوجد طرف سياسي يفكر برصانة في هذا الامر من منظور او منطلق إستراتيجي. العودة الي “محرقة المقاطعة الاقتصادية” أو العودة الي “كابوس” قائمة الارهاب سيظل احتمالا قائما في ظل غياب مخرج جماعي.

الملاحظة التاسعة:

“شرور” الشراكة في مقابل تطرف و رفس “اللاءات الثلاثة”.

التحدي الحقيقي الذي يواجه القوى السياسية هو كيفية التوفيق بين وجهات نظر و المواقف المتباينة أو المتعارضة خاصة بين “اللاءات الثلاثة” (لا مفاوضات و لا شراكة و لا إضفاء الشرعية على الوضع الراهن) و بين وجهات النظر التي يتبناها المؤيدون للشراكة مع المكون العسكري.
تتجلي درجة هذا الخلاف المفاهيمي و بعد المسافة في التصورات و التفسير الذي قدمه احد المعلقين حينما عبر بشكل لا لبس فيه قائلا:

(يا لها من تسوية ملعونه يتحدثون عنها. العالم يريد أن يفرضها على السودان. قوى “الهبوط الناعم” تريد التسوية. التسوية تعني الإبقاء على الدولة العميقة و استمرار الجيش في السيطرة على اقتصاد البلاد .. التسوية تعني ابقاء دارفور و مناطق الصراع الأخرى في دوامة لهيب الحرب ، التسوية تعني إنشاء قواعد عسكرية أجنبية في السودان. التسوية تعني العفو عن ما سلف من كل الجرائم والفظائع المرتكبة. التسوية تعني التآمر على تصفية لجان المقاومة و ابقاء الشراكة مع العسكر. التسوية تعني وداعا للثورة).

بالطبع ، إذا ما سُمح شيوع هذا الاحساس و السيطرة على الفهم العام في مخيلة الجماهير ، فإنه سوف يضر علي نحو لا يمكن إصلاحه بفكرة الحوار بأكملها و هو ما يضاعف جهد الاخلاص في اخراج فكرة الحوار علي نحو شامل و كامل و عميق من قبل القائمين بالامر ، كما انها مدعاة علي ضرورة انخراط النخبة و القوي السياسية في شرح الفكرة و مطلوباتها (اجرائيا و موضوعيا) بالعمل علي تنوير و تبصير الجماهير
و مساعدة الشباب الثوري على الاقتراب من شروط الواقع العيني للمعطيات السياسية و في امكانية تحويل طاقاتهم النشطة إلى حوار مدني قوي و عميق.

ما يجب ان يستوعبه و يستصحبه السودانيون في تقديرهم للواقع هو أن الترتيبات الانتقالية بطبيعتها هي حالة “شراكة” و يصدق هذا بشكل خاص في ظل الظروف التي يخرج فيها السودان من أنقاض الحروب و أنقاض الديكتاتورية. السياسة هي فن الواقع و الحكمة التقليدية هي ان ( “الضرورات تبيح المحظورات” ). الحوار القوي و الشفاف هو التحدي الذي يواجه القوى السياسية و لذلك فان ما لا تنفع اطلاقا في التعاطي مع هذا الواقع المعقد هو سياسة القفز في الظلام او محاولات فرض الامر الواقع او اصابة اهداف ضد الاخر. ما يجب ان يستوعبه القوي الحريصة علي الانتقال و التغيير هو ان ما يجري امامنا ليست بمباراة لكرة القدم و انما محاولة سياسية للخروج من وضع مأزوم منذ الميلاد في الاول من يناير 1956.

الملاحظة العاشرة:

المفقود هو معالجة العلاقة بين المدنيين و العسكر في الواقع ان إشكالية الانقلابات العسكرية (أو التدخل العسكري في السياسة) و وسائل و في طرائق منعها ظلت تشكل من القضايا السياسية المدنية (قبل أن تصبح مشكلة عسكرية). هذا هو السبب في أن السياسيين والمؤسسات السياسية في جميع أنحاء العالم قد ابتدعوا ما يسمى “العلاقات العسكرية / المدنية”

و خلافا لما يجري من استهتار في التعاطي السياسي السوداني فان المهتمين بشأن هذا الموضوع ينخرطون في تداول و مناقشة هذه الاشكالية لايجاد حلول ناجعة و طرق و وسائل وقائية مستدامة. هذه هي الحلقة المفقودة في الخطاب السياسي السوداني و حتي له يكون شعار “عودة العسكر الي الثكنات” شعار فارغ المضمون فانه يجب ان يكون مثل هذه القضية في صلب “الحوار القومي”.

الملاحظة الحادي عشر:

تصاعد “خطاب الكراهية و نبرة العنصرية”.

هناك تصاعد دراماتيكي غير مسبوق في خطاب الكراهية يشوبه مضمون عنصري. ما يثير الانتباه و القلق هو أن هذا الخطاب تداوله حتي الذين يتبؤون مواقع المسؤولية. كانت التصريحات العدوانية العنصرية التي لا وجهت ضد الاعلامي و مدير التلفزيون السوداني السابق الاستاذ لقمان أحمد تشكل شهادة دامغة. و ما يبعث الي القلق حقا هو ان هذا التهريج و السفاهة تمر دون رادع قانوني او نقد أو تحذير من قبل النخب السياسية أو المسؤولين الرسميين علي حد سواء.
كما ان هذا التصاعد في خطاب الكراهية ايضا يوضح كيف أن الأطراف متباعدة ليست فقط في المجال السياسي و لكن ايضا علي مستوي النفسيات.

الملاحظة الثانية عشر:

تعدد الوسطاء و المسهلين هي حالة صحية تعكس درجة اهتمام المجتمع الدولي و هو امر ينبغي على السودانيين يُنظروا اليه بايجابية. فمزيج “الترويكا” الدولية ( بعثة الامم المتحدة و الاتحاد الأفريقي و الايقاد) يمكن أن يعزز القدرة والثقة الجماعية ونفوذ آلية الوساطة والمساعدة الدولية.

الملاحظة الثالث عشر:

استقالة رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك: خطأ تتحمله القوي السياسية مجتمعة و فقد يصعب تعويضه.

لم تكون الملامح العامة لصورة الاوضاع الراهنة الا بالنظر إلى المناخ السياسي الذي كان يخوض في ظله رئيس الوزراء معاركه السياسية. جميع القوى السياسية قد مارست ضغوطا سياسية (خاصة الكوابح و القيود السياسية التي وضعتها الحاضنة ، قوى الحرية والتغيير فيما يلي صياغة سياساته. بينما ان الاشارة الي الحاضنة السياسية مهمة لانها صاحبة الرصة و المنصة الا ان كل القوي (عسكرا و مدنيين) قد أخطأت التقدير و بالتالي تتحمل اسوة خسارة فقد رئيس الوزراء. ان تباطؤ او تقاعس الاطراف في تقديم الدعم و السند و التعاون هو الدافع الرئيسي لاستقالته.
بالرغم من أن عددًا من عناصر قليلي الخبرة قد تسللوا وصعدوا إلى مفاصل إدارة الحكومة و خلقوا ثغرات و ثقوب ساهمت في اضعاف البنية الفوقية لجهاز ادارة الدولة فضلا الي الشقوق التي اصابت القاعدة الجماهيرية المساندة و الداعمة لعملية التغيير كان رئيس الوزراء على خلاف مع فصائل “الحرية والتغيير” منذ البداية و تحديدا في مسألة الشراكة مع المكون العسكر و في التوجهات الاقتصادية الخاضعة لبرنامج صندوق النقد الدولي، الا ان “العائق الاكبر” قد جاء في “المصادفة” الشاذة التي جمعت بين معارضة لجان المقاومة ضد سياساته مع المعارضة التي تشنها عناصر “الدولة العميقة” و هي مصادفة حولت ميزان الصراع لصالح قوى الثورة المضادة.

نظل نكرر أن الدكتور حمدوك كان قيمة حقيقية كرمز للإدارة الانتقالية لانه كان يتمتع بالصبر والتجارب التكنوقراطية و قناعاته لقيمة الديمقراطية و ادراكه الشامل للواقع الاجتماعي والسياسي في طول السودان و عرضه و فوق هذا و ذاك فهو يعرف أهمية “الحوار” مع كل الفسيفساء السوداني ذات المصلحة في التغيير و لو سُمح له بالاستمرار، كان من الارجح قد استطاع في حل مشكلتين (او قل عقدتين سياسيتين ظلتا تقلقان مضاجع المرحلة الانتقالية) تتمثلان في قدرته علي انتشال السودان من قبضة الحصار الاقتصادي و ربطه بالمنظومة المالية الدولية (بما فيها اعفاء الديون) و في قدرته علي مسح اسم السودان من القائمة السوداء للدول الراعية للارهاب الدولي.

الملاحظة الرابع عشر:

سطوة العقلية القديمة و سياسة دفن الرؤوس في الرمال. بعد حروب الابادة الجماعية و انفصال جنوب السودان و انفجار الثورات الشعبية العظيمة (اكتوبر و ابريل و ديسمبر) و التغييرات الهيكلية التي صاحبت المجتمع السودان و التطورات الجيوسياسية المتسارعة المحيطة بالاقليم المجاور و في المجتمع الدولي ، ظلت النخبة السياسية السودانية (عسكرا و مدنيين) و انتلجنسيتها فريسة للعقلية القديمة و عاجزة عن استحداث او ابتداع “فورمولا” تناسب مواكبة هذه الديناميكيات و لكنها ظلت تنظر الي الاوضاع بذات المفاهيم القديمة و تستخدم ذات الاساليب البالية في مواجهة الحراك الجماهيري العارم.

● أسئلة

1. ان الملاحظات المذكورة أعلاها تفرض (بصورة تلقائية) مجموعة من الأسئلة الأساسية التي تواجه القوى السياسية (خاصة الأحزاب التقليدية). هنا نكتفي بأيراد سؤالين محورين اولها:

ما هي طبيعة الانتقال السياسي التي فرضتها ثورة ديسمبر 2018. هل هو انتقال من حالة “الديكتاتورية إلى الديمقراطية” أم أنها حالة انتقال من “الحرب إلى السلام” أم هي حالة مزدوجة من كلتا الحالتين (انتقال من الدكتاتورية و من الحرب في ان واحد الي الديمقراطية و السلام) على حد سواء؟
بالطبع ينسحب هذا السؤال أيضًا على حالة ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985.

الشاهد في الامر أن القوي السياسية برمتها قد تجنبت (عمدًا) إثارة هذا السؤال المحوري (و بالطريقة التي ينبغي أن تكون) و السبب في ذلك هو أن هذه القوي تخشي من التداعيات السياسية التي قد تترتب من الإجابات علي هذا السؤال. بالتاكيد ان أن الإجابة واضحة و هي حالة انتقال من “الديكتاتورية و الحروب” إلى “الديمقراطية والسلام” على حد سواء. القوى السياسية تجنبت هذا السؤال لما يبطنه من اجابة تنطوي على التزامات نحو السلام (سواء في صعوبات تحقيقه او بنائه او المحافظة عليه) و الحفاظ علي الديمقراطية و الحريات في حزمة سياسية متناسقة. 

التجربة اثبتت ان القوى السياسية السودانية دائمًا تفضل الخيارات السهلة لذلك فقد التزموا الصمت حيال قضية السلام سواء بعد أكتوبر 1964 أو أبريل (١٩٨٥) و هم يكررون الآن بعد ديسمبر 2018.هذا المواقف الجبان المتمثل في تجنب “الصعوبات” خاصة في موضوع السلام هي التي تسببت في فشل ثورة أكتوبر 1964 وكذلك في أبريل 1985. ان التهرب من مواجهة هذا السؤال الجوهري هو ما يديم الصراع السوداني و عليه إذا أراد السودانيون تحقيق أي تغيير ديمقراطي ناجح ، فإنهم مضطرون لتحمل “وطأة” الإجابة على هذا السؤال والعمل الجاد لصياغة “فورمولا” متناسقة و قادرة على الجمع بين تحقيق السلام و بناءه و الحفاظ على الديمقراطية و تأسيس الحرات في آن واحد .

2. قضية محورية أخرى تكمن في قلب الأزمة السياسية السودانية و لا ينبغي تركها على مستوى الملاحظة و لكنها تحتاج إلى اثارة الأسئلة حولها لان القوي السياسية (المدنية) ظلت تتهرب من الاهتمام بها و هي مسألة الترتيبات الأمنية و السؤال الذي يثار حوله هو:

لماذا تتهرب او لماذا تتحاشي القوي المدنية من موضوع الترتيبات الامنية (إعادة هيكلة مؤسسات القطاع الأمني) ؟ هل لأن هذه القوى تفتقر إلى القدرة على انتاج افكار و رؤي حول معالجة هذه القضية بكفاءة أم لأنها تفتقد الرغبة والاهتمام معا ام انها تتخوف من تناول هذا الامر الحيوي ؟
هذا السؤال مهم لأن موضوع الترتيبات الأمنية هو من القضايا الجوهرية ذات الطابع السياسي قبل ان تكون موضوعا “عسكريا” و لأنه مرتبط بالعنف ضد المدنيين في المقام الأول و كذلك باستقرار البلد بأكمله.

في اعتقادي أن الأسئلة التي أثرناها أعلاه (من ضمن اخريات) تفترض ضرورة دفع السودانيين في تبني فكرة الحوار القومي لايجاد رؤية قومية حول القضايا المحورية و طرائق احداث الاختراق و كسر الجمود السياسي و الفكري التي لازمت السياسة السودانية طوال العقود.

● مقترحات

بناءا علي ما ابديناها من ملاحظات و ما طرحناها من اسئلة اعلاها نود اسداء ما نراه مفيدا من مقترحات علها تساعد “الوساطة”. وتتمثل في
:

اولا: إذا أريد “للحوار” أن تكون عملية ناجحة، لابد على الميسرين (من وسطاء و مسهلين و مراقبين) الاصرار علي تفعيل الحوار في بيئة مواتية (وقف العنف و القتل فورا و من دون اي شرط) و اطلاق سراح السجناء السياسيين و وقف الأعمال العدائية و تجنب التوتر.
ثانيا: لكي تكون العملية جذابة يجب أن تكون شاملة (من حيث مشاركة الاطراف ذات المصلحة في التغيير) و كذلك كاملة (من حيث القضايا القومية المطروحة).

ثالثا: لصياغة عملية حوار ذات مغزى ، يجب علي الوساطة ان تاخذ في الاعتبار معالجة مسألة “عدم الثقة” بين الأطراف السودانية و بين الأطراف والوساطة على حد سواء. ينبغي العمل بدأب لتخفيف هذا الخطر المعيق من خلال تقديم “جرعات” قوية من تدابير بناء الثقة على جميع مستويات العملية (الإجراءات الموضوعية و في ميكانيزمات تنفيذ المخرجات).

ثالثا: يجب أن تقوم عملية الحوار علي مبدأ الشفافية كمعيار (وجوب التواصل مع الأطراف باستمرار مع إجراء مشاورات منتظمة و الاستماع الي وجهات النظر).

رابعا: علي الوساطة تجنب الاستعجال و السرعة المضرة او المخلة لانها لا تناسب السياق السياسي السودانى المعقد. يجب أن تكون العملية صبورة (حتي و لو كانت مؤلمة). عملية تعمل وفق منهجية “من الأسفل إلى الأعلى” و ليست “من الأعلى إلى الأسفل”. يجب ان تكون عملية صعود الي المستوى القومي و ليست عملية “فوقية”. يجب أن تكون “الولايات” او “الاقاليم” هي وحدات التمثيل و اصحاب المصلحة الحقيقية.

ان وضع الاسس المتينة للتحول الجزري لواقع السودان المعقد لا تناسب معها السرعة المخلة. فالعملية يجب ان تكون علي نهج يقوم علي بطئ مؤكد.
فالحال كما لاحظ أحد الخبراء يشبه عملية “تحويل مسار حاملة طائرات”.
مثل تلك “العملية الجراحية” تحتاج الي استراتيجية جديدة. استراتيجية التفكير خارج الصندوق التقليدي.

هنا من الضروري ان تتعاون الأطراف بمسؤولية مع الوساطة بما فيها الشروع لشرح و تبسيط الفكرة للجماهير باعتبار ان خيار الحوار هو الامثل و المنطقي و الأكثر فاعلية من حيث خلوها من المخاطر.

● الخاتمة

في ختام هذه النظرة العامة نخلص و نقول انه بالنظر إلى مأزق السودان المأزوم و بغض النظر عن حقيقة أن فكرة الحوار القومي قد تلطخت و تلوثت بسمعة سيئة (نتيجة التعسف في سوء استخدامها) ، نري ان الحوار “الشفاف” هو الخيار السياسي الانسب و الأكثر قابلية للتطبيق و اكثر خلوا من المخاطر والأكثر تقدمًا في تسخيرها للرؤية القومية والتوافق الوطني في تاطير القضايا الاستراتيجية. لذلك يجب الترحيب بها و نشرها على نطاق واسع لحشد الدعم الجماهيري حولها.

هذا ما سعينا اليه من خلال المناقشة. لأغراض تغليب المصلحة العامة و لاغراض تنبيه القوى السياسية بالمخاطر المحيطة و لمساعدة الوساطة ، فقد عملنا على مسح “بانوراما” المشهد السياسي من خلال بعض الملاحظات الرئيسية ، و من خلال بعض الأسئلة الملحة و من خلال بعض الاقتراحات ذات الصلة.

ذكرنا أن حالة الانتقال المضطرب الحالية ليست بظاهرة منعزلة او معزولة ولكنها استمرار لمتلازمة السودان المزمنة التي استصحبتها منذ الاستقلال من الفشل و من عدم الاستقرار.

ايضا لاحظنا أنه و نتيجة لتأثير متلازمة “انعدام الثقة” المستشرية، فإن القوى السياسية السودانية منقسمة إلى درجة أنها فشلت في الحفاظ على “رئيس وزراء للثورة” (الذي استقال أساسا بسبب الانقسامات الاميبية و عدم اتفاق داخل حاضنته السياسية). يستحيل تدارك هذه الانقسامات او إصلاحه إلا من قبل “طرف ثالث” (الوسيط).

كما لاحظنا أن ثورة ديسمبر قد قلبت الواقع السياسي السوداني “من الداخل إلى الخارج” و وضعت كل عناصر الواقع علي السطح و هي معطيات نوعية (لا سيما الأبعاد التي أحدثتها القوى المهمشة الناشئة والفجوة الناجمة عن “صراع الأجيال” و تصاعد خطاب الكراهية) و هي حالات لابد من وجوب الاعتراف بها باعتبارها تحديات جديدة (و ان حاولت القوي القديمة تحاشي مواجهتها عبر دفن الرؤوس في الرمال).

لاحظنا ايضا أن القوى السياسية قد فشلت (او تحاشت) في طرح السؤال المحوري عن طبيعة الانتقال: (سواء ان كانت من الدكتاتورية إلى الديمقراطية أو من الحرب إلى السلام أو من كلا الحالتين ، الديكتاتورية والحرب إلى السلام والديمقراطية).

ايضا اكدنا إن المرحلة الانتقالية هي بطبيعتها حالة “شراكة” بين القوى المختلفة (لا سيما في حالة وجود الحرب و ضرورات السلام كجزء من المعادلة السياسية) و تصبح الحوار و الشراكة “شر لا بد منه” و على السودانيين أن يتعاملوا معه بطريقة التفكير خارج الصندوق التقليدي.

لاحظنا أيضًا أن القوى السياسية تفتقر بشكل مزري الي رؤية قومية حول القضايا الأساسية (مثل مسألة الهوية ، نظام الحكم ، الترتيبات الأمنية ، العدالة ، والانتخابات ، والسياسة الخارجية ، الشراكة مقابل “اللاءات الثلاث” ، العلاقات المدنية العسكرية…الخ) و انها في حاجة ماسة الي بناء رؤية حولها و ان الحوار هي التي تتيح المنبر المناسب و التواصل و الانخراط الايجابي.

كلمة اخيرة نقول فيما أن للقوي السياسية السودانية لها حرية اختيار أي وسيلة تغيير يرونها مناسبا (سواء الطريقة التونسية او الليبية علي سبيل المثال) فمن المهم جدا أن يتذكروا و يضعوا في الاتتبار مقولة الراحل الدكتور جون قرنق الذي قال (بعد توقيعه على اتفاق السلام في 2005) أن “لن تكون السودان كما كانت”. الان و نحن في معمعان عملية التغيير ربما من الاوفق ان ننصح بالسير في الطريق الذي اتبعته جنوب إفريقيا (اي الحوار و المصالحة الوطنية). لم يكن السيد نيلسون مانديلا ضعيفًا حينما اختار طريق الحوار و لم يكن السيد دي كليرك ملاكا عندما قبل الحوار. بعد أكثر من مائة عام من النضال الدؤوب و الشاق في جنوب إفريقيا فقد اختار السيد مانديلا الحوار لتقليل أي تكاليف إضافية توقعها كما قرر السيد دي كليرك الحفاظ على مستقبل جماعته من ” البيض” حيث تفادوا مصير “زمبابوي” روبرت موقابي. كل ذلك بفضل “الافق البعيد” الذي كانوا يتمتعون به.

إذا تم التوسط من خلال “طرف ثالث” قوي مدفوعة بارادة سودانية قوية، يمكن أن يكون الحوار القومي هو الوسيلة الأنسب و الأضمن و الأكثر فعالية لإسكات المدافع و وقف إراقة الدماء ، وتقليل التكلفة و ضمان المشاركة الشاملة ، واستعادة السلام ، وتطوير و بلورة رؤية قومية مشتركة
و تخفيف غلواء و سطوة “انعدام الثقة” و كسب ثقة المجتمع الدولي و ضمان تنفيذ مخرجات ما يمكن ان يصل اليه من اتفاق علي نهج يخدم جميع قوي التغيير و الحفاظ على وحدة البلاد و استدامة الديمقراطية و صيانة الحريات و دولة المواطنة المتساوية.