بيت العنكبوت الوهن ومحن السودان (3)

تطرقت في مقالاتي السابقة الى مفهوم الوفاق الوطني. إن الأوضاع السياسية الجارية في البلاد، واستمرار الصراعات والتناقضات بين شركاء الحكم والحركات المسلحة، يبرز بوضوح الغياب التام للوفاق والتوافق الوطني. الكل يتمترس في خندقه متسلحاً برأيه، لا مكان للحوار ولا المشورة، مع الاصرار بتجاهل الرأي الآخر، والخاسر هو الوطن والمواطن السوداني، بل تبلورت خلافات حادة وخطيرة بين مكونات العسكر في الحكم.

د. محمد الشريف سليمان

 

بقلم /  د. محمد الشريف سليمان

 

 

تطرقت في مقالاتي السابقة الى مفهوم الوفاق الوطني. إن الأوضاع السياسية الجارية  في البلاد، واستمرار الصراعات والتناقضات بين شركاء الحكم والحركات المسلحة، يبرز بوضوح الغياب التام للوفاق والتوافق الوطني. الكل يتمترس في خندقه متسلحاً برأيه، لا مكان للحوار ولا المشورة، مع الاصرار بتجاهل الرأي الآخر، والخاسر هو الوطن والمواطن السوداني، بل تبلورت خلافات حادة وخطيرة بين مكونات العسكر في الحكم.

 استهل الحديث بموضوع الساعة في البلاد حول ما يدور بين الجنرالين محمد حمدلان دقلو(حميدتي) وشمس الدين كباشي، والمتعلق بدور العسكر في السلطة، وخاصة تطرق كباشي بنعت القوة المدنية قحت (دماء الشابات والشباب)، التي أتت به (الى ما لم يكن يحلم به). نعم، بإسم من كان يتحدث، وليس بالمتحدث الرسمي لمجلس السيادة أو القوات المسلحة. هذا الشعب السوداني الأبي لا يسمح له ولا لغيره بالتطاول والإستفذاذ، بل إغتصاب ثورته(ليمتص دماء شهدائه التي لم تجف بعد)، وقادر على لفظ كل صغير، أتت به في غفلة على دست الحكم.(( أُذكر كباشي بما تم في نجاح الحراك الجزائري، المقتبس من الثورة السودانية، حيث كان الراحل الجنرال أحمد قايد صالح قائداً لجميع الأجهزة الامنية- الجيش والشرطة والأمن-، وأقسم ان الحكم للحراك ولن يتولى أو يشارك الجيش في الحكم، ولم يلفظ بإساءة للحراك المدني، بل هم الجزائر ونحن خادميهم وحاميهم من الانتهازيين، لينتقل الى جوار ربه في اليوم الرابع بعد إنجاز مهمته. وكرمته الجزائر بجنازة لم تشهده في تاريخة، وبكاه المواطنين من جميع الاتجاهات السياسية وكذلك في دول عدة خارجية. نعم، حافظ على كلمته بعدم إطلاق رصاصة واحدة. وأشرف على إنتخابات نزيهة، وإنتخاب رئيس جمهورية، محافظا وحاميا للدستور)). وليعلم ان الشعب له خط احمر لايسمح بتجاوزه. ومن يحاول سيذهب إلى مذبلة التاريخ كما ذهب الذين من قبله.

نعم، كشف الاستاذ نبيل أديب عن مجزرة إعتصام القيادة، وأكد بقوله: "ان اللجنة استمعت إلى شهادة مسؤولين رسميين عسكريين وسياسيين؛ وتحفظ على ذكر الأسماء. وقال إن الاجتماع الذي كشف عنه شمس الدين كباشي عضو المجلس السيادي حول الاتفاق على فض كولمبيا سيخضع كله إلى التحقيق بمن فيهم النائب العام". كذلك ما قاله حميدتي في مقابلة تلفزيون 24 حول شقيق المخلوع عباس وتحريك الدبابات من سلاح المدرعات بالشجرة (لا علاقة للجيش بهم)، وطائرة وزير الخارجية القطري، بل فض إعتصام القيادة والدبابات التي تحركت لجعل المعتصمين رماداً، كلها اسئلة تخضع للمحاسبة، والقادم يكشف أكثر. نعم، اعلنت الجماهير (في الطليعة الشابات والشباب) انهم يتمسكون باطراف السياسة، ومهما كان شأن الطبقة الحاكمة، فإنها مسؤولة أمامهم في عملية حساب ومحاسبة دائمة. أعلن الشعب الأمر لي، بعد الآن، دون هوادة أو تراجع. بل لن تسمح دماء الشابات والشباب التي سالت، وكتبت بها نجاح الثورة، وسطرت بها وثيقة دستور الحكم، لن تسمح بإعادة صياغتها مرة أخرى، ليفلت سفاكي الدماء الطاهرة من إفلات المحاكمة، ونيل ما يستحقونه من العقاب.

أعرج على موضوع ذات أهمية كبرى تمس الملايين، انهم الذين قضوا عصارة شبابهم وحياتهم في خدمة هذا الوطن؛ انهم أرباب المعاشات. لقد همشتهم دولتهم، وتناستهم في حقل زيادة الاجور. ليس هذا فحسب بل قالوا: "العاملين بالصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات يتمرغون في نعيم أموالنا، ويرمون لنا الفتات (لا تسد الرمق)؛ بل يمتهنون كرامتنا عند إستلام حقوقنا. حقاً انهم على حقٍ، يشعرون بالغبن والظلم. الدكتور رئيس مجلس الوزراء، ومجلس الوزراء، وقحت، هل من إنصاف لهولاء؟ الذين يستحقون الزيادة قبل غيرهم، أين العدالة الاجتماعية التي تفجرت من إجلها الثورة!  السياسة بمعنى ملتبسة في ذهن تحالف الحكم. هم لا يبحثون في شأن معاش الناس ومصالحهم وصحتهم وخدماتهم؛ ويبدو ما يهمهم حالياً حصر الامر في الصراع على كراسي الحكم!

أظهر المركز المستقل للبحوث ودراسات المجتمع، تراجعاً حاداً لشعبية قحت، حيث تراجعت من 62،7% الى 29،8%، نتيجة للتناقضات والخلافات والتناحر حول مقاعد المجلس التشريعي، بل لقيادة المرحلة (الجبهة الثورية بكموناتها ومفاوضاتهم العقيمة في جوبا، حزب الامة القومي، الحزب الشيوعي، المؤتمر السوداني، الحرية والتغيير وتجمع المهنيين). هكذا يبدوا ان التحالف الحاكم في السودان حلت محل الوطن، واصبح نضال التحالف الحاكم (مدني وعسكري)، ليس من اجل الوطن بل من اجل السلطة. فليس بعد الوصول للسلطة من جهد إلا الإحتفاظ بها. والسلطة تمنح إمتيازات وتحقق مصالح الحاكمين، بل تحوي الفساد والإستغلال(السلطة تكليف وليس تشريف).

وينتاب السودان، بل العالم أسره، فيروس كورونا (وهو كائن دقيق لايرى بالعين المجردة)، يذهب الكثيرون في طريق بلا رجعة وبلا مشيعين، ويزج بهم في قبور جماعية، دون الاهل والمترحمين، خوفاً من الاصابة به. انه المرض الذي أرعب العالم كله. هذا المرض كان بالامكان تلافيه بإستخدام العلم والتقنيات، لو كانت هناك أولوية لحياة الإنسان. وفي بلدنا الفقير تنعدم الادوية المنقذة للحياة والتجهيزات الطبية المطلوبة للحماية. نعم، تفاجؤُنا نقابة الصيدليات بالإضراب، نتيجة لتقاعس الحكومة لتوفير الادوية الضرورية! السؤال يطرح نفسه على الحكومة ووزارة الصحة وشركات الادوية المحلية والمستوردة من الخارج هل يذهب ارتال المرضى في العاصمة والاقاليم الى لقاء ربهم عنوةً بسبب تقاعس الدولة لتوفير الدواء، والاجهزة المطلوبة، لمكافحة الحد الادنى من هذا الداء القاتل بلا رحمة، كما حصد كبار السن في مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور.

صحة المواطن قبل كل شيئ، ومسؤولية ملقاة على عاتق الدولة، فمتى يتم حماية المواطن ودرء موته من الامراض الفتاكة. نطالب المواطنين بالحرص على حياتهم، وعدم التهاون بهذه الجرثومة القاتلة بلا رحمة في لمح البصر، بل ايضا الحرص على حياة الأخرين، بتطبيق القواعد الصحية.

ورث أطراف الحكم جرثومة (الفساد- المحسوبية) من النظام البائد " التمكين"، ليطبق من جديد بتوظيف "الحاشية"، دون مراعاة قوانين الخدمة المدنية في التعيين. نعم، يجري اليوم تطبيق النظام العائلي القبيح (Extended Family System) في شواغر مناصب الدولة، وبدون الإعلان عنها بالطرق الرسمية.  فكل يأتي بالاقرباء والأهل والمقربين ومنتميي احزابهم، دون كفاءة للمنصب. بل تناسو الدماء الشابة التي قامت واجبرت الطاغية وحاشيتة للترجل عن دست الحكم. لم نرى حتى اليوم بصيصاً من برنامج أو برامج لايجاد فرص العمل للشباب، بل ظلوا يجوبون الشواع دون أمل لمسقبل وضاء. 

لابد لجميع أطراف الحكم من ترك الانانية وحب الذات والتفكير بالذين اتوا بهم الى مخمل الحرير، والتفكير بكيفية إيجاد مستقبل مشرق، لهؤلاء الذين أتاحوا لهم فرصة الوصول للسطة. نعم لدينا كل شئ من الموارد ولا شئ (سيأتى حول الوضع الإقتصادي والامكانات المتاحة والفرص الضائعة في المقال القادم).

يتبع

[email protected]