فيصل محمد صالح: لماذا يُعايروننا..؟

تكلم الناس عن القرارات الاقتصادية بما فيه الكفاية، ووجّهوا سهام النقد للعشوائية التي تظهر بها وغياب التخطيط والرؤية المُوحدة، وعن…

بقلم: فيصل محمد صالح

تكلم الناس عن القرارات الاقتصادية بما فيه الكفاية، ووجّهوا سهام النقد للعشوائية التي تظهر بها وغياب التخطيط والرؤية المُوحدة، وعن عدم قدرتها على تحقيق النتائج التي يتحدّثون عنها، بحيث لم يعد من فائدة لمزيدٍ. لكننا نتحدّث هنا عن الخطاب المصاحب للقرارات، ومُجافاته للمنطق السليم، ثم انفلاته واتجاهه نحو مُعايرتنا بفقرنا وماضينا وكأن مصدري هذا الخطاب قادمون من المريخ، أو قضوا طفولتهم وصباهم بين مدائن أمريكا والريف السويسري. لماذا يُعايروننا بأنّنا لم نكن نملك قميصين، ولم نأكل البيرقر والهوت دوق، وسنذهب للمقابر “من الجوع طبعاً” إن أعادونا لعهد ما قبل الإنقاذ؟!
عشنا طفولتنا وصبانا في هذا البلد، ومعظم السُّودانيين، ونحن منهم، أبناء عُمال ومزارعين ورعاة، لكن اجتهد أهلنا بقدر ما وسعتهم الطاقة، وبالضغط على أنفسهم ليتيحوا لنا فرص التعليم والترقي. وساعدنا النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد بالتعليم المَجّاني ويسر الحياة وسهولتها، فما لاقينا جوعاً ولا مَسغبةً. كان أغنياء البلد يُعدون على أصابع اليد ويعرفهم كل الناس، ولم يكن أحدٌ من مسؤولي وكبار قادة الإنقاذ من بين ذريتهم، ولا كنا أيضاً كذلك، ولا نرى في ذلك بأساً ولا مَنقصةً، بل هو عند ذوي البصيرة السليمة مدعاة للفخر والاعتزاز، فلماذا يُعايروننا بالماضي؟!
كان مرتب العامل ومُستوى معيشته في الحد المَعقول الذي يُوفِّر الحياة الكريمة وفق ظُروف تلك الفترة، يسكن ويأكل مما يأكل منه مُتوسِّطُو الحال، ويكسي عياله في الأعياد والمُناسبات، ويُسافرون في الإجازات للموطن الأصلي مُزوّدين بالمصاريف والهدايا للأهل. وكان نظام التكافل الاجتماعي للأُسر المُمتدة كفيلاً بمُعالجة الاحتلالات التي قد تحدث في بعض فروع الأسرة، بالدعم والمساندة واستضافة الطلاب القادمين من القرى في بيوت الأهل بالمدينة… فلماذا يعايروننا؟!
كانت بيوتنا مأمونة ومأمنة، ومحفوظة برعاية الرحمن واجتهاد ومُثابرة أهلنا، يضغطون على أنفسهم ويبخلون عليها بكثيرٍ من النعم، ليوفروا لأبنائهم وبناتهم ما يحتاجونه حتى لا يبدون أقل من الآخرين. لبسنا “على الموضة” كما يلبس غيرنا، بنطلون الشارلستون وقميص “تحرمني منك”، ودخلنا السينما وأكلنا الباسطة كُل خَميس، واقتنينا الكتب والمجلات، واحتفلنا بالكريسماس ورأس السنة على ألحان فرق الجاز وحفلات وردي وود الأمين…. فلماذا يعايروننا؟!
لست من أسرى الماضي، ولا من المنغلقين فيه، ولا من الكافرين بحاضر شعبنا ومُستقبله، أو من الذين يُقلِّلون من همة شبابه ونضارة عُقولهم وعظمة تضحياتهم، لكن من الظلم أن يُصوِّر لهم البعض الماضي وكأنه كان من زمانات التيه والضياع. هؤلاء لا يجدون في ما يُقدِّمونه الآن ما يستطيعون الفخر به، فلم يجدوا سبيلاً غير ذم الماضي.
أضعنا في مَاضينا فرصاً ذهبيةً كان يُمكن أن تأخذ بلادنا إلى مقدمة الأمم، وافتقدنا الرؤية السليمة المُفكِّرة، وأقعدت بنا الخلافات السِّياسيَّة وتقلب النظم، لكننا لم نكن شعباً من الشحاذين أو الجوعى. كنا نعيش مُتوسِّطي الحال مُقارنةً بالشعوب من حولنا، وأنتجنا فناً ورياضةً وثقافةً لا تزال صالحةً للاستخدام، وحين دعانا داعي الوطن لم نتأخّر، وفديناه بأغلى أبنائنا، ومددنا يد المُساعدة لمن احتاجها من الشعوب حولنا… فلماذا يعايروننا؟!
التيار