بنك السودان المركزي- المصدر:سونا

تقرير: راديو دبنقا

سجل الجنيه السوداني خلال الأيام الثلاثة الماضية أدنى مستوياته أمام الدولار في أسواق تبادل العملات الأجنبية منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل الماضي. حيث وصل سعر شراء الدولار إلى 1080 جنيه وبلغ سعر البيع 1090 جنيه في السوق الموازية في مقابل 570 جنيه للشراء و 580 جنيه للبيع قبل اندلاع الحرب.
ووصل الفرق بين سعر تبادل الدولار في مقابل الجنيه السوداني في القنوات الرسمية إلى ما بين 200 إلى 300 جنيه للدولار الواحد ما يحرم المصارف من الحصول على أي حصة في سوق تبادل العملات الأجنبية التي يعتبر الدولار الأمريكي مرجعتيها بالإضافة للريال السعودي والدرهم الإماراتي.
ورغم تشديد البعض وخصوصا مسؤولي حكومة الأمر الواقع في بورتسودان على أن تدهور سعر الجنيه في مقابل الدولار ليس أمر جديدا وهو سمة لازمت الاقتصاد السوداني منذ سنوات السبعينات باستثناء فترة الطفرة النفطية في بداية الألفية الثانية، إلا أن الخبراء يجمعون على أن انخفاض سعر الجنيه السودانية بنسبة تصل إلى 100% في فترة 8 أشهر هو أمر غير مسبوق ما يؤكد أن التدهور الحالي مربوط بشكل مباشر بالحرب الدائرة حاليا.

فشل إجراءات المصرف المركزي

وأصدر بنك السودان في شهر أكتوبر الماضي حزمة من الإجراءات بهدف السيطرة على انفلات سعر الدولار شملت تخفيض سقف التحويلات عبر تطبيقات المصارف وخصوصا تطبيق بنكك التابع لبنك الخرطوم بهدف تقليص المبالغ المتداولة للمضاربة في أسعار العملات. وتوقفت الحكومة عن دفع مرتبات أعداد كبيرة من موظفي الخدمة المدنية ومؤسسات القطاع العام رغم ظروف الحرب وتحويلها لتمويل المجهود الحرب. لكن كل هذه الإجراءات لم تحقق اي نتائج إيجابية الأمر الذي يفسر التدهور الحالي في سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار الأمريكي. ويعاني بنك السودان من تراجع كبير في احتياطاته من العملات الأجنبية ما يضطره أيضا للسماح للمؤسسات الحكومية ورجال الأعمال بشراء احتياجاتهم من العملات الأجنبية من السوق الموازي.

تغطية تكاليف الحرب

في غياب أي تقديرات رسمية، تكلف الحرب طرفيها مبالغ طائلة تدفع كمرتبات وحوافز للمقاتلين والمستنفرين بالإضافة إلى توفير احتياجاتهم من الطعام والدواء والوقود والمهمات العسكرية. وإذا كان الدعم السريع يعتمد على التمويل الذاتي عبر المساعدات التي تأتيه من الخارج وما يتردد عن تهريب واسع للذهب وتسلم عائداته مباشرة دون المرور بالقنوات الرسمية، فإن القوات المسلحة تبدو مضطرة للجوء لشراء الدولار من السوق السوداء لتمويل شراء الأسلحة والذخائر والوقود بعد أن توقفت منظومة الصناعات الدفاعية عن العمل بشكل كامل وهي التي كانت توفر جزءا كبيرا من احتياجات الجيش من الذخيرة والمركبات العسكرية ما يضطر الجيش لاستيراد كل احتياجاته من الخارج الأمر الذي يرفع مستويات الطلب على الدولار ليس فقط داخل السودان ولكن أيضا في أسواق تبادل العملات في دولة الإمارات التي تمثل المنفذ المالي الرئيسي لكل المعاملات التجارية والمالية الخارجية للسودان.

تمويل استيراد النفط عن طريق القطاع الخاص

قبل اندلاع الحرب، قدر استهلاك السودان اليومي من مشتقات النفط بحوالي 150 ألف برميل، لكن في الوقت الراهن يصعب وضع تقديرات لما عليه حجم الاستهلاك. صحيح أن هناك انخفاضا كبيرا في استهلاك وقود تشغيل محطات الكهرباء والذي كان يمثل حوالي 17% من استهلاك النفط في السودان وذلك بسبب الدمار الذي تعرضت له المحطات وشبكات نقل الكهرباء وخروج ملايين من السودانيين من المدن الكبرى وفي مقدمتها الخرطوم. كما أن هناك انخفاض كبير في استهلاك البنزين والمرتبط بمحدودية استخدام السيارات الخاصة في فترة الحرب. بالمقابل فإن هناك زيادة كبيرة في استخدام طرفي الحرب للوقود وخصوصا الديزل في تشغيل المعدات والمركبات العسكرية وكذلك المولدات الكهربائية. وإذا أخذنا في الاعتبار تعطل حقول انتاج النفط في السودان لفترات طويلة بسبب العمليات العسكرية وكذلك تقلص كميات خام جنوب السودان المنقول عبر خطوط الأنابيب والذي يصدر بالكامل حاليا بعد الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها مصفاة الجيلي وبعض محطات ضخ النفط الخام. يصبح اللجوء لاستيراد كل الاحتياجات من الخارج هو القاعدة مع العلم بأن القطاع الخاص يتولى تمويل استيراد الجزء الأعظم من احتياجات السودان من مشتقات النفط. وفي ظل عدم قدرة الحكومة في بورتسودان على توفير العملات الأجنبية الضرورية لتغطية الاستيراد وبالسعر الرسمي، يلجأ المستوردون للسوق الموازي لشراء احتياجاتهم من الدولار وبشرط تسليم المبالغ خارج السودان ما يعني زيادة التكلفة.

خروج حصيلة الصادرات من القنوات الرسمية

لم تعد صادرات السودان وحصيلتها من العملات الأجنبية تمر عبر القنوات المعتادة في فترة ما قبل الحرب. ويمكن ملاحظة ذلك في تراجع أنشطة التحميل في ميناء بورتسودان. فبعد توقف عجلة الإنتاج، تقلص حجم الصادرات السودانية وأصبحت الصادرات تتخذ طرقا مختلفة إلى خارج البلاد ومن بينها المعابر الحدودية البرية وكذلك عبر طرق التهريب لتفادي الرسوم والجمارك الباهظة التي تفرضها السلطات. ومن الواضح أن المصدرين يبقون على عائدات الصادرات التي يتحصلون عليها خارج السودان بالنظر للضبابية التي تسود المشهد الاقتصادي في البلاد وعدم قدرة النظام المصرفي على أداء مهامه بالكامل. كما يبقي آخرون على عائدات الصادر خارج السودان لتمويل عمليات الاستيراد وتفادي اللجوء لشراء العملات الأجنبية من السوق الموازي. ويحرم ذلك الاقتصاد السوداني من عائدات قدرت منذ اندلاع الحرب بحوالي 3 مليار دولار.

بيع العقارات والأصول وتحويل قيمتها للخارج

نتيجة لاستطالة أمد الحرب، يضطر كثير من السودانيين المنتمين للطبقة الوسطى وخصوصا الذين نزحوا إلى خارج مدن إقامتهم الأصلية أو الذين غادروا السودان نحو دول أخرى لبيع ممتلكاتهم العقارية وسياراتهم ومزارعهم من أجل تغطية تكاليف معيشتهم الباهظة داخل أو خارج السودان. وإذا كان من المنطقي أن يحول المقيمون خارج السودان هذه العائدات إلى عملات أجنبية للاستفادة منها في الخارج، لكن حتى من نزحوا إلى مناطق داخل السودان يضطرون لتحويل عائدات بيع العقارات والسيارات والمزارع إلى عملات أجنبية للمحافظة على قيمتها في ظل التدهور المستمر لقيمة الجنيه السوداني. ولوحظ في الشهور الماضية توسع سوق بيع العقارات والسيارات والمنقولات من على البعد وعن طريق وسطاء يقومون بتكملة الإجراءات عبر مكاتب المحاماة بسبب استحالة نقل الملكية عبر القنوات الرسمية. ادى ذلك إلى تراجع كبير في أسعار العقارات والسيارات والمنقولات وبنسبة يقدرها البعض بحوالي 40%.

نقل رجال الأعمال لأنشطتهم خارج السودان

فيما عدا الأخبار التي تتحدث عن اعتزام رجل الأعمال السوداني، معتز البرير، إقامة مجمع للصناعات الغذائية في سلطنة عمان، لم تتوفر حتى الآن معلومات مفصلة عن خطوات قام بها رجال أعمال أو خطط لنقل أنشطتهم خارج السودان. لكن لوحظ أن عددا كبيرا من الشركات المتوسطة والكبيرة وكذلك المصارف افتتحت مكاتب لها في مصر لتصبح مقرا لأنشطتهم ما يحرم السودان من عائدات هذه الأنشطة المالية وخصوصا العملات الأجنبية التي كانت تعود للاقتصاد السوداني. وانتشرت الاستثمارات السودانية الصغيرة في مجلات مثل المطاعم والبقالات التي تبيع المنتجات السودانية ومواد التجميل والمقاهي في مختلف مناطق تجمعات السودانيين خارج السودان في مصر ودول الخليج العربي وغيرها. وتتداول الآن أحاديث عن نية بعض رجال الأعمال تفكيك مصانعهم داخل السودان ونقلها إلى دول الجوار لاستئناف أنشطتهم من هناك. كل ذلك يمثل فاقدا كبيرا للاقتصاد السوداني ويعمق عجز الميزان التجاري الأمر الذي يساهم بدوره في تدهور سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية.

العملات المزورة

بعد اندلاع الحرب، عاد الحديث من جديد عن إغراق السوق السودانية بكميات كبيرة من الأوراق النقدية المزورة وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورا لأوراق مالية من فئة 500 جنيه وهي تحمل أرقام متسلسلة متطابقة أو أوراق تختلف فيها العلامات المميزة عن تلك الموجودة في الأوراق النقدية السودانية. وذهب البعض لاتهام قوات الدعم السريع التي تسيطر على مطابع العملة بالوقوف خلف عمليات طباعة الأوراق المزورة. يقود زيادة المعروض من النقود دون شك لزيادة معدلات التضخم، كما يؤدي لتوفير سيولة كبيرة تحول إلى عملات أجنبية بجانب حرمان البلاد من عائدات الصادر بالعملات الأجنبية نتيجة لاستخدام العملة السودانية المزورة في شراء المنتجات السودانية وخصوصا المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية المتوجهة لأسواق دول الجوار.

الأزمة الدبلوماسية مع دولة الإمارات

يتوقع المراقبون أن تلقي الأزمة الدبلوماسية مع دولة الإمارات بظلالها على الاقتصاد السوداني وعلى سعر العملة المحلية خصوصا إذا قررت أبو ظبي اتخاذ إجراءات عقابية ضد السودان. ومعلوم أن نسبة كبيرة من العمليات المصرفية السودانية المتعلقة بالصادرات والواردات تتم عن طريق المصارف الإماراتية، وتستخدم الحكومة السودانية وكذلك القوات المسلحة وقوات الدعم السريع النظام المصرفي الإماراتي لإيداع جزء من أموالها في الخارج وكذلك لإتمام صفقاتها مع العالم الخارجي. ويحتفظ كثير من قيادات النظام السابق المتعاونين مع حكومة الأمر الواقع بثرواتهم في وممتلكات عقارية وتجارية في دولة الإمارات. الأزمة الدبلوماسية الحالية بين السودان والإمارات والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي على المسؤولين في طرفي النزاع قد تدفع القيادة الإماراتية لتقليص الأنشطة التجارية والاقتصادية السودانية على أراضيها وعبر نظامها المصرفي مما سيقلل كثيرا من كميات العملات الأجنبية المتاحة لاستخدام الاقتصاد السوداني.

لا خيار غير وقف الحرب

إيقاف تدهور سعر العملة السودانية في مقابل العملات الأجنبية وفي مقدمتها الدولار يمر عبر إبطال الأسباب التي تقود لهذا التدهور. صحيح أن هناك أسباب هيكلية، ولكن هناك عوامل آنية لن يتوقف التدهور بجون معالجتها. كل هذه العوامل تلتقي في قاعدة واحدة هي الحرب الدائرة منذ 15 أبريل الماضي. لذلك لن يكون هناك توقف لتدهور سعر العملة السودانية وبداية للإصلاح قبل أن تتوقف هذه الحرب اللعينة.