دَارْفُورْ : دُرُوسُ الانْتِفَاضَةِ والانْفِصَال!

ليلة الخامس على فجر السَّادس من أبريل 1985م حاول نظام النِّميري الآيل، يومها، للسُّقوط، أن يستلَّ، كما الحُواة، من جِرابه، آخر حيلة كانت تتشبَّث بها سلطته، في مواجهة شعب حمل عليه، تاريخئذٍ، بانتفاضة عارمة،

 

بقلم : كمال الجزولي

 

(1)

ليلة الخامس على فجر السَّادس من أبريل 1985م حاول نظام النِّميري الآيل، يومها، للسُّقوط، أن يستلَّ، كما الحُواة، من جِرابه، آخر حيلة كانت تتشبَّث بها سلطته، في مواجهة شعب حمل عليه، تاريخئذٍ، بانتفاضة عارمة، فلجأ للاستغاثة، آخر الليل، بأمريكا، لترسل قوَّات انتشارها السَّريع من قواعدها المتوسِّطيَّة أو الشَّرقأفريقيَّة كي تسيطر على الشَّارع، متحجِّجاً بأن ثمَّة غزواً ليبيَّاً للبلاد سيستغل حالة الفوضى ليقع خلال السَّاعات القادمة! غير أن “الصَّديقة الرَّاعية الكبرى” فاجأت النِّظام بدحضها الاستخباراتي اليقيني لحُجَّته، وباعتذارها، من ثمَّ، عن عدم قدرتها، بل، وحسب ضابط اتِّصال الـ “سي آي إيه” بسفارتها بالخرطوم، عن عدم قدرة أيَّة قوَّة في الأرض على فعل أيِّ شئ إزاء المصير المحتوم، فالنهاية قد أزفت “game over”، أو كما قال!

انتصرت انتفاضة 1985م الشَّعبيَّة، إذن، لأن عوامل ذلك الانتصار كانت قد توفَّرت بدرجة معقولة، وفي مقدِّمتها، فضلاً عن انحياز القوَّات النِّظاميَّة لها، نهوض قواها السِّياسيَّة والمدنيَّة والعسكريَّة بمهمَّة تحشيد الشَّارع، لسنوات طوال، في اتِّجاه التَّغيير الرَّاديكالي، ومراكمة عناصر الانفجار الجَّماهيري بجدِّيَّة، وبكلِّ ما يقتضي ذلك من تضحية في مستوى القيادات قبل القواعد، وإلى ذلك اتِّفاقها، ولو في السَّاعة الخامسة والعشرين، بالتَّزامن مع الانفجار، على “ميثاق التَّجمُّع الحزبي والنِّقابي” الذي كفل “الحدَّ الأدنى” من وحدة الهدف القريب المتمثِّل في الإطاحة بأحد أعتى الأنظمة الشُّموليَّة، وقتها، في أفريقيا والشَّرق الأوسط، ومن ثمَّ استعادة الدِّيموقراطيَّة الضَّائعة.

على أن ذلك “الحدَّ الأدنى” كان، في الحقيقة، “أدنى” من أن يضمن لانتصار الانتفاضة استمراراً أو استقراراً. فالحراك الشَّعبي المسلح الذي كان مشتعلاً أصلاً، وقتها، في جنوب البلاد، والذي لطالما صوَّرته بروباغاندا نظام النِّميري كمحض نشاط عميل لدول أخرى، ولقوى أجنبيَّة، اعتُبر، في نظر “التَّجمُّع”، ملحقاً بالانتفاضة، تلقائيَّاً، بما يعني أن انتصارها هو انتصاره، ضربة لازب، ومن ثمَّ لم تعمل على اجتذابه، أو حتَّى التَّنسيق معه، حتَّى فوجئت بأنَّه يتَّهم السُّلطة التي كوَّنتها بأنها “مايو الثَّانية May Two”، فكان ذلك أوَّل الوهن الذي لازم تجربة الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة، حتَّى افترسها غول الثَّلاثين من يونيو 1989م، ثمَّ ما انفكَّ ذلك الوهن يتواصل حتَّى أفضى لانفصال الجَّنوب في 2011م!

(2)

دروس كثيرة وفَّرتها انتفاضة أبريل، لعلَّ أهمُّها ثلاثة شديدة التَّشابك حول “جدل الدَّاخل والخارج”، ورابعة تتمحور حول “جدل المركز والهامش”: أوَّل هذه الدُّروس أن من قبيل الوهم أن تتصوَّر أنظمة الدُّول الصغرى أن أيَّ حراك داخلي معارض لها هو محض صنيعة خارجيَّة؛ مثلما أن من قبيل الوهم، أيضاً، أن تعوِّل هذه الأنظمة على حماية القوى الخارجيَّة الكبرى لها، أوان الأزمات، مقابل أن تيسِّر لها تحقيق مصالحها في بلدانها بسلاسة. فالقوى الخارجيَّة قد تُقْدِم على ذلك، بالفعل، حالةَ كشف “ميزان القوَّة” عن ضعف أو تضعضع على جانب الحراك الشَّعبي المعارض لهذا النظام أو ذاك، لكنها، أيضاً، قد تعيد حساباتها، فتحجم عن التَّدخُّل، في ما لو لمست قوَّة في ذلك الحراك، أو قدَّرت أن تدخُّلها قد يضرُّ بمصالحها في المستقبل القريب، أو المتوسِّط، أو حتَّى البعيد. الدَّرس الثَّاني هو أنه لا يمكن لقوى المعارضة في الدُّول الصُّغرى إنجاز أيِّ من استراتيجيَّاتها، إنْ لم توازن بدقَّة بين قدرات العامل الذَّاتي وبين الدَّور الذي يمكن أن يلعبه العامل الخارجي، سلباً أو إيجاباً، فراحت تستهين بهذا “الدَّور”، من جهة، أو تُخضع نفسها له، من جهة أخرى! أمَّا الدَّرس الثَّالث فهو أن هذا العامل الخارجي يستحيل أن يكون حاسماً بالنِّسبة لقضايا الدَّاخل، في الدُّول الصُّغرى، إلا إذا ارتخت قبضة القوى الوطنيَّة في هذه الدُّول على هذه القضايا. وأمَّا الدَّرس الرَّابع فهو أن اهتمام المعارضة بقضايا المركز وحدها، متصوِّرة أن الاستجابة لقضايا الهامش ستتلو، بالضَّرورة، من تلقاء نفسها، لهوَ ضرب من استتباع الهامش للمركز subordination، وإنْ على نحو آخر!

(3)

ثمَّة، في الرَّاهن السُّوداني، ثلاثة حراكات هامش، في دارفور، وجنوب كردفان، والنِّيل الأزرق، ضمن المجابهة العامَّة بين النِّظام ومعارضيه. أكثر هذه الحراكات شبهاً بالحراك الجَّنوبي السَّابق، هو الحراك في دارفور، والذي ربَّما كان هو الأخطر على “وحدة السُّودان”، حسب ملاحظات البروفيسير ر. د. أوفاهي السَّديدة بعنوان: “هل لدارفـور مسـتقبل فـي السُّـودان؟”، والتي نشرتها “دوريَّة جامعة تفتس الأمريكية ـ منتـدى فليتشـر للشُّئون الدَّوليَّة The Fletcher Forum of World Affairs، ع/2006/30م”، وقام بترجمتها بدر الدِّين حامد الهاشمي بموقع “الرَّاكوبة” الأغر في 16 أغسطس 2014م، فنرجو مراجعتها في مظنتها لفرادتها وأهميَّتها. ذلك أن تاريخ دارفور مع “السُّودان الموحَّد” أقصر عمراً من تاريخ الجَّنوب معه، حيث كان الإقليم، أصلاً، دولة مستقلة، ولم يصبح جزءاً من السُّودان الحالي إلا بعد 1916م، ونضيف، أيضاً، أن دار مساليت لم تنضمَّ إليه إلا بعد نهاية الحرب العالميَّة الأولى، في حين أن اهتمام البريطانيين، أوَّل استعمارهم للسُّودان في 1898م، انصبَّ، بالأساس، على الاستمساك بالجَّنوب، كجزء من البلاد، لإعاقة وصول الفرنسيِّين إليه، مِمَّا أفضى إلى مواجهة عاصفة كادت تتحوَّل إلى صدام حربي خطر بين القوَّتين الاستعماريَّتين في فشودة.

وكنا كتبنا، مراراً، منبِّهين إلى بروز ظواهر التَّهديد، خلال السَّنوات الماضية، بالمطالبة باستخدام حقِّ تقرير المصير لدارفور، ومحذِّرين، تكراراً، من أن التَّباطؤ في علاج مشكلات الإقليم، وعدم إيلاء الاهتمام الكافي للتَّعجيل بتسوية قضاياه، قد يجعل من الواقع التَّاريخي لحداثة انضمامه إلى السُّودان عاملاً سالباً بالنِّسبة لإمكانيَّة استمراره جزءاً لا يتجزَّأ منه، مِمَّا يهيئ لإعادة إنتاج تجربة الجَّنوب المريرة بصورة أكثر سلاسة هذه المرَّة.

(4)

في قراره رقم 539، بتاريخ 25 أغسطس 2015م، حظيت دارفور بنصيب وافر من اهتمام مجلس السِّلم والأمن الأفريقي. وبثنائه المخصوص على الآلية الأفريقيَّة الرَّفيعة، وعلى أعضائها فرداً فرداً، بدا القرار كما لو كان عقاباً على الموقف السَّلبي غير المحسوب للحكومة وحزبها، حيث صدرا، أواسط أغسطس المنصرم، عن بؤس دبلوماسي محيِّر على أكثر من مستوى، بتقليلهما، علناً، من جهود الاتِّحاد الأفريقي، واستهانتهما بآليته الرَّفيعة، بل وبإعلانهما الاستغناء عن هذه الجُّهود، كونها جهوداً “خارجيَّة”، من زاوية نظرها، بما في ذلك، بطبيعة الحـال، تلك التي تنصـبُّ على دارفور!

كان بدهيَّاً أن أتاح ذلك الموقف الانتحاري العدمي، والذي عزَّزته، لاحقاً، تصريحات رئيس الجُّمهوريَّة في 4 سبتمبر 2015م، أمام الجَّالية السُّودانيَّة في الصين، متوقِّعاً تحويل مجلس السِّلم والأمن الأفريقي قراره المذكور إلى مجلس الأمن الدَّولي، ومتعهِّداً بتمزيق أي قرار يصدر عن الأخير بهذا الشَّأن، فرصة نادرة لقوى “نداء السُّودان”، حيث حقَّقت، عبرها، مكاسب كبيرة، لعلَّ أبرزها اجتماعها مع مجلس السِّلم والأمن الأفريقي عشيَّة إصداره لقراره المشار إليه. فعلى الرُّغم من أن هذا الاجتماع غير مسبوق، إلا أنه لم يتجاوز النُّظم والقوانين واللوائح التي تحكم عمل الاتِّحاد الأفريقي. ضف إلى هذا اجتماع قوى المعارضة، أيضاً، قُبيل ذلك، بتابو مبيكي، رئيس الآليَّة الأفريقيَّة الرَّفيعة للتوسُّط في حلِّ المعضلات السُّودانيَّة، وبهايلي منغريوس، مبعوث الأمين العام للأمم المتَّحدة إلى السُّودان. ففي الاجتماعين تمكَّنت هذه القوى من عرض وجهة نظرها باستفاضة، وبشكل مريح، وانفردت بتقديم تنوير شامل حول القضايا التي تشكِّل أجندة المجلس والآليَّة الرَّفيعة، وعلى رأس ذلك رؤيتها لقضايا السَّلام والحوار القومي الدُّستوري، مؤكدة رفضها لما يُسمَّى بـ “حوار الوثبة” الذي يسيطر عليه النِّظام وحزبه، واستعدادها للتَّنسيق مع كلِّ الجِّهات الوطنيَّة، والإقليميَّة، والدَّوليَّة، الرَّاغبة في عقد حوار عادل على شروط الحلِّ الشَّامل، ووقف الحرب، وتوفير الحريَّات، وإلغاء القوانين التي تقيِّدها، وإطلاق سراح المعتقلين والسُّجناء السِّياسيِّين، وتسهيل وصول الإغاثات، وإعلان القبول بأن يكون الهدف النِّهائي end game للحوار عمليَّة انتقاليَّة متكاملة، وبوجه عام كلِّ ما سبق أن تطرَّق إليه قرار المجلس رقم 456 الذي حرص القرار الجديد على الإشارة إليه ضمن جملة قرارات أخرى ذات صلة، بما في ذلك ضرورة استباق الحوار بمؤتمر قَبْلي لكافة أطرافه في مقر الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا، وبتسهيل من الآليَّة الرَّفيعة، مِمَّا سيتيح للمعارضة طرح شروطها للحوار، وللحكومة الرَّد على هذه الشُّروط، وللوسطاء تبيُّن الخيوط البيضاء من السَّوداء!

أمَّا بشأن أزمة دارفور، على وجه الخصوص، فقد تكفي الإشارة إلى أن المجلس أقرَّ، في صلب قراره المذكور، بأن علاجها لا يكون إلا في إطار عمليَّة وطنيَّة شاملة تخاطب تحدِّيات إرساء الدِّيموقراطيَّة، واحترام حقوق الإنسان، والقانون الإنساني الدَّولي، وتهيئة ظروف العودة الآمنة، والطوعيَّة، والكريمة، للنَّازحين واللاجئين إلى ديارهم؛ ومعالجة قضايا السَّلام، والدُّستور، والوحدة، والحكم، والاقتصاد، والحقوق، والحريَّات، والهويَّة الوطنيَّة، والعلاقات الدوليَّة؛ وأن أيَّ مفاوضات، بهذا المعنى، بين الحكومة والحركات الدَّارفوريَّة، ينبغي أن تتمَّ بنهج عمليَّة واحدة ذات مسارين، استهدافاً ليس فقط لإنهاء أزمة الإقليم، وإنَّما لإنهاء جميع الصِّراعات العنيفة في البلاد، بما فيها، بطبيعة الحال، الصِّدامات الحربيَّة في جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.

(5)

الانتفاضة الجَّماهيريَّة، على غرار أبريل 1985م، والتي لا تغفل الأخذ في الاعتبار بحراك الهامش، كما في دارفور والمنطقتين، فضلاً عن جدل الدَّاخل والخارج، هي حقٌّ للشَّعب لا يمكن لأحد أن يماري فيه، وذلك من باب التَّطلع المشروع للسَّلام المستدام، والتَّغيير الدِّيموقراطي الشَّامل. ولعلنا لا نحتاج، البتَّة، إلى التَّذكير بأن مثل هذا العمل ينبغي ألا يُترك للتِّلقائيَّة، وإنَّما يقتضي، كفعل قصدي، أن تحشد فصائل المعارضة كافة، وبلا استثناء، ودون أدنى تردُّدٍ، أقصى العزم باتِّجاهه، وتنهض إليه بأكمل الجِّدِّيَّة، وأتمِّ الاستعداد للتَّضحية والفداء، والنأي الصَّارم عن أساليب المزايدات والمناقصات المرذولة، وأوَّل ذلك أن تستمسك جيِّداً بالقدر الذي تهيَّأ لها من الوحدة الفكريَّة والتنظيميَّة، وأن تقوِّم ما قد يكون اعوجَّ منها، وأن تحسِّن من خطابها، ومن مناهج قيادتها للشَّارع، وأن تطوِّر ميكانيزماتها إلى مراقٍ مرغوب فيها، وأن تحرص على الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه أن يسحب أقدامها إلى مزالق التَّفرقة، أو يعود بها إلى تيه الشَّتات، وأن تعزل من صفوفها كلَّ من يسعى إلى ذلك دون وجل أو إبطاء.

أمَّا بافتراض بلوغ المعارضة، خلال ذلك، مستوى من القوَّة يستعصي إغفاله على السُّلطة، وعلى القوى الخارجيَّة الدَّاعمة لها، ويتيح فرصة ذهبيَّة لحلٍّ عادل متفاوَض عليه، يؤخذ فيه بشروط المعارضة كاملة غير منقوصة، ويدعمه ثقل إقليمي ودولي لا يُستهان به، فليس من الحكمة رفض اقتناصه، خصوصاً وقد سبق أن أعلنت جميع فصائل المعارضة، على أكثر من منبر، وفي أكثر من مناسبة، عدم رفضها للحلِّ الحواري/التَّفاوضي السِّلمي المأُخوذ بحقِّه، وإن لنا الأسوة الحسنة في التَّسوية التَّاريخيَّة في جنوب أفريقيا، والتي اقتنصها ما أن لاحت، وأقدم عليها بجرأة، قبل عقدين من الزَّمن، المؤتمر الوطني الأفريقي، بقيادة الرَّمز النِّضالي العظيم لشعوب القارَّة، بل ولشعوب العالم بأسره، نلسون مانديلا.