الجميلة والوحش !

هذا العنوان من وحي إلهام صديقي القاص العملاق بشرى الفاضل وذاكرته السينمائية الحاضرة. وكنت قد أرسلت له ضمن صديقات وأصدقاء آخرين صورة بنت شقيقتي “سالي ميرغني” -هذا اسمها- تبيّن مدى الوحشية التي تعاملت بها زبانية أمن النظام وربّاطته مع المتظاهرين في موكب الأربعاء 31 يناير. وتوضح الصورة الضرب الوحشي الذي تلقّته على وجهها وأجزاء أخرى من جسدها. فما كان منه إلا أن علّق قائلا: اكتب عنهم كلمة دفاعا عنها وليكن عنوانها “الجميلة والوحش”. وهأنذا أفعل يا صديقي، ليس لأنها بنت شقيقتي، ولكن لكونها مثالاً واحداً فحسب على مدى وحشية هذا النظام وأجهزة أمنه وقهره الذي لا يكِل للنساء.

.

 

بقلم : عبد الجبار عبد الله 

 

هذا العنوان من وحي إلهام صديقي القاص العملاق بشرى الفاضل وذاكرته السينمائية الحاضرة. وكنت قد أرسلت له ضمن صديقات وأصدقاء آخرين صورة بنت شقيقتي "سالي ميرغني" -هذا اسمها- تبيّن مدى الوحشية التي تعاملت بها زبانية أمن النظام وربّاطته مع المتظاهرين في موكب الأربعاء 31 يناير. وتوضح الصورة الضرب الوحشي الذي تلقّته على وجهها وأجزاء أخرى من جسدها. فما كان منه إلا أن علّق قائلا: اكتب عنهم كلمة دفاعا عنها وليكن عنوانها "الجميلة والوحش". وهأنذا أفعل يا صديقي، ليس لأنها بنت شقيقتي، ولكن لكونها مثالاً واحداً فحسب على مدى وحشية هذا النظام وأجهزة أمنه وقهره الذي لا يكِل للنساء. 

صحيح أن ما حدث لـ"سالي" وأخريات وآخرين غيرها يُفهَم في إطار البطش الآني الذي مارسته أجهزة قمع النظام في مواجهة موكب الأربعاء آنف الذكر. وهو بمثابة إنذار بما يمكن أن يصل إليه هذا البطش والعنف إلى مستويات أبعد بكثير عندما تحين لحظة المواجهة الحاسمة والفاصلة مع هذا النظام القمعي الدموي الإرهابي بحكم تكوينه وطبيعته. وهذا ما يستدعي أن تطوِّر قوى المعارضة تكتيكاتها وأدوات مواجهتها لنظام بهذا العنف والشراسة، بما في ذلك تنويع أدوات الاحتجاج نفسها، وكيفية تنظيم الجماهير وقيادتها وإلهامها بتكتيكات العمل الناجعة الفعالة. 

تكتيكات من الشرارة يندلع اللهيب

وكما قلت في مواضع سابقة، فإن محور هذه التكتيكات هو تشتيت جهود أجهزة قمع النظام وإنهاكها في معارك كرٍّ وفرٍّ طويلة ومتزامنة في الوقت نفسه، ليس في الميادين والساحات المفتوحة النائية المعزولة التي ينكشف فيها ظهر الجماهير ويسهل اصطيادها وقمعها لقمة سائغة بتطويقها والفتك بها،  وإنما في شوارع الأحياء وأزقتها وساحاتها التي تتيح فرصا أفضل للمناورة والكر والفر، والاحتماء بالبيوت متى ما اقتضت الضرورة. ومن الذكاء والأهمية بمكان إنهاك أجهزة القمع وتشتيت جهودها بما يحُد من مستويات القمع والعنف الممارسين ضد المتظاهرين، ويشجع أعدادا أكبر فأكبر على المشاركة، ويتيح للمظاهرات نفسها الاستمرار لمدة زمنية أطول في تجمعات أصغر وأكثر انتشارا وفعالية بدلا من المواكب الكبيرة التي يسهل على أجهزة الأمن تفريقها. إيد على إيد، شرارة هنا وهناك، مظاهرة صغيرة تنطلق أُخريات مثلها بصورة مباغتة ودون سابق إعلان في أماكن متفرقة، من شأنها أن تفعل فعل السحر في إنهاك قوات الأمن والشرطة وتثبيط همتها وروحها المعنوية. ما الحكمة في أن يعبُر المتظاهرون الكباري للتظاهر في مكان بعينه في مدينة أخرى وفق إعلان مسبق، بينما يمكنهم ويسهل عليهم كثيرا أن يشعلوا عدة شرارات في أماكن مختلفة دون أن يغادروا أماكن سكنهم وأحيائهم قيد أنملة؟ ما الحكمة في أن "نُقنطر" المحتجين في ميدان واحد محدد ومعلن سلفا لنجعل منهم وليمة سائغة لأعشاب البحر ووحوش الأمن؟ لقد أدت "مواكب الميادين" المعلنة هذه دورها التعبوي المنشود، وآن الأوان للعمل على تكتيك "من الشرارة يندلع اللهيب". تلك هي الخبرة الميدانية العملية المكتسبة والمجرّبة في انتفاضة مارس أبريل 1985 وهي ما تزال ملهمة وفعالة إلى اليوم إن لجأنا إليها. 

من أين أتى هؤلاء؟

وفيما يتعلق بممارسات القمع الوحشي واستهداف النساء على وجه التحديد في موكب الأربعاء، فإن في ذلك ما يعيد إلى الأذهان مجدداً تساؤل الطيب صالح الشهير "من أين أتى هؤلاء"؟. لا محل لاستغراب البعض من السؤال ابتداء، ولا غنىً عنه لتفسير هذا السلوك الشاذ من صبية أمن الإنقاذ وغلمانه من عديمي المروءة والشهامة إلى حد لا يمنعهم من ضرب من هم في مقام أمهاتهم وجداتهم وآبائهم وجدودهم وأخواتهم. هؤلاء لا مثيل لانحطاطهم وفظاعتهم وسوء أدبهم وخصالهم التي رضعوها من ثدي أنموذج الإسلام السياسي الذي أنشأه النظام، وهو أنموذج غريب على ثقافة الشعب السوداني ووجدانه ومزاجه العام. ومن هنا تأتي عبقرية ملاحظة الطيب صالح الذكية وسؤاله الاستنكاري الخالد. 

استراتيجية النموذج الطالباني-الداعشي ضد المرأة السودانية

هذا على المستوى الآني من البطش بموكب الأربعاء. غير أن لنظام الإخوان المسلمين الظلامي الحاكم تاريخاً من النقمة والثأرات من النساء على وجه التحديد، مما يندرج في صلب استراتيجيته الثابتة إزاء المرأة السودانية. 

فعلى امتداد ما يناهز الثلاثة عقود من عمر الإنقاذ الكالح، ظلت النساء في طليعة النضال اليومي ضد سياسات التمييز الجنساني gender discrimination وما زلن في الخط الأمامي في مواجهة الغول الإسلامي القميء كاره الغالبية العظمى من الشعب السوداني عامة، والنساء على وجه الخصوص. نقصد بهذا اصطلاحا مفهوم كُره النساء بما يقابله في الإنجليزية مصطلح misogyny في مغزاه الأيديولوجي الاجتماعي الذكوري الذي يرسّخ لدونية المرأة واضطهادها والتمييز ضدها بمختلف الأشكال، ويحرص على إبقائها عنصراً ثانوياً في نسيج المجتمع الذكوري الأبوي. وهو كُره يضرب بجذوره العميقة الممتدة عبر آلاف السنين منذ التحول الكبير الذي حدث بفعل الانتقال من بنية المجتمع الأمومي إلى المجتمع الأبوي الذكوري. وإنّ لنا في دراسات الباحث الأنثروبولوجي "ريتشارد مورجان" وفتوحات فريدريك إنجلز في مؤلفه الشهير "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" من وهج المعرفة وثرياتها الكلاسيكية الوقّادة ما يضيء دراسات "الجندر" الحديثة المتخصصة ويفتح أمامها آفاقا حُبلى بالإبداع والابتكار المعرفي إلى يومنا هذا. 

ذلك باب نظري يطول الحديث فيه، غير أن ما يمكن قوله في هذا المقام هو أنّ في سياسات نظام الإنقاذ الحالي وتشريعاته المتعلقة بالمرأة بالذات ما يضعه تماماً في خانة النموذج الداعشي-الطالباني الظلامي المتخلف الممثل للدولة الدينية على إطلاقها. وغنيٌّ عن القول أنّه نموذج يشكّل اضطهاد المرأة واحتقارها ركناً أصيلاً فيه وركيزة أساسية من ركائزه.

لا ريب أن شريطي الفيديو -في الرابطين أدناه- صادمين وشارخين  للوجدان العام، ولكن لا غنى عنهما للأسف لفهم الالتباس والتناقضات الكامنة في مفاهيم وممارسات الفكر الديني المتطرف لجماعة النظام الحاكم إزاء "جسد المرأة " تحديداً ، وإزاء مفهوم الفضيلة والأخلاق الممارس ضدها استنادا إلى دوافع العنف الذكوري الجنساني المبيّتة في سيكولوجية التطرف الديني المنحرف.  

https://www.youtube.com/watch?v=lT7walEOCn8&feature=share

https://www.youtube.com/watch?v=xdZQE2Zwa9A

ولننظر -دونما إطالة في التعليق- من هو الحريص هنا فعلا "في شريط الفيديو الأول" على صون قيم الفضيلة والأخلاق التي جُلدت هذه الفتاة بذريعتها بهذه الصورة المهينة للكرامة الإنسانية؟ وكيف نجد تفسيرا لضحك واستهزاء المتفرجين من الذكور فاقدي المروءة والشهامة على هذا المشهد الفظيع الذي تقشعر له الأبدان وتصطك له الأسنان غيظاً وتقززاً؟ أليس في انعدام الشهامة هذا ما يؤكد حديث الإنقاذيين عن إعادة تركيبة المجتمع السوداني أو ما أسميه بـ"الهندسة الاجتماعية" اصطلاحاً؟

ألم يلاحظ هذا الشرطي الغبي الأبله الذي ينفذ عقوبة الجلد على الضحية والمتحلّقون من حوله أنّ الضحية هي التي تبدي الحرص كل الحرص على صون الفضيلة والأخلاق التي أدينت بانتهاكها؟ يلهب السوط ظهرها وجسدها كله، ومع ذلك فهي الحريصة على "ستر" أنوثتها وصونها من العُري والانكشاف أمام الجمهور كما القديسة "جان دارك" في تمظهرها السوداني أمام جلاديها باسم الفضيلة والأخلاق الزائفة! وفي المقابل والنقيض، يبدو الجلاد نفسه في عهره وتبرُّجه وانتهاكه لذات القيم الأخلاقية التي يلهب بذريعتها جسد ضحيته في شريط الفيديو الثاني الذي يصوِّر حفلاً ماجناً مبتذلاً لقوات شرطة السجون! ومثلهم تبدو متبرجة في شرائط فيديو أخرى "ندى القلعة" ويبدو متبرجاً ومنتهكاً لقانون النظام العام، فخامة الريّس نفسه في رقصته الشهيرة تلك مع باقة من الحسناوات -ربما بعضهن سوريات – في حفل زواج بنت زوجته وداد بابكر. كيف يُفهم هذا المسخ بالله… كيف يُفسر؟

https://www.youtube.com/watch?v=ECUGkZGKxBk

إنه خازوق الوعي الذكوري الشائه الذي جسدته مؤخرا في طوره الأشد شراسة وعنفاً قوانين سبتمبر 1983 الممتدة فينا إلى قانون النظام العام الذي سنّته عصبة الإنقاذ الحاكمة. وهذا مما لا يمكن أن تغفل عنه مبادرة "لا لقهر النساء" و"الاتحاد النسائي السوداني" وسائر أشكال ومنابر العمل النسوي العام . ففي تلك القوانين ما جعل المرأة هدفا رئيسيا لسهام الفكر الظلامي الذكوري المتخلف الرامي إلى هدم مشروع الاستنارة والوعي الذي أضاءت شموعه -مع أخريات رائدات- المناضلة الراحلة فاطمة أحمد ابراهيم منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي. 

وللحركة النسائية السودانية ما تجنيه كثيرا في محاولة فهم هذا المسخ المركّب المعقّد من اضطهاد المرأة واستغلالها في آن من ثريات المعرفة الوضيئة التي ينطوي عليها كتاب الدكتورة فاطمة بابكر محمود "الجنس والجنسانية واستغلال المرأة السودانية". إنه بحق أداة معرفية رافعة للوعي النسائي السوداني الثوري. 

https://www.youtube.com/watch?v=o90ZGZLJFGE&feature=share

إنهن الكنداكات حفيدات "جان دارك" و"أنتيغونا" السودانيات الثائرات ممن يستهدفهن المشروع الحضاري البائر بسياط قمعه وجلافته وفظاعته. ولكن هيهات له أن ينكسرن أو يطئطئن الرؤوس أمامه. وإن لهنّ في جسارة الكنداكة حنان حسن خليفة التي وقفت صامدة وجها بوجه أمام جلاديها في موكب الأربعاء، وفي جسارة ناهد وآمال جبر الله وأمل هباني وسارة نقد الله والكثيرات غيرهن من المعتقلات وراء القضبان ما يلهم ويحفز على الصمود والثبات وصولاً إلى لحظة المواجهة الحاسمة مع آلة القهر الإسلاموي الوحشي الذميم الفظ. 

إلى بحر الموّدة تعود الحمائم قريباً

في أي عصرٍ نحن أيها الظلاميون الأوباش السَفَلة؟ هكذا كان لسان حال الكنداكة حنان حسن خليفة وهي شامخة كما الطود الأشم أمام من كانوا يلهبون جسدها من كلاب الأمن بسياط القهر في موكب الأربعاء. هكذا هو لسان حال الزهرتين الجميلتين شيماء وإسراء وهنَّ يردِّدنَ -من وراء قضبان الوحش الإسلاموي- مع الفنان محمد كرم الله شيئا من أنغام أغنية الحنين الدفّاق"بحر المودة": يا يمة رسلي  لي عفوكي ينجيني من جور الزمان. والأم المفجوعة الموجوعة هنا ليست السيدة "أماني مالك" وحدها، إنما جميع الأمهات والنساء السودانيات اللائي يبعثن لكن بصادق الدعوات وأنبل مشاعر التضامن الأمومي النسوي. وإلى بحر المودة السوداني ستُعُدن قريبا من بين فكي الغول وقضبان زنازينه التي تغرّدن فيها ويرجف الغولُ جباناً مرتعداً في قصره.

عفارم عفارم عليكنَّ. ما أجملكنَّ.. ما أقبح الوحش، ما أبشع الغول.