قاصرو السودان في اليونان.. ناجون من الحرب والبحر محاصرون في المنفى

لاجئون سودانيون في مركز ايواء باليونان - منتدي الاعلام السوداني / صحيفة مواطنون
منتدى الإعلام السوداني
اليونان، 20 أكتوبر 2025، (مواطنون)- كان (أ. ع) ذو السبعة عشر عامًا، يحلم بالوصول إلى بريطانيا، لكنه اليوم يقيم في اليونان، يحاول تعلم اللغة ويمضي وقته في لعب الكرة مع سبعة من أبناء وطنه أو الانشغال بهاتف محمول متهالك في مركز رعاية القاصرين.
وراء صوته الهادئ تختبئ قصة معقدة، بدأت وهو ما يزال في الخامسة عشرة، لم يكمل منها سوى أربع سنوات في المدرسة الابتدائية، قبل أن تدفعه قسوة الحياة لترك مقاعد الدراسة لمزاولة أعمال هامشية، ليقرر لاحقاً عبور البحر والوصول إلى اوروبا من طبرق بليبيا.
في ليبيا، وجد (أ.ع) نفسه يعمل في المزارع ورعي المواشي مقابل الطعام فقط، بلا أوراق ثبوتية ولا حماية، إلى أن ساعده أحد الليبيين في الوصول إلى أحد المهربين. فحُشر ذات مساء مع ثلاثين آخرين في حافلة صغيرة لا تتسع سوى لثمانية أشخاص نحو الساحل، ثم أبحر في قارب متهالك بصحبة ٩٥ شخصاً، لم يُسمح فيه سوى بحمل كيس من تمر وزجاجتين من العصير والماء. بعد يومين من الخوف والعنف والازدحام وصل بهم القارب إلى جزيرة كريت، ومنها نُقل إلى مركز لجوء في مالاكاسا، ثم إلى مركز لرعاية القاصرين.
اليوم يعيش (أ. ع) في مركز للرعاية في اليونان، نجا من الحرب ومن البحر، لكنه لم ينجُ من ملاحقة القلق، فلا تعليم، ولا دعم أسري، ولا تواصل مباشر مع عائلته التي تقيم في منطقة بلا إنترنت، ولا يدري إن كان سيبقى بالمركز أم سيُغادر إلى مكان آخر. أيامه متشابهة، تتخللها ساعات قليلة من ذكريات الحرب والبحر وطول الطريق، ثم يستسلم للنوم.
حالة (أ. ع) ليست استثناءً، فهو واحد من نحو خمسين قاصرًا سودانيًا على الأقل، وصلوا مؤخرًا إلى اليونان.
قُصّر دون ذويهم في معركة اللجوء
ويشير عامل في مركز للاجئين، طلب عدم ذكر اسمه لأنه ليس مخولاً بالحديث، إن أكبر المشكلات التي يواجهونها هي أن القاصرين السودانيين يعلنون عن أعمار أكبر من أعمارهم، مما يضطر المسؤولين لعرضهم على الأطباء لتحديد سنهم الحقيقي. ويوضح العامل أن السبب الذي يدفع اولئك القصر لذلك، هو رغبتهم في الإسراع بالخروج من المعسكر للبحث عن عمل لمساعدة عائلاتهم في السودان، مما يفقدهم مزايا القليل من الخدمات المتاحة للقاصرين.
ويرى الرئيس الأسبق للجالية السودانية باليونان منصور شاشاتي، وهو صحفي أيضا، أن هؤلاء الأطفال ضحايا للحرب حتى قبل خروجهم من السودان. رأوا الموت وعرفوا الفاقة والجوع، وباتوا مستعدين لركوب المخاطر. أعمارهم وطريقة وصولهم جزء من الصدمات التي حلت بالسودانيين جراء الحرب. ويقول: “لا نعلم ما الذي سيحل بهم لكن ربما يكون وصولهم سالمين ضوء أمل نحو المستقبل”.
صدمة ثم ارتياح
كان وصول اللاجئين السودانيين المبحرين إلى اليونان تحدياً للبالغين الباحثين عن الأمان، لكن التزايد المفاجئ في ظهور قاصرين غير مصحوبين بذويهم قادمين مباشرة من مناطق الصراع بدّل المشهد.
ظاهرة لم تكن مألوفة للمجتمع السوداني في الشتات؛ ففي الوجدان الجمعي، يُعد ترك القاصر أسرته لركوب البحر بمفرده سعياً وراء مصير مجهول أمراً يكسر أعراف الحماية الأسرية والاجتماعية الراسخة.
أمام هذه الموجة الجديدة، يعيش قدامى السودانيين في اليونان حالة من الصدمة وقلة الحيلة. فبينما تتوالى الأسئلة الحائرة حول: كيف تمكن هؤلاء الأطفال من شق طريقهم عبر صحاري السودان وليبيا؟ وكيف غامروا بأرواحهم في مركب متهالك؟ ومع ذلك ورغم الحيرة والأسى، فإنهم يشعرون بارتياح صامت لوصول القصر سالمين دون أن يبتلعهم البحر.
شهر سبتمبر الماضي كان عصيباً للاجئين السودانيين وهم يتابعون أخبار الإعلام المحلي والدولي حول غرق أكثر من ١٠٠ لاجئا سودانيا في حادثتي غرق منفصلتين قبالة الساحل الليبي وهم في طريقهم إلى اليونان. عندما انقلب قارب قبالة ساحل مدينة طبرق شرقي ليبيا، منتصف سبتمبر الماضي، وكان يقل نحو ٧٤ شخصاً، معظمهم سودانيين، ولم ينج منهم سوى ١٣ شخصاً فقط، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في ليبيا.
هو الحادث الثاني في غضون أسبوع، إذ أعلنت المنظمة الدولية للهجرة، إن ٥٠ شخصاً على الأقل لقوا حتفهم بعد اشتعال النيران في قارب يقل ٧٥ لاجئاً سودانياً قبالة سواحل ليبيا يوم الأحد ١٤ سبتمبر، ولم ينج منهم سوى ٢٤ شخصاً.
من الحرب إلى السجن
تصاعدت أعداد اللاجئين السودانيين القادمين إلى اليونان بعد عام من اندلاع الحرب في السودان. ففي عام 2024 وصل نحو ألف لاجئ ثم تزايدت أعدادهم بوتيرة أعلى في صيف العام الحالي 2025 ليصل إجمالاً إلى نحو 5 آلاف لاجئا وفقاً لوزارة الهجرة اليونانية ومنظمة “دعم اللاجئين في بحر إيجا”.
غير أن الحلم بحياة آمنة بالنسبة للكثير من الشبان السودانيين الذين ينجحون في الوصول إلى الشواطئ اليونانية، سريعًا ما يتحول إلى كابوس آخر. ففي سجون تمتد من جزيرة كريت إلى فولوس في وسط البلاد، يقبع أكثر من 300 شابا ومراهقا سودانيا خلف القضبان، بتهمة “تهريب البشر”. جريمتهم الوحيدة أنهم قادوا أو ساعدوا في قيادة القوارب التي حملتهم ومن معهم نحو اوروبا.
يقول مصطفى أحمد، الناشط في مجموعة (متاريس) التي تضم جنسيات مختلفة وتنشط لمساعدة غرف الطوارئ في السودان ومساندة اللاجئين السودانيين في اليونان لـ (مواطنون): “يوجد حاليا في السجون اليونانية 310 لاجئاً سودانياً بتهمة تهريب البشر وهي جريمة خطيرة تصل عقوبتها للمؤبد.. جميعهم صغار السن من 18 إلى بداية العشرينات، وأيضاً بينهم 9 قُصر على الأقل”.
يضيف مصطفى الذي حضر عدة محاكمات كشاهد: “بُرئت ساحة 16 من المتهمين حتى الآن والمحاكم تستغرق وقتا طويلاً، إذ يتعين عليهم الانتظار في السجون 6 أشهر على الأقل قبل أن تبدأ المحاكمات”.
وأوضح أن ظروف السجن سيئة ولا تليق بأشخاص لم يرتكبوا جرماً، إذ يتم وضعهم مع عتاة المجرمين من القتلة وعصابات المخدرات. يقول: “اضطر بعضهم في سجن أفلونا إلى الإضراب عن الطعام لإبعادهم من المجرمين.. كانوا يشعرون بالخوف على انفسهم”.
وخلال إعداد هذا التقرير ذكرت القناة العامة اليونانية “ايرت” أن شرطة خفر السواحل في ميناء ايراكليون بجزيرة كريت جنوب اليونان، اعتقلت لاجئّين إثنين من السودانيين، 17 و16 عاما بتهمة تهريب البشر بمجرد وصول قاربيهما يومي 15 و16 أكتوبر الحالي.
تفاقم المشاكل
مع تزايد تدفق اللاجئين والمهاجرين خلال شهر يوليو الماضي أمرت الحكومة اليونانية بتجميد إجراءات اللجوء لمدة ثلاث أشهر، واعتبار كل من يصل البلاد من شمال أفريقيا عن طريق القوارب “مهاجرًا مخالفًا للقانون”، ويتعيّن احتجازه في مراكز احتجاز تمهيداً لإبعاده من البلاد.
وبموجب هذا الإجراء برزت مجموعة جديدة من اللاجئين السودانيين السجناء وهم من وصلوا بعد يوم 14 يوليو الماضي من ليبيا، وأودع أكثر من 80 لاجئا سودانيا منهم في مركز احتجاز “اميغداليزا” الذي يقع بالقرب من العاصمة أثينا.
ووثّقت منظمة دعم اللاجئين في بحر إيجا (RSA) الحقوقية، نهاية الشهر الماضي، أوضاعًا مروعة في مركز احتجاز “أميغذاليزا”، حيث يُحتجز طالبو اللجوء في حاويات متهالكة بلا كهرباء أو مياه، بعضهم ما زال يرتدي الملابس ذاتها التي وصل بها قبل أسابيع، في ظروف ارتفاع درجات حرارة خانقة في الصيف وانعدام النظافة والخدمات الطبية.
غير أن رئيسة منظمة هياس الحقوقية الدولية، المحامية ايلينا ساراندو أبلغت “مواطنون” أن بعض اللاجئين السودانيين قد أطلق سراحهم ونقلوا إلى مخيم مالاكاسا للاجئين لإكمال إجراءات اللجوء.
وكانت منظمة هياس من المنظمات التي تولت قضية السودانيين المحتجزين في مركز “اميغذاليزا”، بجانب منظمات أخرى، ونجحت في وقف قرارات الترحيل.
وأكدت أن مشكلة احتجاز اللاجئين السودانيين قد انتهت عملياً مع انتهاء فترة تجميد إجراءات اللجوء منتصف شهر اكتوبر الحالي، وأن من تبقى منهم سيحتاج بعض الوقت للمغادرة ونقلهم إلى معسكرات اللاجئين.
اعتراف ومجابهة حياة صعبة
برغم الظروف، تبقى فرص الحصول على اللجوء الرسمي في اليونان مرتفعة نسبيًا بالنسبة لبعض الجنسيات ومن بينهم السودانيين. فبحسب وزارة الهجرة، بلغ معدل قبول طلبات اللجوء في النصف الأول من 2025 أكثر من 71%، وحققت الجنسيات السودانية والسورية والأفغانية واليمنية نسب اعتراف تجاوزت 98%.
لكن الطريق إلى الاعتراف ليس سهلاً، إذ يضطر كثير من السودانيين للانتظار لأشهر في المخيمات قبل النظر في طلباتهم، على الرغم من أنهم مشمولين فيما يسمى “مسار الاجراءات السريعة” .
ويتوزع اللاجئون على العديد من المخيمات في مختلف أنحاء البلاد من بين 24 مخيمًا في اليونان، بعضها مغلق لا يُسمح بالخروج منها قبل صدور قرار اللجوء، وأخرى مفتوحة نسبيًا. لكن حتى بعد قبول طلبات اللجوء، تُغلق الأبواب الأخرى في وجوههم، إذ يُطلب منهم مغادرة المخيم فورًا دون أي دعم للسكن أو فرص لتعلّم اللغة أو الاندماج في المجتمع.
وبذلك يجد كثير من السودانيين أنفسهم في مساكن مهجورة بلا ماء أو كهرباء، أو يعملون في ظروف غير قانونية بأجور متدنية. ومع أن اليونان تعاني نقصًا حادًا في العمالة إلا أن حاجز اللغة، وغياب الاعتراف الرسمي بالمهارات، وصعوبة الحصول على المعلومات، يحول دون اندماج اللاجئين في سوق العمل.
هكذا، يتأرجح اللاجئون السودانيون بين جحيمين: جحيم الحرب في وطنهم، وجحيم الاغتراب القسري في أوروبا. يموت بعضهم في البحر قبل أن يبلغ الحلم، ويُحتجز آخرون في انتظار اعتراف أو حكم. أما من نجا ونال الحماية، فيواجه حياة هامشية بلا لغة أو مأوى ثابت أو مستقبل واضح.
في نهاية المطاف، تظل معادلة اللجوء كما هي: موت محتمل في البحر، أو حياة مؤجلة خلف القضبان، او التهميش في سبيل حياة آمنة كريمة مفترضة، لم تأتِ بعد.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (مواطنون) لرصد وتوثيق ظاهرة القاصرين السودانيين الذين فرّوا من الحرب في السودان إلى اليونان عبر طرق الهجرة غير النظامية دون ذويهم، ليجدوا أنفسهم بين الاحتجاز والسجن في ظروف قاسية أو العيش في مراكز رعاية بلا أفق. وبينما ترتفع نسب قبول طلبات اللجوء، تظل حياة اللاجئين السودانيين في اليونان معلّقة بين الخوف، والانتظار، والتهميش.
