فضيلي جمّاع: تعلموا لعبة الشطرنج من إثيوبيا

أديس أبابا – أو الزهرة الجديدة كما تقول ترجمة إسمها. كنت هناك في الفترة بين 18 يناير و7 فبراير المنصرمين. لم أزرها بقصد السياحة. ولم أقصد …

رؤساء وزراء اثيوبيا السابق والجديد(وكالات)

 

فضيلي جمّاع

 

أديس أبابا – أو الزهرة الجديدة كما تقول ترجمة إسمها. كنت هناك في الفترة بين 18 يناير و7 فبراير المنصرمين. لم أزرها بقصد السياحة. ولم أقصد زهرة أفريقيا كما تؤمها وفودنا في السياسة، يسألونها أن تبرنا بحكمتها في حل معضلات الحكم. كلا..بل جئتها لغرض خاص، فكنت أن رأيتها بعين المتفرج على الجمال في تؤدة وراحة بال. أخرج من غرفتي على كيفي، وأعود إليها كيفما اتفق! فإنّ لشوارع أديس أبابا المزدحمة بالبشر، ولمقاهيها ومطاعمها الشعبية نكهةً أفريقية خالصة. وفي موسيقاها التي تصدح من كل ركن ما يرسم في شوارعها أمامك غصن الزيتون الأخضر – رمز السلام.
أودّ أن أقول بادئ ذي بدء أنني من المعجبين بإنسان الجارة الشقيقة إثيوبيا ، وبتاريخها العريق، حيثما تيسر لي قراءة شذرات منه. ومعجب مثل سودانيين كثر برنين السلم الخماسي فيها إذ تصدح به حنجرة بلبلها الراحل تلاهون قسسا – الذي باعتقادي هو أفضل من تغنى برائعة شيخي خليل فرح "عزّة في هواك"..مثلما يطربني حد النشوة أداء أسطورة الهضبة الإثيوبية إستير أويكي! يخيل لي أن الأثيوبي تنطبق عليه مقولة المسرحي ألوادة أكويانو- من جمهورية بنين – عن إنسان أفريقيا عموماً إذ يقول: (نحن نكاد نكونُ أمةً من الراقصين والموسيقيين والشعراء.) لكن يجب أن تعرف أن الشعوب التي يجري الفنُّ في عروقها هي الشعوب التي حفرت ثقافاتها عميقاً في التاريخ الإنساني. وكذا إثيوبيا بتاريخها الذي يعود إلى حوالي ستة آلاف سنة!
دعاني لكتابة هذا المقال الخطى الوئيدة والواثقة التي تتقدم بها إثيوبيا في محاولة الخروج من جلباب الفقر والجوع والتخلف ، لتلحق بقطار التحضر والتنمية ، وهي تسجل أعلى نسبة نمو في العالم قاطبة – أمام الصين- لعامين على التوالي. وتنشيء في صمت واحداً من أكبر ستة سدود في العالم، والذي سيضمن لإثيوبيا رقعة زراعية تسد حاجتها في كثير من المحاصيل. إضافة إلى سد حاجتها من الكهرباء في كل شبر من البلاد. وبنفس الإيقاع الحضاري الهادئ تنتقل إثيوبيا – وبحوار ديموقراطي داخل منظومة التآلف الحاكم- من حالة اختناق إلى وضع جديد، تتم فيه عملية التسليم والتسلم بين الرئيس السابق ديزالين والرئيس الجديد أبي احمد بأسلوب حضاري يتفوق على كثير من بلدان العالم التي تحتكم إلى صندوق الإقتراع وكلمة الشعب. ولعلّ المدهش في رقعة شطرنج الحكم في إثيوبيا أنّ معظم لاعبيه من الشباب الذين لم يكملوا عقدهم الخامس بعد. ومعظمهم من حملة الشهادات الجامعية وفوق الجامعية. بل يكفي أن الرئيس الجديد يحمل ضمن شهاداته فوق الجامعية شهادة عن (الحوكمة)!! هل يدري ديناصورات الحكم في السودان وطغاته أنهم سرقوا أعمار أجيال بحالها وأضاعوا بلداً من أجمل وأغني بلدان أفريقيا ، وحولوا شعباً من أعف وأنبل شعوب العالم إلى ظاهرة من الفقر المدقع الذي أفرخ أمة من اللصوص ومصاصي الدماء؟!
دعونا نتعلم الحكمة من جارتنا إثيوبيا. تشبهنا شعوب القرن الأفريقي كلها حد التوأمة..ذلك لأننا جميعاً حفدة حضارة كوش- حيث أعطت أفريقيا إنسان العالم أولى الحضارات. ولا ينسى كاتب هذه السطور ما قاله لجمعية الكتاب الإثيوبيين إذ تشرّف بدعوة لحضور أحد اجتماعتهم. قلت لهم: (إن كل واحد/ واحدة منكم هو أقرب في الشبه للسمات السودانية منّي..ولعل ما يميزني من الحضور هو أنني جئت إليكم وأنا أرتدي الجبة والملفحة – الزي القومي لبلدي!) كنت وما زلت أعني ما أقول!ّ هم يشبهوننا حتى في التعدد الإثني والبيئي. لكنهم – على عكسنا تماماُ – إعترفوا بهذا التنوع فعلاً لا قولاً. وأطلقوا على تلك الإثنيات تسمية "شعوب"، معترفين بحقوقها في التنوع وأنّ هذا التنوع يصب في ماعون الهوية الإثيوبية الجامعة. فالإعتراف بخصوصية الإنسان الثقافية ومساواة الدستور له كمواطن ، له حقوق وعليه واجبات، غض النظر عن دينه ولونه وأصله..هذا التعريف جعل هذه الشعوب تضع إثيوبيا (الوطن الأم) في المربع الأول. فالرئيس الجديد لم يجلس على سدة الحكم لأنه من صلب اب مسلم ، ولا لأنه من قومية الأرومو التي تمثل فوق الثلاثين بالمائة من تعداد سكان أثيوبيا الذي هو على مشارف المائة مليون نسمة إن لم يكن قد بلغها بالفعل. وصل الدكتور الشاب أبي أحمد إلى مقعد قيادة بلاده بمواقفه السياسية والنضالية المشرفة ، وبتفوقه العلمي. وقد دعم موقفه في السباق الشاق لقمة هرم السلطة رجال ونساء من غير قومية أهله الأرومو. ويأتي بعد هذا كله من إذا قلنا لهم دعونا نعترف بحق الآخر المهمش في الحياة رموك بمفردتهم العقيم (جهوي)- وهم يقصدون بالطبع أنك (عنصري)!!
ولعلي أتقدم في خاتمة هذه الخاطرة بالشكر لأصدقاء ، عرفوا جمال الإنسان الإثيوبي وقربه منا ، وزاروا إثيوبيا أو عاشوا فيها. وكثيرا ما أفاضوا في الحديث عنها حد الوله، وكثيراً ما لاموني أنني أعرف إثيوبيا على الورق لكني لم أزرها. وإذ أكتب عنها بعد زيارتي الثانية لها، أود أن أشكرهم أن نصحوني بزيارة بعضي..وأخص هنا : المحامي البارع مولانا محمد المرتضى حامد والأستاذ محمد عبد الله الأمين (اللورد) المحاضر بالجامعات العمانية والدكتور عبد الله حمدوك الأمين العام للمنظمة الإقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة والدكتور آدم الحريكة الخبير الإقتصادي بالمنظمة ورجل الأعمال الشاب خالد سيد احمد وللصديقين الإثيوبيين : الدكتور قلم وإلياس – والأخير رغم أنه أمهرة ومن مواليد أديس أبابا لكنه عاش في السودان عشرين سنة وهو في طبعه وشهامته سوداني أكثر من سودانيين كثيرين. كما إنه عاشق للسودان حتى الثمالة!
أبارك للشقيقة إثيوبيا خطاها الحثيثة لتكون عضواً في المقعد الأمامي لصناعة الحدث في عالم اليوم . ولعلها وبعض دول القارة يعطوننا كل يوم بارقة أمل بأننا في هذا الجزء من العالم لم نعد ننتظر أن يشار إلينا ، بل نحن مشاركون في صناعة الحدث!

فضيلي جماع -لندن
[email protected]