الهجرة وأسئلة مستقبل الإنسانية

تدفقت حشود الفارين من جحيم الحرب والإرهاب من الشرق الأوسط نحو جنوب أوروبا أولا، بأعداد جعلت المراقبين يصفون الموجة، بأنها «الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية»، متجاوزة أزمة البوسنة والهرسك سيئة السمعة

 

بقلم : الدكتور  حيدر ابراهيم على

 

تدفقت حشود الفارين من جحيم الحرب والإرهاب من الشرق الأوسط نحو جنوب أوروبا أولا، بأعداد جعلت المراقبين يصفون الموجة، بأنها «الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية»، متجاوزة أزمة البوسنة والهرسك سيئة السمعة. ولكن الأحداث الحالية، ليست مجرد أزمة طارئة، بل هي في حقيقتها تعبير عن تحول تاريخي عميق، ودخول في حقبة حضارية جديدة، وبدايات نظام دولي مغاير. فقد ظل هذا التحول يتشكل منذ نهايات القرن الماضي، بدءًا من : الفورة النفطية، مرورا بالثورة الإسلامية الإيرانية عام1978، ثم تحالف الكنيسة وتضامن في بولندا، وسقوط حائط برلين، وإنفراط عقد المعسكر الاشتراكي، وتفكك الاتحاد السوفييتي، انتهاءً بالربيع العربي والخلافة الإسلامية. وكانت الارهاصات النظرية قد ملأت الاجواء حول العولمة، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وموت الإنسان، وما بعد الحداثة.

والآن، تنزل كل تلك الأفكار والهواجس إلى أرض الواقع، مع دخول العالم مرحلة من اللامعيارية (أو الانومي كما يسميها علماء الإجتماع) الشاملة، بمعنى إنهيار قيم قديمة دون ان تحل محلها ـ بعد أخرى جديدة. فقد إنحسر عالم ثنائية القطبين، وعجز القطب الواحد عن إحكام هيمنته على الكون. كما اختفت فعلا السرديات الكبرى أو الايديولوجات الواعدة باليوتوبيات أوالمجتمعات المثلى. واكتفت البشرية بحياة استهلاكية مضجرة يقفز منها كثيرون لتجارب حياتية فوق واقعية (غالبا دينية) تحاول بناء عوالم بديلة متوهمة. فالعالم في حالة فوضى وتيه، وفقدان للأمن، وعدم تصور للمستقبل. وما مغامرة المهاجرين الحالية إلا التعبير المتطرف لهذه الوضعية، وتكتمل الصورة بالتوتر والارتباك الذي تعيشه أوروبا الآن.

ينم الخلاف بين الدول الأوروبية حول التعامل مع ظاهرة الهجرة، عن الحيرة الفكرية والسياسية التي تعيشها أوروبا، رغم أنها تمثل ـ نظريا ـ أعلى مراحل حضارة العصر.

ولأن اتخاذ أي قرار أو موقف هو في جوهره تعبير عن رؤية متكاملة وشاملة معبرة وجامعة للكون، والانسان، والمجتمع، والدولة. فهو يتعدى كثيرا مجرد الفعل السياسي والدبلوماسي، وإلا لأمكن حسمه بالتصويت في أيّ إجتماع للإتحاد الاوربي في بروكسل. فأوروبا أمام اختبار كبير يسائل وضعيتها الحضارية، وقد يهزّ كل قيمها المعلنة، ويضع إدعاءاتها السيّارة عن تفوقها على الآخر، على محك حقيقي.

طرحت هذه الهجرة الماثلة تساؤلات تشككية حول صدقية فكرة العولمة الرائجة في زمننا هذا، لحد الابتذال أحيانا. فالسؤال الآن هو: هل هذه الهجرة تعبير عملي عن العولمة، وتدل على أن العالم قد أصبح بالفعل قرية كونية سقطت فيها كل الحدود والحواجز الجغرافية والثقافية والفكرية؟ ومن المفارقات أن زمن الحديث الكثير عن العولمة، شهد على أرض الواقع، تزايد القيود التي تحد من حركة مواطني العالم الثالث والدول الفقيرة نحو العالم الاول الغربي الغني.

اختزلت النيوليبرالية والرأسمالية المستوحشة، مفهوم العولمة في حرية حركة رؤوس الأموال، وتنقل الشركات متعددة الجنسيات مع التشديد على وقف هجرة البشر ـ ما أمكن ـ عدا هجرة العقول واستنزافها من الدول النامية. وهكذا تمكن الغرب الرأسمالي من نزع الجانب الإنساني في العولمة، وجعل منها وسيلة لتعميق التبعية وتكريس التخلف والفقر في العالم. وكان من الطبيعي أن يقود مثل هذا الخيار في السياسات والرؤى إلى ظهور مشكلات عميقة ومستعصية. وأن يجد العالم نفسه مطالبا بمواجهة تحديات كارثية، أهمها : الهجرة غير الشرعية، والإرهاب العالمي، والتخريب البيئي. ومن مكر أو دهاءالتاريخ ـ تعبير هيغل، أن يوظف الإرهاب العولمة، وأن يستخدم كل منتجات الحداثة في وقف أي تقدم للإنسانية ! فالجماعات الدينية المتعصبة، لم تعد مجموعات من الدراويش ،والفقراء، والفاشلين في حياتهم. إذ نجد من بينهم المتفوقين والمبرزين في دراسات العلوم والطب والهندسة، وينحدر كثيرون منهم من نخب ممتازة، وطبقات اجتماعية عليا. وتحولت عملية العولمة التي كان من المفترض أن تقود البشرية لمستقبل سعيد يتساوى فيه الناس وينعمون بخيراته، إلى معضلة حضارية تهدد مستقبل الأرض والبشر. فقد استولى المتطرفون على نتاجات العولمة الفكرية والمادية، ويعملون بواسطتها على إعادة العالم لعصور حجرية باستخدام كل الوسائل الحديثة من أسلحة، وإعلام، واتصال، ومواصلات. والأهم من كل ذلك، فقد سقطت في أعرافهم، الحدود الفاصلة بين الدول- كما بشرت العولمة- ونجحوا في وقت قصير أن يكونوا حركة عالمية أو دولية أو كونية، مسرحها الأرض كلها.

من جانب آخر، كثُر الحديث مع الأزمة عن الإنسانية من منظورات مختلفة، وكان أبرزها المدلول العاطفي لصورة جثة الطفل السوري على الشواطئ التركية. ولكن يهمني في هذا الصدد معالجة مفهوم الأنسانية على مستويين، الأول فكرة الإنسانوية كفلسفة كبرى شغلت أوروبا منذ عصر التنوير، والتي جعلت من الإنسان مركزا للكون، وباعتباره القيمة العليا. أمّا المستوى الثاني خاص، فهو بقيم حقوق الإنسان والتي صارت «موضة» العصر وشغله الشاغل. فالسؤال المطروح هو: هل استدعت أوروبا تلك الفلسفة والقيم حين تعاملت مع أزمة المهاجرين؟ وهل احتل الإنسان موقعه متسقا مع الإنسانوية وحقوق الإنسان؟ فقد ظهرت ألمانيا ممثلة في المستشارة (ميركل) بوجه إنساني قوي، استغربه الناس من المانيا التي تُتهم بالعنصرية وكراهية الأجانب. ولكن اموقفها ليس غريبا، بالتأكيد سوف تحسب المانيا جيدا المردود الاقتصادي لاستقبال اللاجئين. فالبلد الذي تهدده الشيخوخة، سوف يحقن نفسه يأيدي عاملة شابة في أعمال غير مرغوبة لدى الألمان. ولكن يوجد أيضا جانب إنساني سببه اليسار والخضر، كما أن الألمان جربوا اللجوء والهجرة أثناء الحرب العالمية الثانية.

تأتي الهجرة في زمن أزمة اقتصادية في جنوب أوروبا، وهذا يهدد بانعاش الميول الفاشية والعنصرية وكراهية الاجانب. لأن وجود المهاجرين يزيد من بطالة المواطنين مما يجعلهم كبش فداء. وايضا يبعث بعض السياسيين روح الحروب الصليبية والعداء الديني، فيصرح رئيس وزراء المجر لصحيفة ألمانية: «إن تدفق اللاجئين على أوروبا يهدد بتقويض الجذور المسيحية للقارة، وإن الحكومات يجب أن تضبط حدودها قبل أن تقرر عدد طالبي اللجوء الذين يمكنها استقبالهم». ويضيف: أن «شعب أوروبا يختلف في الرأي مع معظم الحكومات، بشأن أزمة اللاجئين». وبالفعل اعتدى يمينيون على المهاجرين.

وفي النهاية، تحمل أزمة الهجرة الحالية تحولات وتحديات وتهديدات للإنسانية، أكبر بكثير من المظاهر الخارجية المرئية.

٭ كاتب واكاديمي سوداني