كيف تغلب عسكر السودان على الثورة

ليس من المفاجئ ان الاحتفالات بالدستور الانتقالي الجديد للسودان -توقيع الوثيقة الدستورية-يوم الأحد الماضي أتت كاحتفالات مكتومة بعض الشيء في شوارع الخرطوم.

التوقيع على الوثيقة الدستورية بالاحرف الاولي بين المجلس العسكري وقوى اعلان الحرية والتغيير(ارشيف)

 

 

بقلم : جستين لينش – فورين بوليسي

ليس من المفاجئ ان الاحتفالات بالدستور الانتقالي الجديد للسودان -توقيع الوثيقة الدستورية-يوم الأحد الماضي أتت كاحتفالات مكتومة بعض الشيء في شوارع الخرطوم.

يقول عدد من قادة التظاهرات في السودان ان تغلب العسكر عليهم كان واضحاً بالنسبة لهم منذ البدء، وان الحادي عشر من ابريل كان يوم هزيمة الثورة بواسطة المؤسسة العسكرية، وهو ذات اليوم الذي تم فيه خلع ديكتاتور السودان عمر البشير بعد فترة حكم طويلة وبعد ان واجه تظاهرات شعبية ضخمة. بينما خرج أكثر من مليون متظاهرة ومتظاهر في شوارع الخرطوم المغبرة احتفالا بزوال البشير، كان عسكر السودان ينفذون مخططهم الذي بدأ منذ أكثر من عام.

قام جهاز الأمن السوداني تحت قيادة مديره السابق صلاح قوش بخلع البشير ومن ثم عمل سريع على التواصل مع قيادات معارضة تربطها علاقات ودية مع المؤسسة الأمنية، لمناقشة تفاصيل الفترة الانتقالية معهم. من خلال التحكم بمسار المحادثات تمكن العسكر من الحفاظ على مواقعهم – وحتى الان الحفاظ على هيمنتهم ايضاً.

استخدم المجلس العسكري تكتيكات تمثلت في المجازر الخداع والدبلوماسية بينما تقربوا للقيادات المدنية في الاربعة أشهر التي تلت ذلك. الآن تم تحديد تاريخ مراسم التوقيع الرسمي على الاتفاقية بين الطرفين في 17 أغسطس على ان تباشر الحكومة أعمالها في 1 سبتمبر، بينما يقول منظمي احتجاجات الثورة ان الاتفاق لا يرقى لتطلعاتهم.

ينص الاتفاق على تكوين مجلس سيادة عسكري مدني مشترك لقيادة البلاد لأكثر من 3 سنوات حتى موعد الانتخابات في 2022. يمتلك المكون العسكري حق الفيتو على القرارات في أعلى سلطة في البلاد وتبقى مكونات المجلس العسكري خارج اشراف المدنيين.

( لم نحقق ما نناضل من أجله بعد ) تقول سارة عبد الجليل، المتحدثة باسم تجمع المهنيين السودانيين المنظم للاحتجاجات، ( سقط عمر البشير، لكن نظامه ما زال موجوداً. الهدف رقم 1 لم يتحقق. كذلك لم يتحقق الهدف رقم 2. الا وهو الحكومة المدنية. نحن نواجه انحرافا عن مسارنا)

بحسب تصريحات الكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي، فأن استيلاء العسكر على السلطة في ابريل كان عبارة عن استعادة لسياسات حقبة البشير، ولكن بمدير أعمال جديد متمثلاً في محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي.
ورغم تحصل السودان على مساعدات مالية من السعودية والإمارات الا ان البلاد تحت قيادة حميدتي، أقل استقراراً مما كانت عليه تحت حكم البشير، وفقاً لـ دي وال.

ليس من المستغرب ان يتمكن عسكر السودان من الصمود أمام الثورة. ففي سعيه لوأد الحراك الديمقراطي في السودان، أتبع المجلس العسكري الأساليب المعهودة والمجربة من قبل الجيوش المتعنتة حول العالم في مواجهة وهزيمة الثورات.

اتضح شكل السلطة الحاكمة الجديدة في السودان منذ مراسم التوقيع. قائد قوات الدعم السريع، المتهمة بارتكاب عدد هائل من الجرائم والفظائع، حميدتي، لمّح لمدى التزامه بالقوانين عندما حمل الوثيقة النهائية. (كان حميدتي يحمل الوثيقة رأساً على عقب). في الحقيقة، بدأت حكاية حفاظ عسكر السودان على السلطة منذ حوالي عام ونصف، كان قوش حينها يفكر في تغيير السلطة.

قبل إعادة تعيين قوش مديراً لجهاز أمن البشير في عام 2018، كان أخبر أحد قادة المعارضة ان هناك حوجه لمن (يرث) تركة رئيسه، وكأنما كان الديكتاتور على وشك الموت ويجب تحديد من ستؤول اليه ممتلكاته. بعد أن بدأت رحلة الحراك الديمقراطي بالبلاد في ديسمبر 2018، التقى قوش بقيادات المعارضة اثناء احتجازهم بمعتقلاته كما نشرت رويترز مسبقاً. كان من ضمن القيادات عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، والقيادي بتحالف احزاب المعارضة والذي أكد أن قوش (كان يحاول ان يسوق نفسه كبديل للبشير) يقول الدقير

انضم الملايين لاحتجاجات استمرت عدة أشهر لإسقاط البشير، لكن الانقلاب العسكري كان هو ما حسم الأمر في النهاية. رغم عدم وجود رواية واضحة عن تفاصيل الانقلاب، الا ان قوش أكد لـ فورين بوليسي مشاركته فيه.
يقول قوش ان الامارات دعمت الانقلاب لكنها لم تكن القوة المحركة له. ويؤكد تصريحات قوش عدد من السياسيين المقربين من الفصيل العسكري والمدني، وفقاً لما أبلغهم به حميدتي. بعد فترة قليلة وافق المدنيون على التفاوض مع المجلس العسكري حول تفاصيل الانتقال. يقول الدقير: (لقد طلبنا منهم التفاوض معنا للاتفاق على تفاصيل تسليم السلطة).

 

الحفاظ على نفوذ العسكر

 

يقول كاميرون هادسون من اتلنتك كاونسل (من المبرر جدا أن نشك في أن الأطراف التي واصلت عمليات القتل حتى توقيع الاتفاقية بالأحرف الأولى ستغير أساليبها بين ليلة وضحاها نتيجة وضع حبر على ورق).

في اليوم التالي لسقوط البشير استقال قوش من منصبه كمدير لجهاز الأمن (لو بقيت في منصبي سيرى الجميع الأمر وكأن نظام البشير لم يتغير) صرح قوش لـ فورين بوليسي.

وفقاً لتصريحاتهم، لم يكن قادة الحراك الديمقراطي مستعدين للتفاوض مع المجلس العسكري. تتكون قوى إعلان الحرية والتغيير الممثلة للمتظاهرين من تحالف عدد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
لم يكن قادة الحراك يمتلكون استراتيجية تفاوضية ونادرا ما استطاعوا الوصول الى قرار موحد. أخبرنا أحد المفاوضين ان المدنيين بدأوا التفاوض من الحد الأدنى وليس من السقف الأعلى للمطالب.
كانت الثقة في التحالف ضعيفة. اتهم ذات المفاوض مفاوضاً آخر بالعمل سراً مع العسكر وامدادهم بمعلومات حساسة عن تكتيكاتهم الداخلية. (التحدي الذي واجه المتظاهرين، كان التحول من حركة افقية نسبيا الى قوة حاكمة) يقول هدسون.

في هذه الأثناء قام المجلس العسكري ببساطة بالمماطلة في التفاوض والضغط للسيطرة على الحكومة الانتقالية. وجد المجلس العسكري السوداني الدعم في استراتيجيات الأطراف الدولية. فقد كانوا يريدون الوصول الى مساومة بين العسكر وقادة الحراك عوضاً عن تسليم السلطة للمدنيين بالكامل.

لخص ستيفن كوتسيس المسؤول الأمريكي رفيع المستوى بالخرطوم استراتيجية الحكومة الأمريكية تجاه السودان، في اجتماع جمعه بمسؤولين وخبراء من اتلنتك كاونسل بواشنطن نهاية شهر مايو قائلا ان امريكا تدعم اتجاه السعودية والامارات ومصر، وفقاً لما أكده 6 من حضور الاجتماع. بعد سقوط البشير دعمت الدول الثلاث المجلس العسكري.

ومنحت السعودية والإمارات السودان 3 بليون دولار. تقوم الدولتان بدفع مقابل مادي لحميدتي على مشاركه جنوده في حرب اليمن. توفر مصر الغطاء الديبلوماسي للمجلس العسكري في الاتحاد الأفريقي.

سأل كوتسيس حضور الاجتماع إذا كانت مصالح امريكا تتفق مع اتجاهات هذه الدول الثلاث. فقال جوني كارسون مساعد وزارة الخارجية للشؤون الافريقية السابق رداً على كوتسيس (الديمقراطية، حقوق الأنسان، الحكم الرشيد، وسيادة حكم القانون). رفضت وزارة الخارجية الأمريكية بشكل متكرر طلبنا لمقابلة بشأن هذا المقال.

مكن المجلس العسكري سلطته في 3 يونيو حين هاجمت قواته مقر الاعتصام وقتلت أكثر من 100 وفقاً لتقارير الأطباء. كان معظم الجنود من قوات الدعم السريع التابعة لحميدتي. (ينكر حميدتي اصداره لأوامر فض الاعتصام). (في الثالث من يونيو تغير كل شيء) يقول أحمد الجيلي، المحامي ومستشار المدنيين في الوثيقة الدستورية. (حس التفاؤل الساذج الذي تعاملنا به مع الوضع انتهى بالمشاهد البشعة التي رأيناها)

رغم ذلك، حتى بعد المجزرة، استمر المجتمع الدولي في الضغط نحو تسوية بين العسكر والمدنيين. (يضغطون علينا لنكون أكثر مرونة في تقبل المزيد من المساومات رغم أن المجلس العسكري امتداد لنظام البشير) يقول محمد يوسف القيادي بتجمع المهنيين السودانيين. في اليوم السابق لمقابلتنا لمحمد يوسف كان قد التقى بالمبعوث الأمريكي الجديد الى السودان، دونالد بوث، حيث استنتج من لقاءه معه ان اولويات امريكا هي الاستقرار ومحاربة الإرهاب. (ليسو مفيدين جداً) يقول يوسف.

حتى عقب مجزرة 3 يونيو عملت واشنطن، لندن، الرياض وابوظبي على الضغط على الطرفين للوصول الى حكومة انتقالية. ضغطت السعودية والأمارات على حميدتي لتوقيع الاتفاق، حيث كانوا يعتبرون مسؤولين جزئياً عن المجزرة كداعمين اساسيين لحميدتي، كما صرح ديبلوماسي غربي لـ فورين بوليسي.

كان للمتظاهرين اراء مختلفة حول اتفاق الحكومة الانتقالية مع العسكر. دعم قادة تجمع المهنيين الاتفاق وكان مبررهم ان من الأفضل العمل على التغيير كجزء من الحكومة.

الاتفاق (لا يحقق كل اهداف الثورة السودانية، ولكنه يحقق مناخ يمكننا من تحقيقها) كما صرح أمجد فريد المتحدث باسم تجمع المهنيين السودانيين لـ فورين بوليسي في نهاية يوليو بعد الوصول الى الاتفاق السياسي. كما لخص أحد قادة التفاوض من الفصيل المدني الوضع قائلاً (هذا أفضل اتفاق يمكننا الوصول اليه)

الا ان قيادات اخرى ترى ان المفاوضين كانوا متلهفين للوصول الى السلطة السياسية وتم ضغطهم من المجتمع الدولي للمساومة مع المجلس العسكري. تخوفهم من العمل مع العسكر كان يُعزز مع تواصل قتل المتظاهرين ومن ضمنهم 4 اطفال تم قتلهم قبل الاتفاق مباشرةً. ممثل تجمع المهنيين السودانيين (لا يستمع الى فريقه ولهذا فهم منقطعون عن الشارع) كما صرح أحد قادة التجمع لـ فورين بوليسي.

اثناء التفاوض النهائي على الوثيقة الدستورية، صرح محامين من منظمات المجتمع المدني لـ فورين بوليسي انهم متفاجئون من عدم رغبة قادة تحالف قوى الحرية والتغيير في تصحيح المواد التي تقوض الطبيعة المدنية للحكومة. ويشمل ذلك المواد المبهمة التي يستطيع العسكر استغلالها، السماح للعسكر برفض قرارات المجلس السيادي، والحصانة الممنوحة لأعضاء الحكومة.

(لا يوجد مبرر لرفضهم للبراهين المقنعة جداً والتي قدمت لهم) يقول الجيلي، المحامي ومستشار الفصيل المدني. (كان مبررهم اننا نحتاج للوصول للمرحلة الانتقالية الآن ويمكننا السيطرة على الضرر لاحقاً، كل ما نحتاجه الآن هو ان يتخلوا عن السلطة. هذا المنحى يحتوي على الكثير من المشاكل ولا يحقق سوى تأجيل الأزمات).