في العيد المئوي لمشروع الجزيرة.. سكان الكنابي من قلب المشروع إلى التهميش والنسيان

مركزية مؤتمر الكنابي بولاية الجزيرة -الصورة صفحة المركزية على الفيسبوك
عرض: سليمان سري
ظلت قضية سكان “الكنابي”، العمال الزراعيين في مشروع الجزيرة، حاضرة في كل المنابر على امتداد تاريخ المشروع الذي أكمل مئة عام منذ تأسيسه، كأحد أضخم المشاريع الزراعية في إفريقيا والعالم العربي، و”القلب النابض” الذي غذّى الاقتصاد السوداني لعقود.
لكنها مرت بمراحل وتطورات مختلفة، بدأت أكثر حدة وتصعيداً، لتتحوّل من قضية إدارية وخدمية ومطلبية إلى قضية وجودية مرتبطة بالحقوق في المواطنة الكاملة.
وبرز هذا التهميش والإقصاء بشكل أوضح، بحسب إفادات السكان أنفسهم في وسائل الإعلام، منذ صدور قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005، الذي أعاد هيكلة إدارة المشروع دون الاعتراف بقضية سكان الكنابي كجزء من البنية الاجتماعية والاقتصادية للمشروع.
هذه المعطيات انعكست على سكان الكنابي الذين بدأوا ينظمون أنفسهم في كيان موحد يمثلهم ويعبر عن مطالبهم عبر مختلف المنابر المدنية والسياسية، غير أن مطالبهم لم تجد الاستجابة مع أزمة المشروع المتدهورة أصلا، لتأتي حرب 15 أبريل 2023، وتفاقم من وضع سكان الكنابي.
وفي هذا الصدد طرحت ورقة عن دور العمال الزراعيين من سكان الكنابي، في مؤتمر بمناسبة مرور مئة عام على تأسيس مشروع الجزيرة، أحد أضخم المشاريع الزراعية في إفريقيا والعالم العربي، و”القلب النابض” الذي غذّى الاقتصاد السوداني لعقود، وذلك يومي الجمعة والسبت 25 ــ 26 من الشهر الجاري، بتنظيم من مجموعة من الخبراء والباحثين المختصين.
وسلّط الأمين العام لمؤتمر الكنابي، جعفر محمدين عابدين، الضوء في ورقته التي قُدّمت ضمن فعاليات المئوية، على مآساة إنسانية واجتماعية ممتدة لسنوات بامتداد تاريخ المشروع، كاشفًا عن واقع التهميش الذي يعيشه أكثر من مليون سوداني في قرى “الكنابي” المنتشرة على طول امتداد المشروع، والتي تمثل شواهد حية على الإقصاء التاريخي والاجتماعي.

العمود الفقري
منذ انطلاقه في عشرينيات القرن الماضي، قام مشروع الجزيرة على سواعد العمال الزراعيين الذين حرثوا الأرض، زرعوا، وحصدوا، لكنهم ظلوا خارج دائرة الحقوق والتمثيل.
ويعمل هؤلاء في ظروف هشة تحت ثلاث صيغ مرهقة، تتمثل في شراكة موسمية مع المزارعين بلا ضمانات، نظام الإيجار (الدقونتي) بمخاطر كاملة يتحمّلها العامل، أجرة يومية لا توفّر أي أمان وظيفي أو حد أدنى من الكرامة.
مؤتمر الكنابي… صوت المهمّشين
يُعد مؤتمر الكنابي أحد الأجسام القليلة التي نشأت من داخل هذه المجتمعات، ويمثل منصة للدفاع عن حقوق السكان في التعليم، السكن، الصحة، والكرامة.
ورغم هذا الدور المحوري، لا يملك العمال الزراعيون أي تمثيل في إدارة المشروع، في مقابل تمثيل رسمي للمزارعين بنسبة تصل إلى 40% في مجلس الإدارة، مع غياب تام للنقابات أو الأجسام المدافعة عن حقوقهم.
أوضحت الورقة أن غالبية عمال الكنابي يعيشون في تجمعات تُعرف بـ”الكنابي”، وهي مساكن مؤقتة قائمة على أطراف قنوات الري، تفتقر لأبسط مقومات الحياة، بلا كهرباء، أوصرف صحي، أو طرق معبّدة. ويشرب هؤلاء السكان من مياه القنوات مباشرة. لا توجد مدارس أو مراكز صحية. انعدام كامل لخدمات الإرشاد أو الحماية من مخاطر المبيدات.
وتقول الورقة أن سكان الكنابي يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، يُشار إليهم أحيانًا بـ”الوافدين”، رغم استقرارهم في المنطقة منذ أجيال ومساهمتهم الجوهرية في اقتصاد المشروع.
تهميش سياسي ومجتمعي:
تُقدّر الورقة التي أعدها الأمين العام لمؤتمر الكنابي، جعفر محمدين عابدين، عدد الكنابي في مشروع الجزيرة والمناقل بنحو 2095 كنبو، يسكنها أكثر من مليون مواطن. ورغم هذا الرقم الضخم، فشلت الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في تبني قضاياهم، لا في الخطاب ولا في البرامج. وتُعزى هذه الفجوة إلى ضعف الرؤية الاجتماعية لدى النخب، وغياب التنظيم الذاتي داخل المجتمعات المهمشة.
ودفعت الورقة برؤية متكاملة تنتقل من الإغاثة إلى التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وتشمل:
- حلول جذرية:
تتمثل هذا الرؤية في تمليك الأراضي للعمال الزراعيين في التوسعات المستقبلية. وتحويل الكنابي إلى قرى نموذجية معترف بها، تتوفر فيها الخدمات الأساسية.
- حلول إسعافية:
تشير الورقة إلى أن الحلول الإسعافية تكون بتمثيل العمال في إدارة المشروع، إنشاء نقابات وأجسام تنظيمية مستقلة، تخطيط الكنابي رسميًا، وإنشاء صندوق وطني للإسكان. بمساهمة الدولة والقطاع الخاص والمنظمات، فضلاً عن إطلاق برامج توعوية صحية وزراعية، وإنشاء مراكز تدريب مهني، ومحو أمية. ودعم الطلاب من أبناء العمال، وتنفيذ فعاليات ثقافية تعزز الاندماج المجتمعي والسلام الاجتماعي.
- الإحصاء كمدخل للإصلاح:
أولى خطوات الإصلاح، وفق الورقة، تبدأ بمسح شامل وتوثيق علمي لأوضاع الكنابي، لتشكيل قاعدة بيانات تُبنى عليها سياسات تنموية عادلة وشاملة. حيث تشير الإحصائيات الأولية (وفقًا لمركزية مؤتمر الكنابي) إلى وجود نحو 2095 كمبو في مشروع الجزيرة والمناقل.
مئوية للمراجعة لا للاحتفال فقط
تؤكد الورقة أن مئوية مشروع الجزيرة لا يجب أن تكون لحظة استعراض لتاريخ زراعة القطن أو القمح، بل محطة مراجعة أخلاقية وتنموية لإعادة الاعتبار لمن حملوا هذا المشروع على أكتافهم لعقود ولم يحصدوا سوى التهميش.
ويقول الأمين العام لمؤتمر الكنابي جعفر محمدين: “لا يمكن الحديث عن إعادة تأهيل مشروع الجزيرة دون أن تكون العدالة الاجتماعية في صلب العملية، وإلا ستظل أي خطة عاجزة عن بناء سودان جديد قائم على الإنتاج والكرامة”.
ويأمل القائمون على مؤتمر الكنابي في أن تكون هذه المئوية فرصة للانطلاق نحو سياسات إصلاحية تُنصف الكنابي وتُعيد دمجهم في مشروع وطني شامل.