عمر الدقير: نصيب الأسد ..

ربما لا يكون مجتمع الغابة بعيداً عن ما يجري في مجتمع سودان الإنقاذ، بل إنه في معظم الأحيان يمثل معادلاً له .. ففي الغابة – مثلما في سودان …

عمر الدقير(ارشيف)

بقلم: عمر الدقير

 

ربما لا يكون مجتمع الغابة بعيداً عن ما يجري في مجتمع سودان الإنقاذ، بل إنه في معظم الأحيان يمثل معادلاً له .. ففي الغابة – مثلما في سودان الإنقاذ – يتم الإحتكام إلى منطق القوة بينما تُطرَد العدالة إلى العدم، ومن هنا جاءت عبارة "نصيب الأسد" التي تعني الحصول على ما هو أكثر وغير مستحق على حساب الآخرين .. الأسدمُستنداً إلى قوته المادية – يأخذ نصيبه بمخالبه وأنيابه المغروسة في أجساد الضحايا، وإن كان يترك للضباع ما تبقى من فتات أشلاء الضحايا، وكذلك ظلَّ نظام الإنقاذ منذ عام 89 – مسنوداً بترسانة القوانين القمعية وفيالق الأجهزة الأمنية – يُحْكِم قبضته على السلطة، جاثماً بها على صدور السودانيين، ليتبادل منسوبو حزبه مواقعها ومنافعها مع ترك بعض الفتات لمن يشاركونه من حينٍ لآخر.

من المعروف أن نظام الإنقاذ، خلال مسيره السلطوي الإقصائي البئيس، حوَّر معنى الوظيفة العامة – خصوصاً ما يطلق عليه "الوظيفة الدستورية" – من تكليفٍ لخدمة الناس وإيفاءٍ لحقوقهم إلى تشريفٍ وبابٍ من أبواب المنفعة الشخصية، ولذلك بدا غريباً أن تحمل أخبار الأيام الماضية إعتذارات بعض رموز الإنقاذ عن تولي وظائف دستورية بعينها .. فهل كانت تلك الإعتذارات تعبيراً عن "الإستغناء" الناتج عن وعيٍ باحترام الذات ومعرفة حقوقها مقابل حقوق الآخرين، أم أنها جاءت في سياق استرخاص تلك الوظائف وعشم المعتذرين في الإستحواذ على نصيب الأسد مما يسمونه "كيكة" السلطة؟

الثابت أن منسوبي المؤتمر الوطني ظلوا يتكالبون على الوظائف الدستورية، صغيرها وكبيرها، و"يحفرون" لبعضهم بعضاً من أجل الظفر بها والتقلب في نعيمها، وتبادلها بما يشبه المقايضات الفئرانية أو ما يسميه علماء الأحياء "تبادلية الحك" .. وفي سياق هذا التكالب و"الحَفِرْ" ظلت عقدة عدم الإستحقاق حاضرة بقوة عند توزيع الوظائف – بحيث يحل الولاء مكان الكفاءة والجدارة – وذلك نهجٌ شائعٌ تستخدمه النظم الشمولية كوقاية من أي تمردٍ سياسي محتمل أو حتى جدل نقدي لسياساتها، لأن وضع أي شخصٍ في موقعٍ يعرف أنه لا يستحقه، أو لم تحمله إليه إرادة شعبية، يجعله يبالغ في تقديم فروض الولاء والطاعة ويفرط في النفاق من أجل البقاء في موقعه أطول فترة ممكنة، بعكس حالة الشخص الجدير بالموقع والمستحِق له فهو يجادل ويتمسك بشروطه الخاصة لأداء دوره، ولا يتردد في ترك موقعه عندما يشعر أن استمراره فيه يضعه في خانة المفارق لمبادئه وقناعاته.

الإستغناء – كقيمة أخلاقية – هو النأي بالنفس عن نزعة السطو والإستحواذ على حقوق الآخرين أو ما يفترض أن يتشاركوا فيه، ولا يكون الاستغناء ذا معنىً إلا إذا اقترن بالإستحقاق، فالإستغناء الحقيقي يكون عن الأشياء التي تكون في متناول اليد ومُستحَقة .. والإستحقاق لا يعني مجرد تهيؤ الظروف لحيازة الشيء، مهما كان، بل لا بدَّ أن يكون مقروناً بعدالة حيازة ذلك الشيء والجدارة به .. وغنيٌ عن القول أن الإستغناء والإستحقاق – بمعناهما الحقيقي – يرتبطان بسمو المناقبية الأخلاقية، وحين يشحُّ وجودهما في مجتمعٍ ما فذلك دليلٌ على تدني منسوب تلك المناقبية.

وعلى ذكر تعبير "نصيب الأسد" – بمدلوله الإقصائي والإحتكاري – فإن الشاعر الفرنسي بول فاليري يعتقد أن الأسد في حقيقته هو "قطيعٌ من الخراف المهضومة"، بما يعني أنه نتاج عملية تَمَثُّل للخراف أو الغزلان التي افترسها واستقرت في بطنه ثم تحولت بعد هضمها إلى خلايا في جسمه يستمدُّ منها قوته المتوحشة ليواصل افتراسه لقطعانٍ أخرى من الخراف والغزلان .. وقد يصلح هذا الخيال الشاعري – في وجهٍ من الوجوه – كمقاربة لما يفعله نظام الإنقاذ بالسودانيين، فهو يتغذى على ما يمتصه من دمهم وعرقهم وما يصادره من حقوقهم المعنوية والمادية، ولكنه لا يستجيب لنداء محمود درويش الشهير: "خذوا حصتكم من دمنا وانصرِفوا"، بل يظلُّ متسلحاً بقوته العمياء وفاغراً فَمَهُ لامتصاص المزيد.

وأيَّاً كان الأمر، ما من أحدٍ يستطيع القول بأن مخالب الأسد وأنيابه القوية قد حسمت الصراع ضد أظلاف العزال الرخوة الصغيرة، فلا تزال الغابة ملأى بأسراب الغزلان. ورغم تواضع "نصيب الغزال" المتمثل في وجبةٍ عُشْبِيَّةٍ خفيفة تكفي جسمه الرشيق وتليق بقوامه الضامر ويستمدُّ منها جماله الذي طالما شُبِّهَ به جمالُ المرأة، والتي تأخذ من دمه عطرَها المِسْكِي (فإنَّ المِسْكَ بعضُ دَمِ الغزال – يقول المتنبي)، فإنه في الحقيقة لم يترك للأسد نصيباً غير التجشوء بعد الشبع ورائحة الجِيَف الكريهة .. وكذلك الحال هنا، فإنَّ السودانيين الشرفاء لم ينقرضوا ولم يستسلموا في صراعهم ضد واقع الإنقاذ الغاشم. وحتى لو جعلهم هذا الواقع يقرضون باطن خدودهم من الجوع، فإنهم في الحقيقة لم يتركوا للإنقاذيين "نصيباً" يُعْتَّدُّ به ما دام قارون لم يأخذ معه من كنوزه شيئاً إلى القبر وما دام الكفن بلا جيوب .. ورغم ما يبدو من صمتهم أمام ما يتعرضون له من انتهاكات وتَعَدٍّ على حقوقهم، فإن "صمت الشعوب مهما طال ليس خنوعاً أو تصالحاً مع الواقع الرديء، بل هو تجميعٌ لعناصر الحركة فيها"، كما يقول ريكاردت .. فالشعب في صمته يختزن أوجاع مخاض التغيير، ويظلُّ متشبثاً بأشواقه لتلك "اللحظة التاريخية" المضيئة مع وعدٍ غير مكذوب بولادتها من جوف الظلام.

[email protected]