فضيلي جماع: هاكم الوجه العنصري القبيح للدولة! ..

هنالك أربعة حقوق للإنسان أجمعت عليها الأديان وكل الشرائع العادلة، وهي كما لخصها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك John Locke (1704-1632)…

فضيلي جماع(ارشيف)

بقلم: فضيلي جماع

  

هنالك أربعة حقوق للإنسان أجمعت عليها الأديان وكل الشرائع العادلة، وهي كما لخصها الفيلسوف الإنجليزي جون لوك John Locke (1704-1632): حق الحياة وحق الملكية وحق الحرية وحق المساواة. وطبعاً متى غابت الحرية ضاع مع غيابها حق الإنسان في الحياة، بما في ذلك حق التملك وحق المساواة. لذا فإننا حين ننادي بالدولة المدنية الديموقراطية ، إنما ننادي بدولة المواطنة ، حيث يتساوى الكل في الحقوق والواجبات.

بيد أنّ دولة المواطنة ليست تنظيراً تبشر به أقلام المثقفين والساسة ، ويملأون به قاعات المؤتمرات ضجيجاً. إنه انحياز فكري وعملي للملايين التي تحلم بهذه الحقوق وتسعى لها في مسيرها ومصيرها. وحتى لا نقع فريسة التنظير الذي حذرنا منه ، دعونا ندخل في لبِّ الموضوع.

تعمد كاتب هذه السطور أن يلحق هذا الفيديو الصادم كشهادة إثبات لما ظل يكتبه في مواقع التواصل قرابة الثلاثة عقود ، بأنّ العنصرية في السودان عمود فقري في ثقافاته السائدة، وأنّ حضيض ما وصلته ماكينة العنصرية في بلادنا هو ما حملته في جعبتها دولة الإخوان المسلمين المسماة بالإنقاذ. فمنذ أن حلت ساعة الشؤم في 30 يونيو 1989م ونظام الإسلامويين الذي اغتصب سلطة الشعب يواصل تحريك دولاب الدم وضخ الحروب في الجنوب قبل فصله، وفي دار فور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق (الفونج). وهي حرب خلاصة ما يمكن أن توصف به أنها حرب عنصرية بالدرجة الأولى. والمؤلم أنّ سياسة هذا النظام تمثل المستنقع الآسن الذي يولد فيه جيل مريض لا يعرف قيمة الوطن ولا المواطنة!

نعرف أنّ العنصرية كعامل سلبي كانت ستأخذ دورتها في السودان وتضمحل مثلما في كل شعوب الأرض ، بانتظار أن تتلاقج كل عناصر الأمة المتباينة في بنية اجتماعية واحدة متماسكة يصبح التعدد فيها نعمة لا نقمة. كانت العنصرية بأشكالها البدائية والتي تعني رفض الآخر لعدم انتمائه لإطار القبيلة -كانت والحال كذلك – في انحسار كلما تقدم الوعي ومستوى التعليم. لكنّ مركزية الدولة عندنا وتمترسها بثقافة أحادية الإتجاه – الثقافة العربو- إسلامية ، وفقدان البوصلة لتلك الأنظمة المدني منها والعسكري في إرساء دولة المواطنةساعد على بقاء الحس القبلي والتمترس الإثني عبر أكثر من إثنتين وستين سنة هي عمر الدولة السودانية المستقلة. في هذا الشأن يقول الدكتور منصور خالد في سفره الضخم "السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام" : (حقيقة الأمر أنّ جميع النصوص التي أوردتها الدساتير حول المواطنة، لم تتبعها البتة إصلاحات في المناهج التربوية بالصورة ا لتي تعكس التنوع والتعدد بكل أبعاده التاريخية الراهنة، ولم يلحق بها تعديل على برامج الإعلام الجماهيري الذي تسيطر عليه الدولة حتى يعكس أوجه التنوع الثقافي المختلفة. لا مكان أيضاً لهذه الأجندات السياسية للأحزاب ، بالقدر الذي يعين على خلق وعي شعبي بين جماهير تلك الأحزاب بماهية التعدد.) ص 661

ولأنّ دولة المركز ظلت لا ترى الوطن ومواطنية بأبعد من أرنبة أنفها فقد ورثنا جيلاً من الساسة والمتعلمين وأدعياء الثقافة يغرقون في شبر ماء كلما جاء الحديث عن الهوية وما يتبعها من أسئلة تحدد مسار دولة المستقبل. وحصيلة ذلك هي نفي الآخر المختلف وإحاطته بنظرة دونية. فالآخر المختلف في جنوب السودان حين طالب بالمساواة في مؤتمر جوبا عام 1947 كان ساسة الشمال الأكثر وعياً ينظرون إليه بعين الريبة. في كتابه "مشكلة جنوب السودان" يقول البروفيسور محمـد عمـر بشـير : (إعترف جميع الأعضاء ما عدا عضو أو عضوين من زعماء الإستوائية، بأن الوحدة السياسية بين الشمال والجنوب ضرورة لا بد منها، وأيدوا الفكرة القائلة بأن الفصل بينهما أمر غير وارد). ورغم أن الآخر الجنوبي ظلّ يطالب بحقه المشروع في دولة المواطنة كانت ثقافة نخبة المركز أحادية الإتجاه تفرض رؤيتها – خاصة بعد نيل الإستقلال. فالجنوبي الذي يعلو صوته بين حين وآخر مطالبا بالفيدرالية يتم وصفه بأنه انفصالي وكنسي وغيرهما من النعوت. لم يفكر ساسة المركز يوماً واحداً أن ينظروا إلى الجنوب كشعوب لها ثقافاتها وهوياتها المختلفة والتي في حالة الوحدة ستكون إضافة للهوية القومية الجامعة بتنوعها الذي سيكون مصدر قوة. لذا قامت الحرب الأهلية في الجنوب والتي دامت نصف قرن – مع استراحة عشر سنوات توقفت فيها الحرب بموجب اتفاقية أديس أبابا 1972- 1982م.

ولا نحتاج لنقول كيف تحولت الحرب من حرب بين جيش مركزي وثوار من الجنوب (ظلت تسميتهم في أدبيات السياسة السودانية بالمتمردين) إلى حرب دينية جهادية في ظل نظام الإنقاذ. ما ندعم به حجتنا هو أنّ الإسلامويين وجدوا تربة صالحة لأطروحاتهم المريضة بجعل الحرب على الجنوبيين حرباً على عدو يحل قتله ، بل تنال الثواب على إبادته. لذا كان انفصال الجنوب تحصيل حاصل. من هنا – وبإعلانها الحرب على مواطنيها الذين تجمعهم بها مواثيق دولية تحت مسمى الوطن – بدأ إعلان الدولة عن وجهها العنصري القبيح. وإما انتهت حرب الجنوب باتفاقية نيفاشا تلتها حروب دار فور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والتي ظهر فيها الوجه العنصري القبيح للدولة.

عودة لشريط الفيديو العنصري: جاءني هذا الشريط كما وصل للمئات من أبناء وبنات وطننا العريض عبر مواقع التواصل الإجتماعي. والغالب أن هذا الشريط وأشرطة أخرى رديئة المحتوى يقوم بنشرها من يعرفون بكتائب الجهاد الإليكتروني للنظام والتي شاعت تسميتها في مواقع التواصل سخرية بها بالدجاج الإليكتروني. قد يكون القصد من الشريط جس نبض الشارع في قبوله أو رفضه لسياسة دولة المشروع الحضاري سيء الذكر، وقد يكون لأسباب أخرى يحتفظ بها زبانية أمن النظام في جعبتهم. بيد أننا يهمنا أن نقول في خاتمة هذا المقال أن هذا الشريط ينضح بكراهية للآخر المختلف وصلت إلى درجة عدم مراعاة حرمة الميت. ونضيف بأن الأشخاص الذين تنادوا لإهانة جثة الميت ونعته بصفات عنصرية يعف لساننا عن ذكرها – هؤلاء الأشخاص يمثلون فكر دولة الكيزان المنحط ولا يحسبون على إثنية بعينها. لكننا مطالبون جميعاً بمواصلة الحرب على المد العنصري الذي جذرته دولة الإخوان المسلمين في السودان عبر حروبها العنصرية ، حتى إذا ذهب هذا النظام المنهار لا نجد صعوبة في خلق وطن يعلن وحدته وتماسكه من خلال التنوع كعامل أول في بناء دولة المواطنة في العصر الذي نعيش.

فضيلي جمّاع
لندن في 17 سبتمبر 2018
[email protected]