هدم الأنفاق والخروج من طين الوحل في السودان

يصر الكاتب البريطاني باتريك سيل، على ان يقوم السودانيون أنفسهم بحل المسائل المتعلقة بمستقبل بلدهم ، حيث تاهت الأمة السودانية عن حقيقة ذاتها وعن طريق غدها ، وعن موقعها في العالم

د. محمد الشريف سليمان

 

 

بقلم / د. محمد الشريف سليمان

 

يصر الكاتب البريطاني باتريك سيل، على ان يقوم السودانيون أنفسهم بحل المسائل المتعلقة بمستقبل بلدهم ، حيث تاهت الأمة السودانية عن حقيقة ذاتها وعن طريق غدها ، وعن موقعها في العالم ، وبدأت تتشرذم على مدى أرضها الواسعة تفصل بين أشتات أقاليمها وقبائلها أنفاق من الخصومات والعدوان والضياع في بحور دمها الذي هدر في حروب عبثية ومعارك وهمية ضد الذات أولا وأساساً . هكذا أصبحت الأنفاق التي حفرت بين أبناء شعبها ثم أقاليمه تكاد تجعل منه دولاً عدة.

تفاجأ الجميع بتعين رجل قطاع التأمين د. عمر محمد الفكي محافظاً لمشروع الجزيرة، حيث كان الجميع يترقب تعيين د. الصديق عبدالهادي خيرالسيد ابن المشروع والمزارعين والخبير في هذا المجال، وألف وكتب الكثيرعنه، بل انه مرشح المزارعين، أو  د. آدم يوسف وله نفس المؤهلات، وهما عضوان في تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل. نعم توصيتهم من اجل المنصب للسيد رئيس مجلس الوزراء د. عبدالله حمدوك. لا أعرف والكثير يشاطرني، بعدم الرضا بتربع رجل التأمين ومرشح تجمع المهندسين الزراعين، المتهم من تحالف اتحاد المزارعين. لماذا تجاهل رغبة أهل المصلحة يا (السيدان رئيس الوزراء ووزير الزراعة)، أي التغاضي عن رغبات الذين اكتوا بلهيب نار الانقاذ وادخلو السجون وبيوت الاشباح؟. نعم، لماذا طمس رغبة اهل المصلحة الحقيقين، الذين توليتم السلطة لنصرتهم بإعادة حقوقهم المسلوبة!. هذا الصرح العظيم الذي دمره النظام البائد، والذي كان يشكل العمود الفقري لإقتصاديات السودان(القطن) من خلال ميزان مدفوعات التجارة الخارجية،أي أكبر مصدر دخل للعملات الحرة، يحتاج لكفاءة مقتدرة، حيث البنك الدولي قيم إصول المشروع بمبلغ (100) مليارد دولار في حالة النهوض به مرة أخرى. لقد أقام الاستعمار البريطاني المشروع كمزرعة تجريبية لزراعة القطن عام 1911، ليصبح عام 1925 مشروعا لسد حوجة المصانع البريطانية من القطن، وعرف بانتاج اجود انواع القطن العالمي(السكلاريدس). كان مشروع الجزيرة اكبر مشروع مروي في افريقيا، بل أكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة. في عام 1955 عند مشارف نهاية الحكم الاستعماري عين مكي عباس كأول محافظ سوداني للمشروع وأدارة بجدارة سودنة المناصب، وليصبح مشروع الجزيرة وإمتداد المناقل عام 1958، واضيف إليهم إمتداد عبدالماجد عام 1963. ومن الاسماء التي ساهمت في تطوير وادارة المشروع ايضاً بجدارة كمحافظين، مكاوي سليمان اكرت وميرغني الامبن الحاج..الخ قبل تولي النظام المخلوع الحكم في 30 يونيو 1989.

وأنتقل الى مرسوم إعادة تشكيل بنك السودان المركزي من قبل رئيس مجلس الوزراء، الذي تمسك واعتمد قانون البنك المركزي لعام 2002 والمعدل في سنة 2012، الذي أنهى شفافية البنك وحوله الى إداة لتجسيد الفساد، بتبعته لرئاسة الجمهورية مباشرة. بلا، هذا القانون حول البنك المركزي الى  بنك تجاري فاسد، بإنهاء مهمته (الرقابة المصرفية). لا اعرف لمن تبعيته هذ اليوم (مجلس السيادة، مجلس الوزراء، وزارة المالية)؟. في عام 1959 صدر قانون قيام بنك السودان المركزي، وباشر عمله في 22 فبراير 1960 كهيئة مستقلة، ذات شخصية اعتبارية، وكان مأمون بحيري أول محافظ له، وظل البنك متمسكاً بالشفافية الإستقلالية حتى نهاية عام 1988. (حولت في عام 1977 مبلغ 400 جنيها سودانياً عبر بنك السودان لاستلمها في برلين بمبلغ 2800 ماركاً المانياً)، وحتى فبراير عام 2019، كان اليورو يعادل 35 جنيهاً.

وضع البنك المركزي تحت عبس رئيس الجمهورية المخلوع، أدى الى إنهيار الجهاز المصرفي السوداني بأكمله، بتحويله الي آلة للفساد وغسيل الاموال وخلق رأسمالية طفيلية بين ليلية وضحاحها. هكذا تردى وضع القطاع المصرفي السوداني عالمياً ليصنف ضمن (3) دول اكثر فساداً دولياً. ويجدر ذكره، ان عشرة فقط من أعوان النظام المخلوع ، سيطروا على الاقتصاد السوداني، حيث اداروا ذلك عبر شبكة أخطبوطية من العملاء، يعرفون بنشطاء الظل. لابد من إصدار تشريعات وقوانين جديدة تحتوي على عقوبات صارمة للفاسدين ومن ورائهم. يجب إعادة تنظيم الجهاز المصرفي، بتولي كفاءات إدارية متخصصة لقيادتها، واخضاعها لرقابة صارمة من بنك السودان المركزي، ذات شفافية وإستقلالية كاملة، وشطب جميع قوانين فساد  النظام البائد، والعودة لعهد مأمون بحيري والسيد الفيل، ومن خلفهم حتى اسماعيل المصباح المكي، حتى نصل الى إقتصاد متعافي وعملة ذات قيمة.

تطرقت في مقال سابق حول أوضاع المعاشيين، ومعاناتهم في الظروف الإقتصادية القاسية التي يعيشونها اليوم، والذل والاهانة عند استلام حقوقهم الشهرية من (الصندوق الوطني للمعاشات والتأمينات الاجتماعية) . واعلن اتحاد المعاشات رفضهم القاطع للزيادة المقترحة لمعاشاتعم، وعدم إستلامها، والتي جاءت موحدة لكل المعاشيين بمبلغ ( جنيها2000) شهرياً، ولا تراعي الدرجات الوظيفية، بينما بلغت زيادات الرواتب للعاملين بنسبة 560%. ووصف ايضاً اتحاد المعاشات الزيادة بالهزيلة وغير المنصفة لهذه الفئة التي افنت عمرها في خدمة الوطن مطالبا رئيس مجلس الوزراء بالتدخل العاجل لإنصافهم. متى يلتفت الدكتور عبدالله حمدوك لانصاف هذه الفئة، التي في أشد الحوجة للدعم الحقيقي، والتضخم بلغ بنسبة 99%. في ألمانيا يتمتع أرباب المعاشات بالدعم الكامل من الدولة، بتأمين الحياة الكريمة لهم، من التأمين بالعلاج المجاني والسكن والغذاء، بل هناك زيادة كل سنة أو سنستين لسد حاجة متطلبات ارتفاع المعيشة.

مرة أخرى يطل الفريق ركن شمس الدين كباشي عضو مجلس السيادة، وهذه المرة من جوبا. خرج الجنرال بتصريح مثير للجدل ويقود للبلبلة وتعثر المفاوضات المتعثرة الجارية بين الحكومة والحركات المسلحة. نعم، هدد كباشي بان الحكومة ستعين ﺍﻟﻮﻻﺓ ﻭﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﺗﻔﺎﻗﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﺠﺒﻬﺔ ﺍﻟﺜﻮﺭﻳﺔ ﺣﺎﻝ ﺗﺄﺧﺮ ﺗﻮﻗﻴﻊ ﺍﺗﻔﺎﻕﺍﻟﺴﻼﻡ. وﻧﻮﻩ ايضاً ﺍﻟﻰ التعيين الانفرادي للمجلس ﺍﻟﺘﺸﺮﻳﻌﻲ. لماذا هذا الاستفزاز وماذا يقصد به، وهو في جوبا من إجل التوصل مع الحركات المسلحة للوصول الى أتفاقية سلام، تجلب الاستقرار المفقود للوطن. المصلحة الوطنية فوق الاشخاص، والشعب السوداني بشبابه من الجنسين الذي قاد الثورة واجبر النظام البائد للزوال، قادر للتصدي لمثل هذه الاستفزازات. وبالإشارة لما يجري في جوبا، من مفاوضات بين الحكومة والحركات المسلحة، كالساقية، تدور دون ان تخرج ماء يروي المزروع لإنتاج المحصول المنتظر. الجميع، بل الوطن بإكمله في إنتظار جني الثمار، وطي هذا الملف، الذي كلما شارف النهاية، يطل كابوس معطل جديد. بلا، تدخل اليوم السيد الصادق المهدي عند مشارف نهاية المفاوضات الجارية في جوبا، بولوجه من الباب الخلفي بما أسماه ( العدالة الترميمية)، وإستقطابه جبريل ومناوي، ينصب في مجرى التعطيل. وليس آخراً، ينتظر ويترقب الداخل والخارج بشوق وتلهف ماذا يقول علي كوشيب خلال محاكمته في الجنائية الدولية بلاهاي في هولندا.

الشابات والشباب الذين حملوا الثورة علي اكتافهم، وضحوا بدماء رفاقهن ورفاقهم، وجاءوا بكم جميعا لسدة الحكم(عسكري ومدني)، لا يزالون في الشارع، ينتظرون بتلهف المستقبل المشرق الموعودون به، لانهاء البطالة والعطالة والتشرد، وطرق الإغتراب مغلقة!. نعم، متى ينم إنشاء الصندوق السيادي المقترح لاستيعابهم، سؤال يطرح نفسه على الدكتور عبدالله حمدوك؟. والاهم، أين الانتاج والانتاجية المنتظرة؟ بهذا الوضع الاقتصادي القائم القاتم، ودخول جائحة كرونا، بتصاعد الأزمة الصحية، وإنعدام الادوية المنقذة للحياة، وجشع مستوردي ومصانع الأدوية، وإضراب الصيادلة لعدم مقدرة الشراء من الوكلاء الذين حصلوا عليها بسعر الدولار الرسمي بمبلغ 55.7 جنيهاً، ويباع للصيدليات(اذا وجد) بما يعادل 140 جنيهاً، حتى لا يستطيعون بيعها للمواطنين، ولا حل سوى الإضراب وقفل محلاتهم. والخاسر الأوحد المواطن السوداني.

اختتم المقالة بما قاله الرئيس الرواندي بول كيجامي لشعبه: "إذا كانت بلادنا أحرزت المرتبة الأولى في القارة الأفريقية، ولفتت أنظار العالم بأسره اليوم، فليس ذلك بوجودي أو الفاتيكان أو الكعبة أو البيت الأبيض أو التاج محل عندنا. بل إن السبب هو أبناء روندا وبناتها. الروانديون وخاصة الشباب والنساء الذين سامحو أنفسهم بشأن الماضي(المجازر التي نشبت بين الهوتو والتوتسي وراح ضحيتها مليون مواطن خلال شهر)، واخذوا زمام المبادرة لتقرير مصير بلدهم من خلال روح العمل والابتكار والانتاج والانتاجية المشبع بالوطنية كمفتاح للرقي والتنمية. قريبا ستكون لنا أفضل جامعة في العالم تنافس هارفارد وجامعات نيويورك ومدرسة لندن للعلوم الإقتصادية". (ألا رحم الله السودان وموقعه في القارة الافريقية عندما كانت جامعة الخرطوم تتناوب مع جامعة ماكرري الأوغندية في المرتبة الأولى لجامعات أفريقيا).

يجب علينا الاعتماد على أنفسنا، وبناء بلدنا بسواعدنا، وعدم الحلم بالإعتماد على الخارج، بعد إضاعة فرصة المساعدة من دولتين خليجيتين وضعتا أنفسهم لمساعدتنا، للخروجناِ من الضائقة الإقتصادية. نعم، يتحمل حزب سوداني معروف للجميع، تردي الأوضاع الإقتصادية القائمة اليوم في البلاد، بهدمه للمبادرة الخليجية، ويظل هذا الحزب شوكة حوت نحو أي تقدم للبلاد. ويقول الخبراء الاقتصاديون، ان استقرار الأقصاد السوداني يتطلب تخفيف الديون الخارجية، بتوفير مبلغ (6) مليارد دولار ليستقر صرف الجنيه. يلزمنا الصبر للوصول الى مرتبة رواندا في القارة الأفريقية، ولكن ليس بالمستحيل، لأن لدينا الشباب من الجنسين ونمتلك الامكانيات من كل أنواع الثروات، للنهوض بالسودان الى مرتبة الرقي والتنمية.

[email protected]